الاوزاعي والسنة … “الحق محفوظ للكاتب”

يزعم الأوزاعى: “إن القرآن أحوج للسنة من السنة للقرآن.”؟! بينما تتكاثر الأسئلة والصراعات حول السنة والأحاديث النبوية، وحيث يقف المدافعون عن كتب السنة مواقف مستأسدة، يتهمون فيها خصومهم تهمة مدهشة أنهم (قرآنيون) يطرح الرافضون لتقديس السنة أسئلة موضوعية لا تجد لها مجيباً بل اتهامات بالتكفير لمن يطرحها حول حجية الاعتماد على كتب السنة، والاستناد لنصوصها في التشريع مثل:

لماذا لم تكتب الأحاديث المنسوبة للنبى محمد فى مكة أو المدينة؟

لماذا لم تكتب الأحاديث المنسوبة للنبى فى حياته وعصره؟

لماذا لم تكتب الأحاديث المنسوبة للنبى فى خلافة أبى بكر أو عمر أو عثمان رضي الله عنهم؟

لماذا لم يحدث علي بن ابي طالب كرم الله وجهه الأحاديث المنسوبة للنبى ؟

لماذا لم تكتب الأحاديث المنسوبة للنبى في كتاب واحد كالقرآن مثلاً؟

لماذا لم يحدث ذلك إن كانت تلك الاحاديث تمثل حجية وإلزام كالقرآن؟

لماذا لا نجد في التراث ما يؤكد حرص النبي على عدم توثيق أحاديثه الشفوية؟

بل لدينا على العكس ما يؤكد رفضه القاطع لتوثيق أحاديثه الشفوية، فقد جاء بـ(صحيح مسلم) فى (كتاب الزهد والرقائق) باب (التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم) الحديث رقم 3004 عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: “لا تكتبوا عني؛ ومن كتب عني غير القرآن فليمحه.” وجاء في سنن الترمذي في (كتاب العلم) باب (ما جاء في كراهية كتابة العلم) الحديث رقم 2665 عن أبي سعيد الخدري قال: استأذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا، وفى (مسند أحمد) جاء بالحديث رقم 10701 عن أبي سعيد قال: قال: رسول الله “لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ومن كتب شيئا سوى القرآن فليمحه.” كما جاء أيضاً فى (سنن الدارمي) الحديث رقم 450 عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: “لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن؛ فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه.”

هذا ويؤكد التراث أيضاً حرص الخلفاء الراشدين الأربعة على (عدم) كتابة التراث الشفوي للرسول كما ذكر الذهبى فى كتابه (تذكرة الحفاظ) أن أبا بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة الرسول وقال لهم: “إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها؛ والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً؛ فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه.”.

وجاء فى نفس الكتاب ما رواه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب، فلما أصبح قال: أي بنية هلمِ بالأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته، ووثقت به، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذلك.”.

وسجل نفس الكتاب للذهبي موقف عمر بن الخطاب الحاسم من كتابة ورواية الأحاديث، فقال أن عمر بن الخطاب حبس أبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصارى فى المدينة وقال لهم : “أكثرتم الحديث عن رسول الله.” وجاء فى كتاب ابن سعد المشهور (الطبقات الكبرى) أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: “إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها، فتركوا كتاب الله؛ وإني والله لا أُلبس كتاب الله بشيء أبداً.” وذكر ابن كثير فى (البداية والنهاية) الجزء الثامن صفحة رقم 107 قال عمر: “أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به. “

وورد فى (مسند أحمد) بالمجلد الرابع صفحة 64 “جاء عثمان فصعد المنبر ثم قال: لا يحل لأحد أن يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر.” وجاء فى سنن الدارمي بالجزء الأول أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقف فى الناس خطيباً فقال : “أعزم على كل من كان عنده كتابة عن رسول الله إلا رجع فمحاها، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم “.

الواضح والقاطع من تلك الاحاديث أن تدوين وكتابة أحاديث النبي كانت ممنوعة محرمة ومجرمة، ولم تتم لا فى زمن النبي ولا فى خلافة أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي رضي الله عنهم وأرضاهم، ولا حتى فى حكم بنى أمية الذى استمر تسعين عاماً.

