في يوم 21 أكتوبر 1964 سطر التأريخ أعظم الثورات الجماهيرية العربية، هبّ الشعب السوداني- كلّه- بمختلف أحزابه، وألوانه العرقية، إلى الشارع، وبصوت واحد، أطاح بالحكم العسكري، الذي تصرف قادته بمنتهى الحكمة، وأسلموا الزمام بسلاسة، وتنحوا في صمت كامل.. وبدا أن الشعب انطلق في مسار الحرية من جديد.. لكن إلى أين؟!!
الاحتفال بعد شهر واحد!!
بعد شهر واحد من نجاح ثورة أكتوبر الشعبية قررت الحكومة الاحتفال بها رسمياً.. أقيم الاحتفال في ميدان فسيح (في موقع نادي الأسرة بالخرطوم حالياً).. نصبت منصة عالية جلس عليها كبار رموز الحكومة..
نُظمت طوابير عرض النقابات والمنظمات المجتمعية لمختلف الفئات.. كان طابور كل نقابة أو منظمة أو حتى مدرسة يحمل أعلام السودان، ولافتات قماش كبيرة مكتوب عيها اسم النقابة أو الجهة.
من بين هذه النقابات كانت نقابة عمال الخطوط الجوية السودانية (سودانير).. عددهم لم يكن كبيراً أكثر قليلاً من عشرة.. يحملون لافتة ضخمة مكتوب عليها (التطهير واجب وطني).. كان وفد النقابة يسير بصمت في طابور العرض إلى أن حاذى المنصة الرسمية- فجأة- توقف عن السير، والتفت جانباً في مواجهة المنصة.. ووجَّه اللافتة الكبيرة أيضاً تجاه المنصة، وانطلق في هتافات متشنجة (عبد الباقي عدو الشعب.. عبد الباقي عميل).. تجمد طابور العرض في انتظار تحرك وفد نقابة (سودانير) لكنهم تسمروا في مكانهم، واستمروا في هتافهم قبالة المنصة.. أعضاء الحكومة الجالسون في أعلى المنصة أشاروا إليهم أن قد سمعنا هتافكم ومطلبكم مجاب.. وطلبوا منهم مواصلة سيرهم.. فاستدار الوفد العمالي الثائر، وأكملوا طريقهم بعيداً عن المنصة..
في صباح اليوم التالي.. وفي أول نشرة إخبارية الساعة السادسة والنصف صباحاً.. أذاع راديو أم درمان الخبر (بيان من الحكومة يعلن إقالة عبد الباقي مدير عام الخطوط الجوية السودانية سودانير..).!.
السيد عبد الباقي محمد كان أول مدير وطني للخطوط الجوية السودانية، تميّز بالكفاءة والخبرة حيث عمل فترة في الخطوط الجوية البريطانية، وتحفظ له ذاكرة سودانير أعظم الإنجازات والنجاحات، كل ذلك لم يشفع له في مواجهة شعار (التطهير واجب وطني).. الذي جعل مجموعة من العمال المسيسيين قادرين على إرغام الحكومة على الإطاحة بمديرهم العام..
ثالثة المخازي العشر!!
قصة إقالة مدير (سودانير) بعد شهر واحد من نجاح ثورة 21 أكتوبر، كانت صافرة إنذار مبكر لفصل جديد من الفشل في إدارة السودان.. كانت تلك (ثالث المخازي العشر)، الحملة المدمرة للخدمة المدنية تحت شعار (التطهير واجب وطني).. وتغنى بها أحد أبطال الأكتوبريات الفنان محمد وردي في أغنيته الشهيرة:
هتف الشعب من أعماقو
التطهير واجب وطني
والحرية في أرض بلادي
للأحرار بسمة وطني
حقوق المرأة الكانت ضايعة
عادت وزانت رفعة وطني
من أهداف ثورتنا..
حماية جيرتنا.. سلامة وحدتنا
هيا هيا..
هيّا حيّوا الثورة
وشمّروا ساعة الجِد.. ساعة الجَد.
الشعار طرحه اليسار السوداني بعد ثورة أكتوبر، ولقي رواجاً شعبياً ساندته كل الأحزاب، وفي طوفان العواطف الثورية بدأت حملة منظمة للإطاحة برموز الخدمة المدنية تحت قهر الوساوس السياسية.. كثير من الذين أطاح بهم شعار (التطهير واجب وطني) لم يكن لهم نشاط، أو انتماء سياسي.. وكانوا من أكفأ قيادات الخدمة المدنية، لكنهم راحوا ضحية الكيد ربما الشخصي المتستر بأثواب الثورية الحمقاء.
حساب الخسائر هنا لا يمكن قياسه بعدد الذين شملهم شعار (التطهير واجب وطني) فحسب بل بحجم الثغرة التي أحدثها الساسة في جدران الخدمة المدنية.
