في الوقت الذي كان فيه كبارنا يؤدون فروض الولاء والطاعة في قصر بكنهام بلندن.. كان هناك بطل سوداني يرسخ تحت الأغلال في مدينة وادي حلفا.. ربما شقّ عليهم أن يلتمسوا من الملك جورج الخامس ملك بريطانيا أن يطلق سراحه.. لكن كان- على الاقل- أن يطلبوا تخفيف الأغلال عنه، وإكرام أسره..!!
تأملوا في هذا التأريخ..!!
البطل عثمان دقنة لم ينكسر سيفه حتى وقع في الأسر عام 1900.. نقل إلى سجن (رشيد) في مصر، ومكث فيه مدة (8) سنوات.. ثم أعيد إلى سجن وادي حلفا في أقصى شمال السودان.. عثمان دقنة لما طال عليه الحبس الانفرادي، الذي كابد وحشته، وألمه وحيداً، ثم تقدم عمره.. طلب من السلطات البريطانية أن تسمح له بالحج لكنها رفضت- بشدة.. تصوروا ماذا حدث!، شنت الصحف في بريطانيا حملة عنيفة على الحكومة مطالبة بالاستجابة إلى طلبه، وفعلاً- رضخت الحكومة البريطانية، وسمحت للبطل عثمان دقنة بالسفر لأداء فريضة الحج، فذهب وعاد إلى سجنه- مرة أخرى- في وادي حلفا، ليلقى بعد ذلك ربه- راضياً مرضياً- سنة 1926.
لماذ لم يتذكره كبارنا؟
فلنفترض أن السيد علي الميرغني ليس معنياً بشأن أحد قادة منافسيه آل المهدي.. لكن لماذا لم يلتفت السيد عبد الرحمن المهدي إلى مصير هذا البطل، ويتشفع له.. كما تشفع لنفسه، وهو يقدم سيف الإمام المهدي عربوناً للولاء؟.. بل لماذا لم يتفضل السيد إبراهيم موسى “ناظر الهدندوة”- الذي كان من ضمن الوفد- بهذه المهمة- إن شقت أيضاً- على السيد عبد الرحمن المهدي؟.. أو فلنترك كل هؤلاء لماذا لم يفعل ذلك السادة العلماء الأجلاء الذين كانوا ضمن الوفد، وهم يعلمون أن عثمان دقنة- أيضاً- عالم لا يقل عنهم علماً؟.
لماذا تركوه لمصيره الموحش في سجن حلفا، مكبلاً بالأغلال حتى آخر قطرة من عمره (مات في سجنه عام 1926).
مجرد استطراد..
بعيداً عن الموضوع ومن باب الاستطراد، السيد حسن دفع الله الإداري الذى كان مسؤولاً عن تهجير سكان مدينة وادي حلفا قبل غمرها بمياه السد العالي، كتب في مذكراته التي نشرت في كتاب باللغة الإنجليزية، ثم ترجم للعربية- لاحقاً.. قال: إنه لما حاول نقل رفاة عثمان دقنة عام 1964 قبل أن تغمرها مياه السد العالي فوجئ بجثمان البطل عثمان دقنة سليماً كأنه يغط في نوم عميق رغم مرور 38 عاماً على وفاته.
حاربوه حياً وميتاً..
حاولت حكومة عبود نقل جثمان عثمان دقنة إلى مدينة سواكن تلك المدينة التي أحبها لكنه فشل في اختراقها عسكرياً عندما حاول ذلك.. تصوروا ماذا حدث.. رفضوا دخول جثمانه إلى سواكن.. فأصبح محروماً من مدينته- حياً وميتاً، فذهبوا به- بعيداً- إلى مدينة أركويت، حيث مقبرته- الآن- منفياً وحيداً، (كان لي شرف زيارة قبره في مطلع هذا العام 2014).
صورة قاتمة.. ولكن!!
قصدت من هذه الصورة الممعنة في كسر الوجدان الوطني أن أضع اللمسات التي بها يمكن تفسير تأريخنا المعاصر، التاريخ الذي سردت لكم فيه المخازي العشر السودانية.
الوفد السوداني إلى بلاط ملك بريطانيا، هو عماد قوامنا السياسي.. الحزبان الأكبر في بلدانا، هما من سلالة هذا التأريخ، والسادة العلماء الأجلاء الذين رافقوا الوفد هم عماد الطبقة المتعلمة المستنيرة المرتبطة بالحياة العامة- آنئذ.. والسادة نظار القبائل الكبيرة.. قبائل الهدندوة، والشكرية، والجعليين، والكبابيش.. هم عماد وأركان الإدارة الأهلية، التي كانت رمز السيادة، والمجتمع السوداني.. كانوا هم السودان في طبقته الأعلى الممسكة بمصائرنا، ودولاب العمل العام.