ورغم أن عمر بن عبد العزيز هو أول من فكر فى كسر قاعدة الامتناع عن تدوين الحديث حين أمر أبى بكر بن حزم بكتابة الأحاديث النبوية عام 100 ه إلا أنه رحل عن الدنيا قبل أن يتحقق له ما أراد، حتى أن ابن شهاب الزهرى – الذى يعتبره الإمام مالك أول من دون الأحاديث النبوية وكان ممن أمرهم عمر بن عبد العزيز بكتابة الأحاديث – قال مصرحاً عن حاله وهو يدون الاحاديث ما نصه: “كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء.” كما قال ايضاً: “استكتبني الملوك فكتبت لهم.” !

ورغم ذلك فإن ما تم تدوينه على يد الزهرى ومن كانوا معه فى تلك الفترة لم يصلنا منه شيء وأول ما وصل لنا من كتب الحديث هو (موطأ الإمام مالك) المكتوب عام 158 ه الذي كُتب بأمر الخليفة العباسى المجرم أبى جعفر المنصور أو (أبو جعفر السفاح) الذى أمر الإمام مالك بالالتزام بتعليماته وضوابطه في كتابة الاحاديث، فقال له “تجنّب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشوارد عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة.” والمثير للدهشة أن مالك قال للخليفة أبي جعفر المنصور: “يا أمير المؤمنين؛ لا ينبغى أن نحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب.”!

ويلاحظ على مالك أنه قبل في الموطأ أحاديثَ مرسلةً لا يتصل سندها للنبى لكن خرج من والوا مالك من هذا المأزق بأن قالوا “إن مراسيل مالك ثقة.” ثم اتحفنا الإمام الشافعي بقوله الذى ذكره ابن الصلاح فى كتابه (علوم الحديث) صفحة رقم 14 “أصح كتاب بعد كتاب الله موطأ الإمام مالك.”!

فُتح باب كتابة الحديث على مصراعيه بعد الإمام مالك، فأصبح هناك كُتاب للحديث فى كل مصر من أمصار الدولة العباسية حتى جاء القرن الثالث الهجرى (عصر تدوين الأحاديث الذهبي) فظهر ما يسمى بـ (كتب أهل السنة الستة) أو كتب الحديث الستة، أو الكتب الستة، أو كتب الأمهات الست، وهو مصطلح يطلق على ستة كتب حديث معتمدة عند علماء أهل السنة والجماعة، كانت خمسة، أُلحق بها كتاب ابن ماجه فأصبحت تعرف بالكتب الستة، وكان ذلك على يد محمد بن طاهر المقدسي المتوفى عام 507 ه صاحب كتاب (شروط الأئمة الستة) والذي سار على منواله الحافظ عبد الغني المقدسي المتوفى سنة ستمائة هجرية، فضمن كتابه الكمال في أسماء الرجال رجال ابن ماجه كأحد الستة، ثم درج على هذا أصحاب الكتب، فقد كتب أحمد بن حنبل 164 ه ثم البخاري 194 ه والترمذي 200 ه وأبو داود 202 ه ومسلم 206 ه وابن ماجه 209 ه والنسائى 215 ه ثم ظهرت فى القرن الرابع الهجرى كتب جمع وتفسير الحديث النبوي الأربعة المعتمدة عند الشيعة كـ(الكافى) للشيخ محمد بن يعقوب الكليني المتوفي عام 329 ه والمعروف في أوساط الشيعة الإثنى عشريَّة بلقب ثقة الإسلام الكليني وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه وكتابي (تهذيب الأحكام- كتاب الاستبصار فيما أُختلف من الأخبار) للشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي المتوفي عام 460 ه… وهنا نتساءل:

كيف ينهى النبي عن كتابة الأحاديث، ويعصى المسلمون أوامره، ويلتزمون بأوامر سلطة بنى العباس؟

يحاول البعض الخروج من هذا المأزق بإدعاء أن النبي نسخ أمره بعدم كتابة الحديث عندما سمح بالكتابة لرجل يسمى أبي شاه كان يستمع لخطبة فتح مكة، وطلب من النبي كتابتها، فأذن له النبي كما جاء في الكتب – سنن أبي داود – كتاب العلم – باب في كتاب العلم – الجزء رقم 10- 649 “حدثنا مؤمل قال: حدثنا الوليد، وحدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قال: أخبرني أبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة يعني ابن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: لما فُتحت مكة قام النبي فذكر خطبة النبي قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي. فقال: اكتبوا لأبي شاه.”

