من تجاربي السابقة في الحركة الإسلامية أنها دأبت على أن ترسل إلينا كل بضعة أعوام مبعوثا منها، واحدا أو أكثر، يكون حلقة اتصال بين المجموعة الخارجية وبين الحركة في البلد. ويتولى المبعوث منصبا شعبيا أو رسميا، ويكون دوره معلنا أو غير معلن لأعضاء المجموعة، أو قد يكون العلم به مقصورا على بعض أعضاء المجموعة فقط، بحسب هوى المبعوث. ولكن يصبح المبعوث معروفا بعد وقت قصير لدى جميع أفراد الجالية، سواء أكان منصبه دبلوماسيا أو شعبيا أو أمنيا أو خليطا من ذلك.
ويكون المبعوث عادة من شباب الحركة الإسلامية الناهض المتوثب الذي أسدى خدمات جليلة للحركة في الماضي، فتتم مكافأته بهذا المنصب المفيد. ويتفاوت المبعوثون في شخصياتهم ومناصبهم وطرائق عملهم، وفي مدى جهلهم بأحوال وتاريخ الجالية في بلد المهجر وأحوال المجموعة، ومدى نظرتهم الدونية إلى أعضاء المجموعة والجالية بصفة عامة، ونظرتهم الفائقة التقدير لأنفسهم ولقدراتهم. وغالبا ما يستقي المبعوث معلوماته عن الجالية والمجموعة من التقارير التي حررها من سبقوه (وهي غالبا تقارير ملونة بأهواء كاتبيها)، وأحيانا من مصادر شخصية ورسمية أخرى في الوطن، تتفاوت في دقتها ونزاهتها. وعادة لا يأبه المبعوث كثيرا لتجربة أعضاء المجموعة “المضمونين” الذين لبثوا في بلدان المهجر عشرات السنين، بل كثيرا ما يكون كسب ود المعارضين البارزين بشتى السبل أهم للمبعوث من التعاون مع إخوانه في المجموعة.
ويحرص المبعوث على أن ينجز عمله بصورة تفوق من سبقوه، وبمخطط جاهز يرغب في تطبيقه بأكبر سرعة ممكنة، لأن مدة إقامته في البلد محدودة عادة. ويبدو أن المخطط الذي يتفق عليه المبعوثون جميعا، على اختلاف أمزجتهم، يطبق في كل بلد دون مراعاة للتباين الشاسع في الظروف من بلد إلى آخر، ولا لاختلاف الظروف بين الوطن وبلدان المهجر، ولا سيما بلدان الديمقراطية الغربية، ولا حتى لتغير الظروف في الوطن نفسه. ويتلخص المخطط، المنقول من التجربة السابقة في الوطن، في تفتيت كيانات الجالية القائمة وتذويبها والسيطرة عليها وتحويلها إلى كيانات شبحية وهمية، معظمها مجرد أسماء ولافتات لا عضوية حقيقية لها، تدار عن بعد، ولا تتقيد بنظامها الأساسي، ولا تعقد اجتماعات عامة سنوية، ولا يدفع أعضاؤها اشتراكات – لأنها تمول خارجيا. والكيانات التي لا يستطيع المندوب السيطرة عليها يمكنه شراء “تعاون” مسؤوليها بثمن بخس، ومن يحتاج إليه المبعوث السامي من أفراد الكيانات يمكن تدبير راتب زهيد له بصفة ما. ثم يتم تجميع تلك الكيانات في إطار “لجنة تنسيق” أو “كيان جامع”، خاضع كليا لتوجيهات المبعوث السامي، يصبح ممثلا زائفا للجالية في بلد المهجر. وليس للمبعوث السامي وقت يضيعه في التعامل مع كيانات ديمقراطية حقيقية يمكن أن تنشأ منها أي معارضة، فليست للديمقراطية أولوية عنده أو عند من ابتعثوه.
