لازلت أسرد وقائع وتداعيات (سادسة المخازي السودانية العشر)!! قرارات (الرياضة الجماهيرية) التي أعلنها الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري في 28 أبريل 1976. وادت إلى دك الرياضة دكاً دكا.. لمدة (257) يوماً تعطل النشاط الرياضي في البلاد تماماً.. ومارس الشعب السوداني أقصى درجات العناد والمقاومة فامتنع حتى عن لعب (كرة الشراب) في شوارع الأحياء.. فأضطر الرئيس النميري للتراجع.. لكن بعد (خراب سوبا)..!!
علي قاقارين.. والأمجاد الأفريقية!!
الأستاذ محمد الحسن أحمد قال لي إن السودان كان في أفضل حالاته الكروية.. ولم تكن الرياضة بحاجة لأي تدخل جراحي يستلزم ذلك القرار الأهوج، الذي اتخذه الرئيس الأسبق جعفر محمد النميري.. ليس في كرة القدم فحسب بل في كرة السلة والتنس والسباحة وألعاب القوى وكافة ضروب الرياضة. كان السودان متقدماً ومبهراً.
علي قاقرين رصد لي سجل الشرف الذي حققه منتخب السودان القومي لكرة القدم في تلك الأيام.. كان فريقاً مرعباً ترتعد له أوصال المنتخبات الأفريقية والعربية.. إذ استطاع ايقاع الهزيمة خلال تلك الفترة بفرق مصر والمغرب وكينيا ونيجريا وتنزانيا والجزائر.. بل وفريق تونس الذي خاض منافاسات كأس العالم عام 1974.
وشارك منتخب السودان لكرة القدم في أولمبياد ميونخ عام 1972. طبعاً هذا علاوة على فوزنا بكأس أفريقيا في العام 1970.
الدكتور كمال شداد قال لي إن الاتحاد السوداني لكرة القدم كان يرى أنه أحق بسجل مشرف في كرة القدم الأفريقية لأنه كان ثالث ثلاثة من الدول التي أسست الاتحاد الأفريقي لكرة القدم.. فوضع الاتحاد السوداني خطتين. واحدة للفوز برئاسة الاتحاد الأفريقي والثانية للفوز بكأس أفريقيا..
وصدق الوعد العزم.. فاز السودان ممثلاُ في الدكتور عبدالحليم محمد برئاسة الاتحاد الأفريقي.. وفي العام 1970 نظم السودان بطولة أفريقيا وفاز بكأس أفريقيا في المباراة الختامية التي كانت ضد منتخب غانا.
خلال فعاليات البطولة الأفريقية التي جرت منافساتها بين العاصمة ومدينة ود مدني.. انتخب النقاد الرياضيون الأفارقة منتخباً لأفريقيا ضم حوالى (8) لاعبين من منتخب السودان.
كل هذا السجل الرياضي الزاخر.. كان ضحية انفعال الرئيس النميري وضياع كلمة (لا) عند مساعديه والدائرة التي تؤثر على صناعة القرار.
كيف تراجع النميري عن القرار!!
البروفيسور علي شمو، قال لي في سياق هذا التحقيق الصحفي.. (عندما اتخذ الرئيس النميري قرار حل الأندية وتسريح اللاعبين كنت أعمل خارج السودان.. عدت إلى السودان في أغسطس عام1976 أي بعد أربعة أشهر من قرار الرياضة الجماهيرية.. صدر قرار بتكليفي بمنصب وزير الدولة في وزارة الشباب والرياضة، وكان الوزير هو زين العابدين محمد أحمد).
علي شمو يروي أنه ومن أول يوم له في الوزارة ومباشرة بعد أداء القسم.. وجد مشكلة قرار تعطيل الأندية جاثماً فوق الصدور.. فأسند الوزير زين العابدين إلى علي شمو ملف الرياضة الجماهيرية.
يقول علي شمو (اقترحت للوزير أن نجري استبيانا علمياً لمعرفة رأي الجمهور في القرار.. وافق.. فاسندنا المهمة لشاب أفلت من ذاكرتي اسمه.. أكمل العملية على أفضل وجه صمم الاستبيان وجمع العينات المطلوبة ثم أكمل التحليل وكانت النتيجة أنه وبما يقرب من مائة في المائة لا أحد يوافق على قرارات الرياضة الجماهيرية..).
مقابلة الرئيس النميري !!
يواصل شمو روايته (ذهبت مع الوزير زين العابدين لمقابلة الرئيس النميري، واطلاعه على تقرير أعددناه على ضوء نتيجة الاستبيان.. كان اللقاء صريحاً.. ووافق الرئيس النميري على التراجع من قرارات الرياضة الجماهيرية).
