المخازي السودانية العشر.. اخترتها لكم موزعة على كل العهود السياسية منذ تباشير الاستقلال وحتى اليوم.. لأبرهن على خلل مفاهيم العمل العام، وسوء الإدارة، الذي تكابده بلادنا، ويدفع ثمنه الشعب السوداني كله، وعلى مدى أجيال.. ولكن الذي يمنعنا من الاستفادة من العبر واستلهام التأريخ.. هو خوفنا من الحقيقة المرة.. خوفنا من صدمة رؤية الواقع الصريح.. فنحن ضحية تأريخ سياسي مزور!!، في هذه الحلقة أضع بين أيديكم بعض نماذج هذا (التزوير!)
البطل الخائن..!!
بعد نجاح ثورة الإمام محمد أحمد المهدي (رضوان الله عليه)، ودخوله فاتحاً الخرطوم في يوم 26 يناير 1885، شاءت إرادة الله أن لا يقيض للبطل المهدي عمراً أكثر من عمر الثورة فالتحق بالرفيق الأعلى بعد حوالي ستة أشهر فقط (في يوم الإثنين 21 يونيو 1885).
تولى بعده خليفته السيد عبد الله تور شين الملقب بـ (الخليفة عبد الله التعايشي) إشارة إلى نسبه القبلي الذي ينحدر منه (أصوله وجذوره من بلاد تونس).. الخليفة عبدالله التعايشي تولى زمام الدولة، وحاول إرساء أركان دولة قوية، لكن مفاهيم الحكم في ذهنه كانت تعاني من شروخ تركتها فترة الثورة الطويلة على المستعمر، مخلوطة ببعض المفاهيم الدينية غير الصحيحة، فبدأ عهده ينزلق في ظلامات قاتمة، أودت بكثير من أخيار الثورة المهدية، إما إلى غياهب السجون، أو إلى مقلصة الموت- بشتى الطرق، على رأسهم البطل الزاكي طمل، الذي قتل داخل سجن أم درمان الحالي جوعاً وعطشاً بعد وشاية ظالمة في حقه من بعض منافسيه.
وكان أكبر خطأ وقع فيه الخليفة عبد الله أنه أسس لدولة بوليسية قابضة على الأنفاس، أهدرت موارد البلاد في حروب غير مجدية، وأحلام أمبريالية توسعية انتهت إلى لا شيء.
وفي مثل هذه النظم البوليسية القابضة تنمو دائماً البكتريا المتطفلة، والتي (تخترق) جسم الدولة، وتنخره من الداخل، حتى ينهار فجأة، وهذا بالضبط ما حدث لدول الخليفة عبد الله التعايشي، التي لم تصمد على وجه الأرض أكثر من (13) عاماً حسوماً.
عندما وضعت بريطانيا خطة ومشروع استعادة السودان، والانقضاض على الدولة السودانية الوليدة، عهدت إلى قيادي متنفذ في دائرة القرار الأعلى في الدولة المهدية بمهمة بسيطة سهلة.. بكل أسف نفذها على أحسن وجه، كانت مهمته أن يؤخر توقيت المعركة الفاصلة بين جيش الجنرال كتشنر وجيش الخليفة عبد الله، وأن يجعل المعركة تجري في الزمان والمكان الذي اختارته بريطانيا بكل دقة.
في مذكرات ونستون تشرشل- التي رصد فيها وقائع يوميات الحملة العسكرية البريطانية التي استردت السودان- لفتت نظري إشارات كررها تشرشل في أكثر من موضع في الكتاب، علماً بأن ونستون تشرشل كان في مهمة صحفية؛ لتغطية الحملة العسكرية، وكان يرافق الجيش البريطاني خطوة خطوة من بداية الحملة حتى نهايتها.
قال تشرشل في كتابه (حرب النهر The River war): لو هاجم جيش الخليفة عبد الله الحملة البريطانية في أي موقع غير (كرري) لتغير التاريخ تماماً.. في أكثر من موقع منذ دخول الجيش إلى حدود السودان كانت أغلى أمنية للقائد العسكري البريطاني أن يظل الخليفة عبد الله وجيشه في العاصمة أم درمان، وألّا تدور المعركة خارجها.. وكانت واحدة من أكثر المناطق التي خشي فيها الجيش البريطاني مباغتته بهجوم من جيش الخليفة عبد الله التعايشي منطقة الشلال السادس (شلال السبلوقة)؛ حيث يضطر الجيش الغازي إلى الترجل عن البواخر النيليية خلال عملية عبور الشلال الصخري الهادر.
ولكن أخيراً، وصل الجيش الغازي إلى كرري.. وأقام حظيرته (الزريبة) لتكون معسكره المؤقت قبل الهجوم الأخير على العاصمة أم درمان.. في العصر، ومع الهبوط التدريجي لقرص الشمس تجاه المغيب، ظهرت طلائع جيش الخليفة عبد الله التعايشي، وهي تتخذ مواقعها في جبال منطقة كرري في مواجهة الجيش الغازي، كانت جيوش الخليفة- براياتها المعروفة- تسد الأفق، وتثير الرهبة في قلب كل من ينظر إليها بنظامها، وسيرها الصارم، وشراسة مقاتليها، الذين يرجون الموت أكثر من الحياة، أكثر من (52) ألف مقاتل.