وقال الحافظ في الفتح “يستفاد منه أن النبي أذن في كتابة الحديث عنه وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال : لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن. رواه مسلم؛ والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره والإذن في غير ذلك، أو النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد، والإذن في تفريقها أو النهي – متقدم – والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها.”

ورغم أن هذا الكلام يبدو متماسكاً إلا أنه لا يصمد أمام البحث التاريخى؛ فقصة سماح النبي بالكتابة لأبى شاه لا يمكن التسليم بها بسهولة؛ لأن راوى القصة هو أبي هريرة ذلك الرجل الغامض فى تاريخ المسلمين بما له وما عليه، وهو من ضربه عمر بن الخطاب ليمنعه من الرواية عن رسول الله وهو من هرب بمال بيت المسلمين في البحرين حين ولي عليها، وبافتراض صحة الحديث يمكننا القول أن رخصة النبي لأبى شاه بالكتابة رخصة خاصة بالرجل فقط، وخطبة فتح مكة تحديداً إضافة إلى أن كتابة الخطبة تمت أمام النبي نفسه وفى حضوره مما يجعل هذا الحديث الذى يُتعلل به للروي عن الرسول يُثبت أن المنع هو الأصل؛ بينما الأذن بالكتابة رخصة لرجل واحد في موقف واحد.

كذلك إذن النبي لعبد الله بن عمرو بن العاص لكتابة أحاديثه وأقواله فى صحيفة خاصة به يطلق عليها (الصحيفة الصادقة) أو (الصحيفة الصحيحة) التى سمح النبي لعبد الله بن عمرو بن العاص بكتابة الحديث فيها بقوله: “أكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق.” بعدما نهاه الناس عن كتابة الحديث كما جاء في الرواية التي رواها همام بن منبه عن أبى هريرة الذى يزعمون أنه كان لصيق النبي للتدليل على أن أمر النهي عن كتابة الحديث قد نُسخ، فعبد الله بن عمرو هذا أسلم في السنة الثامنة للهجرة وعمره خمسة عشر عاماً والنبي توفى في السنة الحادية عشر للهجرة أى أن عمر عبد الله بن عمرو بن العاص لم يتجاوز وقتها السابعة عشرة من العمر وهو ابن عمرو بن العاص الذى حارب الإسلام طويلاً حتى أسلم، وليس من المعقول أن يؤثر النبي ابن عمرو بن العاص، ويترك رجال كبار صحابته ليكلفه بمهمة خطيرة ككتابة أحاديثه التى تخص الدين، ويضع بين يدي حدث مثله صياغة وجدان ومصير الأمة!

وحتى مع افتراض صحة ذلك فإن رجلاً كالمغيرة بن شعبة يقول عن تلك الصحيفة التى كتبها عبد الله هذا عن النبي “ما يسرّني أن صحيفة عبد الله بن عمرو عندي بتمرتين أو فلسين.” حتى أن البخارى نفسه لم يهتم بتلك الصحيفة وكل ما رواه عن عبد الله بن عمرو بن العاص واحد وعشرين حديثاً لا غير، وروى مسلم عنه اثنين وعشرين حديثاً فقط، ولا يوجد لتلك الصحيفة أى مخطوطة أو أثر فى أى عصر من العصور في أي دولة من الدول الإسلامية أو غير الإسلامية .

وجاء فى صحيح البخارى – الجزء الـخامس – صفحة 512 عن بن عباس قال: لما حضر رسول الله وفي البيت رجال، فقال النبي : هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله قوموا عني.” وقال ابن عباس : لما حضر رسول الله وفي البيت رجال ، فقال النبي : هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، فقال بعضهم : إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله قوموا. قال عبيد الله: فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.” وأخرج البخاري في صحيحه ستة روايات بهذه الحادثة والتي حصلت قبل وفاة الرسول بأربعة أيام فقط، فعن ابن عباس قال: “يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله وجعه فقال: أتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: ما شأنه أهُجر؟ استفهموه . فذهبوا يردون عليه فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.”

فإذا كانت تلك الرواية صحيحة كما يزعم البخارى فلماذا يغضب اتباع البخارى من الذين يقولون لهم فى وجوههم “حسبنا كتاب الله” ولا يغضبون من الصحابة الذين قالوا نفس القول للنبي تقريبا.