(وفعلاً وفي زخم الاحتفال بذكرى الاستقلال) يقول علي شمو (ألقى الرئيس النميري بياناً في يوم 10 يناير 1977 أعلن فيه التراجع عن قرار الرياضة الجماهيرية وسمح بعودة الأندية وعلى رأسها فريقي الهلال والمريخ..)
ما بعد العودة !!
طلب الرئيس النميري أن تجرى على شرف قرار العودة مباراة بين فريقي القمة الهلال والمريخ.. كأنما يقول دعونا نبدأ من حيث انتهينا.. لكن هيهات..!!
البروفيسور عبد اللطيف البوني الذي كان طالباً في جامعة الخرطوم حينها، قال لي إنه كان من الذين شهدوا تلك المباراة.. مباراة العودة.. يقول البوني (من أول لحظة ولجت فيها الإستاد، لاحظت أن الجمهور ليس هو الجمهور الذي كان قبل القرارات.. ولا اللاعبين.. ولا الحكام.. كل شيء تغير.. بل حتى الطعم.. لم يكن طعم كرة القدم قبل القرار..).
البوني رسم صورة مدينة احترقت.. أتت النيران على الجمال والحال.. ولم يعد في المشهد إلا الركام وبقايا الدخان والرماد.
نفس الصورة رسمها علي شمو في إفادته.. قال إن كل شيء تغير.. بل يمعن علي شمو في التقاط صور لم ترد في طي الإفادات الأخرى..
قال شمو إن تعطل كرة القدم تعدى الرياضة وجمهورها إلى المجتمع كله.. بل حتى السياسة تأثرت بالركود الذي ألجم الشعب السوداني.. ففي تلك الأيام حتى أخلص مناصري نظام الرئيس النميري أصابهم حزن ونقم على القرار.
يقول شمو: (كرة القدم كانت نسيجاً اجتماعياً.. تربط المجتمع السوداني بكل سلاسة وقوة.. وعندما تعطلت.. تحجرت الروابط الاجتماعية والعلائق.. كل شيء تغير بعد قرار حل الأندية ..).
برقية عاجلة إلى شداد!!
دكتور كمال شداد يرى أن انقطاع أجيال الكرة كان سبباً في تدهورها بعد ذلك ويحكي (كنت في زيارة علمية إلى مدينة القضارف عندما وصلتني برقية تلغرافية عاجلة للحضور فوراً إلى الخرطوم.. فبعد صدور قرار عودة الأندية قرر الرئيس إجراء مباراة قمة بين الهلال والمريخ.. وكنت مدرباً للهلال..)
يقول شداد: (وصلت الخرطوم لكني لم أجد لاعبين.. كلهم هاجروا.. لم يبق في الكشف إلا 15 لاعباً).
علي قاقرين.. يقول.. اللاعبون الجدد لم يجدوا فرصة الاحتكاك بالجيل السلف الذين هاجروا وتركوا البلاد وأنديتها جدباء..
نشأ جيل جديد من اللاعبين.. ومن الجمهور.. ومن الروح الرياضية.. ومن الإداريين.. كل شيء تغير.. وبكل أسف إلى الأسوأ..
257 يوماً لكنها كافية!!
صحيح قرار حل الأندية وتسريح اللاعبين لم يصمد أكثر من (257) يوماً.. لكنها كانت كافية لتدمر الرياضة وكرة القدم السودانية لمدى (38) عاماً حتى اليوم.. وهذا بالضبط ما قصدته من سرد هذه المخازي العشر السودانية.. أن ندرك أن قراراً صغيراً.. في لحظة هوجاء.. كاف ليجبر السودان أن يلعق علقمه عقوداً كاملة.. ومثل هذه القرارات كثيرة لكنني اخترت لكم مجرد (عينة) تكشف العقلية التي تصنع هذه القرارات الخطيرة المدمرة الماحقة.
عينة.. رياضية!!
عندما اخترت هذا القرار (الرياضي) أردت أن أبرهن على أن العقلية المدمرة واحدة.. في السياسة والاقتصاد والاجتماع بل حتى في الرياضة والفن.. هو (منهج تفكير) وليس مجرد سوء طالع يرتبط بشخص أو غيره.. وما لم يتغير منهج التفكير فلا أمل في صناعة واقع جديد..
كانت (قرارات الرياضة الجماهيرية) هي سادسة المخازي العشر السودانية.. بالله تأملوا معي في الأربع القادمات في الحلقات التالية –بإذن الله-.. أسوأ وأضل..
اخترتها لكم بعناية لامنحكم البرهان للحكم على (من ضيَّع السودان!)؟
ونواصل في الحلقة القادمة بإذن الله
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!