ويجدر هنا أن أستعيد معكم ما كتبته في الحلقة الثانية عن (أولى المخازي العشر)، وهي قرارات (السودنة)، التي مثلت وامتثلت للنهم، والجشع السياسي، وكانت أول مدخل الساسة إلى مدينة الخدمة المدنية الفاضلة.
الموجة الثالثة من الهجوم!!
لم يكن مفاجئاً لأحد أن تنهار حكومات أكتوبر بعد أربع سنوات- حسوماً- قضاها الشعب السوداني وهو يتفرج على ملهاة سياسية عجزت حتى عن كتابة دستور (رغم وجود دستور سابق).. ثم جاء نظام الرئيس النميري في 25 مايو 1969 ليكمل المجزرة التي دشنتها قرارات السودانة، ثم كرستها شعارات (التطهير واجب وطني) بعد أكتوبر 1964، ويدشن الموجة الثالثة من الهجوم الكاسح على الخدمة المدنية السودانية.
فصل أساتذة جامعة الخرطوم!!
أنشبت حكومة النميري أنيابها في جسد الخدمة المدنية، وأصدرت قرارات الفصل في حق كل من تحوم حوله شبهة الارتباط بـ (الرجعية وأذنابها من الإخوان المسلمين)، وكان يقصد بالرجعية جماهير حزب الأمة.
وبلغت أعتى موجات العبثية بقرارات فصل أساتذة جامعة الخرطوم، شمل القرار (13) أستاذاً في جامعة الخرطوم لا لسبب سوى شبهة (التعاطف) وليس الانتماء السياسي، ومن المثير للدهشة أن كل الأستاذة الذين شملتهم قرارات الفصل تسابقت نحوهم جامعات أجنبية، وضمتهم إلى هيئات تدريسها، فهجروا الوطن إلى أوطان اعتزت بإقامتهم فيها.
كان من أبرز الذين شملتهم قرارات الفصل السياسي البروفيسور عبد الله الطيب الذي كان عميداً لكلية الآداب، والبروفيسور دفع الله الترابي عميد كلية الهندسة، والبروفيسور مدثر عبد الرحيم عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وآخرون.
لم يكن مفهوماً لأحد المعايير والجهة التي تصدر هذه القرارات لكن كان معلوماً أنه ما عادت الخدمة المدنية مستقلة عن الجهاز السياسي للدولة، وبدأت موجة من القرارات- وثيقة الصلة- تحطم هيكلة الدولة السودانية، وعلى رأسها أنظمة الحكم الأهلي (الإدارة الأهلية)، التي كانت من أكفأ منظمات المجتمع المدني السوداني وأكثرها تأثيراً وتنظيماً، للدرجة التي جعلت المستعمر البريطاني يستثمر ويعوِّل عليها كثيراً في توفير الأمن، والخدمات، والنظام، للمجتمعات الريفية.
الصالح العام.. الضرر العام!!
لم تتوقف المعارك الطاحنة ضد الخدمة المدنية السودانية.. فبعد نجاح الانقلاب العسكري في فجر 30 يونيو 1989 بدأت موجة ثالثة من الهجمات المنظمة ضد الخدمة المدنية، هذه المرة أُطلق عليها سياسات (الصالح العام).
هذه المرة كانت الهجمة قاسية وظالمة إلى أبعد مدى؛ إذ طالت الآلاف في مختلف مواقع الخدمة المدنية، ولم يكن شرطاً أو مطلوباً التثبت من قرار فصل الموظف العام، حيث كانت تكفي بضع سطور أو وشاية للإطاحة بأي موظف في أرفع منصب، دون أن تقدم له أية مبررات لفصله.
سياسات (الصالح العام) أدت إلى نشر الذعر في كل مفاصل الخدمة المدنية للدرجة التي صار فيها مديرو المكاتب أكثر نفوذاً من الوزراء- أنفسهم-، والخوف من البطش السياسي فتح مجالاً واسعاً لفساد وظيفي غير محدود، أتى على البقية الباقية من الخدمة المدنية، وحولها إلى مجرد محميات سياسية شحيحة الخبرة، وعاطلة الذهن والهمة.
تعطل ماكينة الدولة!!
الخدمة المدنية هي الماكينة المحركة لأي دولة، ويرتبط تطور الدولة بسلامتها من الأذى السياسي، وقدرتها على ممارسة عملها بكل تجرد بعيداً عن المؤثرات السياسية، لكن الخدمة المدنية في السودان، وبعد أربع موجات من التدمير المنهجي انهارت تماماً، وحولت البلاد إلى عربة معطوبة الإطارات لا تقوى على السير حتى في الطرق المسفلتة.
(ثالث المخازي العشر) هذه لا تزال تنفث سمها الزعاف في جسد البلاد- وما لم تخضع إلى عملية جراحية تستعيد عافيتها، وتقوم خطوها- فلا أمل في أي إصلاح حقيقي في البلاد.
ونواصل في الحلقة القادمة بإذن الله
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!