وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات عثمان ميرغني

“من ضيع السودان” عشر مخازٍ سودانية – الحلقة (17) “عثمان ميرغني”

يقول الدكتور منصور خالد (مدرسة المشاغبين هي أساس البلاء.. مسوخ ترتدي البزات وتعلك الشعارات.. هم دراويش السياسة.. فالدرويش في حلبة الذكر يصيح “حي قيوم..” حتى يخرّ صريعاً وهو يحسب أن روح الله قد حلت فيه.. هذا هو حال إخوته دراويش السياسة الذي يقف الواحد منهم يصيح “ليبرالية.. اشتراكية.. إسلامية”.. ظاناً أن الصيحان كافٍ وحده؛ ليحقق له غايته المبتغاة..)!!
عهد الصحوة..!!
كما ذكرت في الحلقة الماضية.. الفترة الواقعة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية شهدت في السودان تبلورت ملامح الغد.. الذي تحول بعد ذلك إلى تأريخنا المعاصر بعد الاستقلال.. في كل المجالات..!!
في الرياضة – مثلاً- تأسست الأندية الرياضية الكبرى التي ظلت مهيمنة على صدارة المشهد الرياضي.. نادي المريخ في 14 نوفمبر 1927، وفي نفس العام نادي الموردة الرياضية.. ثم نادي الهلال في 13 فبراير 1930.
في مجال الفنّ والشعر.. ظهر خليل فرح في عنفوان مجده خلال هذه الحقبة (توفي في 20 يونو 1932).. وسطع نجم أغنيات الحقيبة التي لا تزال تمثل السماء التي سطعت فيها نجوم الفن السوداني حتى اليوم.
ولكن أهم من كل ذلك.. الصحافة.. والتي كانت البنية التحتية للنشاط الأدبي والثقافي ثم السياسي وعلى تربتها ترعرت الحركة السياسية السودانية إلى يومنا هذا.
لا أريد الانزلاق لسرد تأريخ الصحافة السودانية العريق لكنني- فقط- أرتكز على منصة تأريخية محدودة ظهرت فيها صحيفة (حضارة السودان) في 28 فبراير 1919 (أسبوعية) يرأس تحريرها الأستاذ حسين شريف..
هذه الصحيفة التي لعبت دوراً كبيراً في توجيه الرأي العام المستنير، كانت مملوكة في البداية للسيد عبد الرحمن المهدي، وبعض الشركاء الأثرياء من أنصار المهدي.. ثم بعد توقفت مدة سبعة أشهر، عادت تحت شركة أسسها السادة عبد الرحمن المهدي، وعلي الميرغني، والشريف يوسف الهندي..
كانت صحيفة (حضارة السودان) تدعو- علناً- إلى انفراد الإنجليز بحكم السودان، وتمثل الصوت الإعلامي الأقوى المؤيد للاستعمار البريطاني، والمروج لمآثره على السودان.
ويبدو أن جهر صحيفة (حضرة السودان) بتأييدها وودعمها الـ (لا) محدود للسياسات البريطانية تجاه السودان أسهم في تكوين فكر مضاد.. ليس مضاداً في المناداة بالاستقلال– كما يتصور البعض خطأ- بل في المطالبة بمزيد من التلاحم مع مصر.. بل الوحدة.. والمطالبة ببقاء الجيش المصري في السوان.. وهو الأساس الذي نشأت عليه جمعية اللواء الأبيض في مايو 1924، ووصل بها حد الانتفاضة المسلحة في الحركة الشهيرة التي فشلت– عسكرياً- وأدت إلى الحكم بإعدام أبطالها العسكريين- رمياً بالرصاص.
ولم تتستر صحيفة (حضارة السودان) على عواطفها تجاه حركة 1924، فطالبت باستئصال هذه الرغبات الاتحادية مع مصر، وأية نزوات أخرى تدعو إلى زوال الاستعمار البريطاني من السودان.
ثم ظهرت مجلة النهضة (1931-1932) لمؤسسها محمد عباس أبو الريش.. وتلتها مجلة الفجر (1934-1939) لعرفات محمد عبد الله.
وكانت تلك هي المنصة الفكرية التي انطلقت منها نجوم خالدة في سماء العمل العام في السودان، منهم محمد أحمد المحجوب (رئيس وزراء لاحقاً)، وأحمد خير المحامي (وزير خارجية لاحقاً)، وأحمد يوسف هاشم (أبو الصحف)، وعرفات محمد عبد الله، وكثيرون- قد لا يتسع المجال لذكرهم هنا.
حاز السيد عبد الرحمن المهدي على أول صحيفة يومية (النيل) في العام 1935، وترأس تحريرها أحمد يوسف هاشم (أبو الصحف).. ثم حاز السيد علي الميرغني– أيضاً- على صحيفة سياسية هي (صوت السودان) في العام 1940، وترأس تحريريها محمد عشري صديق.
مؤتمر الخريجين!!