مولانا السيد علي الميرغني في ختام كلمته أمام الملك جورج قال: (فليخفق علم الإمبراطورية البريطانية طويلاً على السودان؛ لتنشر في ربوعه السلام والهدوء..).
أمنيات طيبة أن يستمر الاحتلال البريطاني للسودان أطول ما تيسر.. هذه أمينة رئيس وفد كبارنا إلى بريطانيا..
ونافسه كبيرنا السيد عبد الرحمن المهدي، الذي قدم سيف والده الإمام المهدي هدية إلى ملك بريطانيا، ثم قال للملك: (أعدُّ نقل هذا السيف إلى جلالتكم دليلاً قاطعاً ومطلقاً على رغبتي في أن تعدّوني- أنا- وأتباعي في السودان خداماً مطيعين لكم، لقد أظهرت – ولسنوات بعد إعادة احتلال السودان- لرجالكم العاملين في السودان، وبطرق مختلفة خدماتي، وكامل ولائي، وهنالك الكثير من أفراد شعبي الذين ينتظرون عودتي عقب مقابلتي لجلالتكم ظافراً بكريم عطفكم، ويتمنون أن يكونوا من ضمن رعياكم المخلصين، وأنا الآن أعرض على جلالتكم خدماتي المخلصة والمتواضعة).
عرض السيد عبد الرحمن المهدي خدماته المخلصة لملك بريطانيا.. لكن الملك أعاد إليه السيف.. معتذراً بأنه لا يمكن أن يأخذ منه سيف أبيه الذي ورثه فهو حق لكل السلالة.. وطلب منه أن يستخدم هذا السيف للدفاع عن بريطانيا في السودان..
لو التمس السيد عبد الرحمن المهدي من ملك بريطانيا أن يحول سجن عثمان دقنة إلى اعتقال تحفظي كريم في أي مكان قريب من أهله مثلاً لكن ذلك كافياً لإشهار (المصلحة العامة).. لكن.. تابعوا معي هذا الخيط جيداً.. دائماً المصلحة الشخصية والطائفية (والحزبية لاحقاً) هي السر وراء كل ضياع السودان!!.
كيف تأسست المصالح الحزبية و الطائفية والشخصية..؟؟ هنا بيت القصيد.
قضية سجن عثمان دقنة حتى الممات أخذتها مجرد مثال لغياب المصلحة العامة.. لكن الأمثلة الأخرى كثيرة أتجاوزها، وأقفز فوقها في سياق البحث عن (من ضيع السودان؟).
هذا الشبل.. من ذاك الأسد!!
العشرون سنة في الفترة من عشرينيات القرن الماضي وحتى الأربعينيات تشكَّلت فيها بواكير البنية الفكرية التي قامت عليها هياكلنا السياسية صاحبة القرار في حياتنا العامة وتأريخنا ومصيرنا.
كل الذي نعايشه حتى اليوم – لم أقل نكابده- هو من صنائع تلك البنيات الأساسية لمنهج تفكيرنا السياسي العام.
بدأت حركة ثقافية وفكرية وفنية ورياضية متحمسة وطموحة.. تدفقت عبر الأندية والصحف والمجلات التي بدأت تأخذ مكانها في المجتمع السوداني.. وكانت كلية غردون التذكارية حاضنة علمية تضخ موجات الخريجين الذين يتبوأون الصدارة بشرف التأهيل الحديث.
هذه النهضة الفكرية والاجتماعية كانت تدور في إطار ثنائي القطبية- قطبية بيتي الميرغني والمهدي- كان البيتان مسيطران ومهيمنان- تماماً- وهما يمسكان بكل قوة بحبلين متينين.. السلطة الدينية، والثروة المالية، ومن الخلف كان هناك من يمسك الزمام أيضاً.. زمام البيتين.
الدكتور جعفر ميرغني–الذي جلست إليه في سياق هذا التحقيق الصحفي– يرى أن جيلاً كاملاً كان نتاج هذه الحقبة، هو الذي سيطر على الحياة العامة، ودولاب الخدمة المدنية، والسياسية، لمدة عشر سنوات من 1954 حتى أكتوبر 1964.. ويرى جعفر ميرغني أن الذين رفعوا شعار (التطهير واجب وطني) بعد ثورة أكتوبر 1964 هم الجيل اللاحق الذي تربى في حاضنة تعليم حديث (مدارس حنتوب، وخور طقت، ووادي سيدنا، وغيرها).. وأن التطهير كان محاولة من جيل التعليم الحديث إزاحة جيل كلية غردون.
ونواصل في الحلقة القادمة بإذن الله
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!