كتب ونستون تشرشل في مذاكراته يصف تلك الساعات التأريخية، قال: إن جيش الفتح البريطاني حبس أنفاسه طوال الليل، وهو يخشى أن تنقض عليه جيوش الخليفة عبد الله التعايشي في عتمة الظلام الدامس.. حيث لن تجدي الأسلحة النارية الفتاكة مع غياب الرؤية الكاملة.
عندما لاحت تباشير الفجر لم يصدق قادة الجيش الإنجليزي أن جيش الخليفة عبد الله أمهلهم كل هذه الساعات حتى الصباح.. وتغير ميزان القوى تماماً مع بدء المعركة الكبرى.. جيش الخليفة عبد الله، الذي يفترض أنه في وضع (الدفاع)، تحول إلى جيش في وضع (الهجوم).. وجيش كتشنر الغازي الذي يفترض أنه في وضع (الهجوم) تحول إلى جيش (مدافع) متخندق خلف متاريسه العصية، وتحمي ظهره البواخر النيلية بمدافعها الموجهة لحماية ميمنة الجيش الغازي.
وفي فقه العلوم العسكرية.. الجيش (المهاجم) هو الذي يتحمل الخسائر الأكبر.. مهما كانت قوته.. والمدافع دائماً في أفضل وضع يجنبه الخسائر.
كانت شمس الصباح الحارقة تجهر أعين جنود جيش الخليفة، وهم يتقدمون نحو معسكر الغزاة.. بينما جنود الجيش الغازي في أفضل وضع، ورؤية كاشفة لكل ميدان المعركة، فكان سهلاً على الأسلحة النارية، ومدافع (المكسيم)، أن تلتهم أجساد جنود المهدية البواسل بكل سهولة، وهم يتدفقون في شكل موجات متتالية كارة نحو معسكر الغزاة، ساعتان فقط، من الساعة السادسة حتى الثامنة صباحاً، وانتهت المعركة مخلِّفة أكثر من (10) آلاف شهيد من جيش الخليفة عبد الله التعايشي.. بينما فقد كتشنر حوالي (47) غالبيتهم باغتهم القائد الشرس عثمان دقنة في (خور شمبات) عندما حاولوا الالتفاف خلف جيوش الخليفة ودخول أم درمان قبل نهاية المعركة.
القائد المتنفذ الذي اخترق صفوف القيادة العليا لدولة الخليفة عبد الله التعايشي كانت مهمته تعطيل مكان وزمان المعركة ليصبح المكان في كرري.. والزمان بعد شروق الشمس.. وفعلاً هذا ما حدث.. رغم أنف الإلحاح الذي كان يبديه الأمير عثمان دقنة، وهو يطلب من الخليفة عبد الله أن تكون المعركة قبل وصول الجيش الغازي تخوم أم درمان.. ثم بعدها أصرَّ على أن تكون المعركة ليلية.. لكن كل تلك النصائح ذهبت أدراج الرياح.. حيث نجح القيادي الذي (اخترق) مجلس الخليفة في توجيه الدفة إلى حيث تشتهي بواخر وبنادق جيش كتنشر.
تأريخنا (المزور) لم يشر إلى هذا الاختراق إطلاقاً.. بل ولا يزال اسم هذا القيادي (الخائن) مسجلاً في قوائم أبطال الدولة المهدية، رغم دوره الكارثي الذي أدى إلى هدم الدولة السودانية الوليدة.
الدور الذي لعبه هذا البطل الخائن مسجل في الوثائق البريطانية (التي نشرت الآن وأصبح سهلاً الاطّلاع عليها).. وذهب كثير من المؤرخين السودانيين إلى بريطانيا، واطّلعوا على هذه السجلات والوثائق، التي تؤكد (الخيانة)، التي تعرض لها الخليفة عبد الله التعايشي من داخل دائرته القيادية المقربة، لكن أحداً من هؤلاء المؤرخين لم يجرؤ على الإفصاح عمّا وجده في تلك السجلات، عذرهم أن (هذا القيادي له الآن أحفاد يعيشون على أمجاد اسمه التأريخي.. ولن يرضوا أن يكشف التأريخ عن دور جدهم الخائن في الإيقاع بالدولة السودانية).
هذا مثال واحد.. للأوهام التأريخية التي تزوِّر تأريخنا.. وتحرمنا من تكوين فكر ورؤية سودانية صادقة للتأريخ، الذي على أنقاضه يقوم حاضرنا، ونؤسس لمستقبلنا.
متى استقل السودان؟
متى استقل السودان؟؟، ربما يبدو السؤال ممعناً في السذاجة أو السخرية، لكنه سؤال محوري في سياق إصلاح منهج التفكير السوداني، الإجابة السهلة المعروفة للجميع هي في صباح الفاتح من يناير عام 1956، إذن يصبح السؤال الحتمي التالي..