كل هذا الزخم الأدبي، والثقافي، والفكري، والفني، أدى- في النهاية- إلى بزوغ فكرة مؤتمر الخريجين، التي شهدت صرخة الميلاد في العام 1938، وأصبح المؤتمر بتركيبته السياسية التي بلورتها عضويته نسيجاً واضحاً لمآلات الحركة الوطنية في السودان.
والأحزاب السياسية.. أيضاً..!!
السجال والتدافع والتنافس داخل مؤتمر الخريجين كان مرصوداً بعين حريصة من جانب القطبية الثنائية في السودان- السيدان عبد الرحمن المهدي، وعلى الميرغني- وعندما اشتد التنافس داخل مؤتمر الخريجين، ووصل أوجه بدأت تنضج على نار هادئة فكرة تأسيس منصات سياسية تعبِّر عن التجمعات والتكوينات السودانية في منظورها السياسي والاجتماعي على وجهه الدقة- بعبارة أخرى- توسيع المظلة؛ لضم التكوينات المجتمعية السودانية على مستوى قاعدي وشعبي، بعد أن ظل مؤتمر الخريجين يعبِّر- فقط- عن النخبة المتعلمة التي انتظمت في عضويته المحدودة.
هذه المنصة السياسية تكونت تحت رعاية مظلة دينية طائفية بقيادة السيد عبد الرحمن المهدي، وعلي الميرغني- وهنا مربط الفرس!!.
فتكون حزب الاشقاء الذي يدعمه السيد على الميرغني زعيم الطائفة الختمية.. ثم تأسس حزب الأمة في العام 1945 برعاية السيد عبد الرحمن المهدي..
لم تتبلور أية برامج سياسية واضحة، أو حتى مجرد (رؤية) وطنية فكرية تعبِّر عن تطلعات هذه الأحزاب السياسية.. فقط انحصر التباين والتمايز في شعارين.. شعار السودان للسودانيين، الذي يرفعه حزب الأمة في مواجهة نديده حزب الأشقاء برعاية مولانا علي الميرغني، الذي يطالب بالوحدة مع مصر.
من المهم هنا الانتباه جيداً إلى التغير السياسي الكبير في فكر السيدين عبد الرحمن المهدي، وعلي الميرغني، في هذه المرحلة، السيد علي الميرغني الذي دعا في خطابه أمام ملك بريطانيا في العام 1919 للجيش البريطاني (بطول البقاء) في السودان، واستمرار الحكم تحت التاج البريطاني؛ لأن ذلك يحقق (السلام والاستقرار)، تحول- هنا- ليصبح منادياً بالوحدة مع مصر، في مواجهة- مباشرة- مع نديده السيد عبد الرحمن المهدي، الذي يدعو إلى استقلال السودان. وكان واضحاً أن تداعيات الحرب العالمية الثانية، والوعود التي أجزلته بريطانيا للدول المتحالفة معها، بدأت تفرض إرهاصات تقرير مصير السودان.. فأصحبت المنافسة على وراثة الحكم الثنائي في السودان باينة على سطح العمل السياسي العام.
بعبارة مختصرة للغاية- تبلور الفكري السياسي الحزبي خلال هذه الفترة على منصتين اثنتين لا ثالث لهما، مصير السودان بعد الحكم الاستعماري والدين، فحتى الأحزاب التي نشأت- لاحقاً- كانت تدور حول هاتين المنصتين.. الحزب الجمهوري، وقبله الشيوعي، والإخوان المسلمين، وغيرهم.
حاولت – في سياق هذا التحقيق- أن أرسم مقارنة في هذه الفترة (فترة ما بين الحربين الأولى والثانية)، بين وقائع ما يدور في جارتنا مصر، وما يدور- هنا- في السودان.. الفرق كان شاسعاً.. بل مؤلماً ومحبطاً.. في الوقت الذي ترتكز فيه الأحداث وتداعيتها في مصرعلى أسس تعبِّر عن المصلحة العامة للوطن مصر.. كانت في السودان تعبِّر عن انقاسم المصالح وتنافرها.
أدرك أن كثيرين تحرق كلماتي أحاسيسهم الوطنية، وتلسع وجدانهم، الذي بُني على (عواطف) تمجد الماضي من حيث كونه ماضياً.. لا بوزن وثقل مآلاته التي آلت إلى حاضرنا وستمضي إلى مستقبلنا.
إرهاصات الوطن المستقل..!!
كان واضحاً– بكل حزن نبيل- وإرهاصات استقلال السودن تقترب أن المقدمة التي بدأت بها هذه الحلقة اليوم.. والتي سطرها الدكتور منصور خالد في كتابه الفريد (النخبة السودانية وإدمان الفشل).. هي- بالتحديد- العقدة، ومربط الفرس.. دراويش السياسية أمسكوا بالمقود جيداً.. بل احتكروا المشهد السياسي.. وتملكوا حق تقرير مصيرنا.
وبكل أسف.. هذا ما تحقق!!
ونواصل في الحلقة القادمة بإذن الله
عثمان ميرغني
التيار

رابط كل الحلقات!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!