وتتكرر القصة برتابة مملة: يأتي المبعوث متوددا في البداية لأعضاء المجموعة، الذين يستبشرون بمقدمه الحميد، ولا يلبث – بعد التغلغل بينهم – أن يبدأ في إعادة ترتيب أوضاع المجموعة والجالية وفقا لرؤيته التي لا تختلف كثيرا عن رؤية سابقيه ولكن تختلف في طبيعة الشخصية الجديدة. ثم لا يلبث أن يميل إلى فئة من أعضاء المجموعة دون أخرى، ممن يطيعونه في كل صغيرة أو كبيرة (yes men and women)، وممن لهم طموحات في الوطن أو في بلد المهجر يمكن للمبعوث السامي تحقيقها، أو مصالح يمكن له أن يعرقلها إذا أراد. ويستطيع المبعوث بالطبع أن يستبدل هذا بذاك في أي وقت (“تعز من يشاء وتذل من يشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير”). والنتيجة هي انتفاش المجموعة بعضوية لا ملامح لها، ومناصرين لا قناعة لديهم، كالطبل الذي تكفي وخزة واحدة لتمزيقه إربا متى ما انعدمت المكاسب التي تجمع بين أطرافه.
ولا يخضع المبعوث لأي رقابة أو مساءلة من أعضاء المجموعة، لأنه ليس معيّنا من جانبهم، وقد لا يكون عضوا في مجموعتهم من الناحية الرسمية. ولا تخضع اتصالاته بالحركة في الوطن وما ينقله إليها من معلومات وتقارير لرقابة من المجموعة، ولا تكون معلومة بالضرورة لدى أفراد المجموعة أو مسؤوليها. فليس لأعضاء المجموعة حول ولا قوة إزاء المبعوث السامي. ولا يخضع المبعوث لمساءلة حقيقية ممن بعثوه، لأنهم يعتمدون كليا على التقارير التي يرسلها إليهم، كما أن لديهم من شؤون البلاد في الداخل ما يليهم عن النظر المتعمق في شؤون الخارج. وبالنتيجة ليست على المبعوث مساءلة حقيقية فوقية أو تحتية.
وسواء أكان المبعوث في منصب رسمي أو شعبي، يكون له نفوذ كبير لدى السفير، وقد يكون نفوذه واتصالاته في الوطن أكبر من نفوذ السفير واتصالاته، لا سيما إذا كان السفير من غير أعضاء الحركة. والسفير الحصيف هو الذي يستطيع التعامل مع المبعوث السامي بلباقة بحيث لا تتصادم رغباتهما، والأفضل هو أن يترك للمبعوث الحبل على الغارب فيما يخص الجالية ويتفرغ لما يخص النشاط الدبلوماسي البحت. أما السفير الأحمق – أو الدبلوماسي الأحمق – فيدخل في نزاع حتمي مع مبعوث العناية الإلهية، يعود منه خاسرا ملموما محسورا، أو مطرودا.
وقد تطورت الأوضاع السياسية في السودان تطورا كبيرا مقارنة بأيام الإنقاذ الأولى، على الأقل من حيث الشكل، بعد أن تم من التمكين للحركة ما تم، وإن لم يبلغ التطور ما يرضي كل طموح – وهذا ما لابد من الاعتراف به. فقد أصبح هناك مجال واسع نسبيا للنقد وحرية الرأي، في حدود معلومة، وأصبحت العلاقة مع الآخر سلمية عادة، ما دام لا يحمل السلاح. ولكن أسلوب التعامل مع الجاليات ومع مجموعات الحركة الإسلامية في الخارج لم يتطور أو يتحضر قيد أنملة، بل لعله ازداد سوءا. ولعله كلما استقرت الأحوال للحركة في الداخل، كلما قل اهتمامها بما يجري لعضويتها في الخارج.
وفي اعتقادي المتواضع أن سياسة الحركة في الخارج سياسة قصيرة النظر، قائمة على التزييف وسلب الإرادة، فهي تكفي الحركة شر المعارضة في الخارج مؤقتا بأقل جهد، ولكن بتكلفة باهظة على المدى البعيد، حيث تخسر الحركة عضويتها الحقيقية ومناصريها الحقيقيين وتكسب عضوية زائفة لا رأي لها ومناصرين منتفعين لا عقيدة لهم. والله أعلم.
فؤاد العجباني-فينّا، النمسا
21/10/2012
مقالات فؤاد العجباني>>
error: Content is protected !!