وما هو تعريف الحدث الذي وقع في يوم 26 يناير عام 1885؟
اكتبْ هذا السؤال في ورقة وضعه أمام ألف سوداني من مختلف الأعمار والأجيال يرفدونك بإجابة واحدة (يوم 26 يناير عام 1885 هو فتح الخرطوم على يد القائد محمد أحمد المهدي).
وعلى ذمة هذه الإجابة الممعنة في نكران التأريخ يتحول هذا اليوم إلى مجرد ذكرى، يحتفل بها حزب الأمة القومي– إذا توفر له زمن ومزاج- في أحسن الفروض، أو مجرد تاريخ مكتوب في تقويم الدولة السودانية بلا عطلة رسمية مثل يوم 21 أكتوبر أو 6 أبريل.. مجرد ذكرى حدث في تأريخ السودان.
تاريخ الاستقلال الحقيقي للدولة السودانية هو يوم 26 يناير عام 1885 عندما اقتحم الجيش السوداني المكون من كل قبائل وشعوب السودان العاصمة الخرطوم- عنوة واقتداراً- ومزق علم أكبر وأقوى دولة في ذلك الزمان.
البطل محمد أحمد المهدي ضحية تأريخ لم نعرف كيف نفهمه، وضحية ساسة وأحزاب سجلته علامة طائفية لصالح حزب الأمة، الأحزاب الأخرى تتحاشى تعظيم سيرة المهدي؛ لأنه يمنح حزب الأمة وزناً تأريخياً من باب السلالة، أما حزب الأمة فلترجيح كفته التأريخية يمعن في احتكار رمزية المهدي.
عندما شيدت ولاية الخرطوم كبري النيل الأبيض الجديد، وحتى أوشك موعد افتتاحه، لم يكن له اسم سوى الإشارة إلى أنه (كبري النيل الأبيض الجديد)، في مقابلة شخصية لي مع وزير الشؤون الهندسية- آنذاك- الدكتور شرف الدين بانقا، اقترحت عليه أن يطلق على الكبري الجديد اسم البطل محمد أحمد المهدي؛ لأن الكبري مشيد تقريباً في نفس الموقع الذي عبر منه المهدي النيل الأبيض إلى الخرطوم؛ للالتقاء بالقيادة الميدانية لجيشه، الذي كان ضارباً الحصار لعدة أسابيع على الخرطوم، وحدد لهم المهدي ساعة الصفر فجر اليوم التالي، ثم عاد إلى موقع قيادته في منطقة أبوسعد، رد عليَّ الوزير بانقا بسؤال لا يزال عالقاً في ذاكرتي.. قال لي: (آل المهدي تولوا الحكم أكثر من مرة.. هل في مرة أطلقوا اسم المهدي على أي موقع؟!!)، فهمت أنه يقصد أن احتكار سيرة البطل المهدي لحزب الأمة اختصر رمزيته في داخل الحزب، وضيَّق قوميته.
الحقيقة أن استقلال السودان الحقيقي وميلاد الدولة السودانية كان في 26 يناير 1885، والفترة الممتدة من يوم 2 سبتمبر عام 1898 بعد معركة كرري هي مجرد فترة انقطاع– بعد الهزيمة- تحول فيها السودان إلى دولة محتلة بجيوش دولتين هما بريطانيا ومصر، تماماً مثلما احتلّ نابليون دولاً كثيرة منها روسيا، ومثلما احتلّ هتلر دولاً كثيرة منها فرنسا، بل ومثلما احتلت أمريكا العراق بعد حرب الخليج الثانية، ثم خرجت أمريكا دون أن يعدّ العراقيون أن تأريخ خروج أمريكا هو عيد الاستقلال.
والفرق بين 26 يناير 1885 والأول من يناير 1956 كبير جداً.. ليس بحساب السنوات بل بحساب المعنى والمغزى.
في يوم 26 يناير 1885 انتزع الجيش السوداني بلاده- عنوة واقتدراً من بين فكي الأسد- في الأول من يناير 1956 خرج آخر جندي بريطاني على طبول وموسيقى الاحتفالات، ودموع الوداع لمن وقفوا بجانب القطار يلوحون للجنود البريطانيين، وهم يغادرون محطة الخرطوم، بمحض وكامل اختيارهم ورضائهم.
الطريقة التي نتعامل بها مع ذكرى 26 يناير 1885 يحولها إلى مجرد ذكرى (انقلاب عسكري)، لصاحبه محمد أحمد المهدي، ينتهي الاحتفاء به مع نهاية عهده السياسي.. الذي لم ينعم إلا بـ (13) عاماً من الحكم المهزوز.. هل احتفل السودان بذكرى انقلاب 25 مايو 1969 بعد الإطاحة بالرئيس النميري؟!!.
ونواصل غداً في أنموذج ثانٍ للتزوير المتعمد للتأريخ السوداني- بإذن الله
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!