(والحل..!!)
هذه هي (المخازي السودانية العشر).. وهذا هو تشخيص المشكلة.. فما هو الحل؟، كيف يمكن تصحيح المسار المعوج لإنقاذ الأمة السودانية من براثن هذا التخلف المحبط؟، كيف يمكن صناعة أمة قوية متحضرة متماسكة؟؟.
الخطوة الأولى!!
ليس من مجال لافتراض أن حزباً بعينه.. أو كياناً بعينه.. أو أشخاصاً بعينهم هم القادرون على إخراج البلاد من النفق المظلم إلى بر الاستقرار السياسي، والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.. كل الأحزاب جربت حظها في الحكم.. وكل العهود مدنية وعسكرية وما بينهما.. ولم يعد التعويل على (تعويذة) سياسية بعينها.. الخطوة الأولى في طريق الألف ميل للحل تبدأ بالإيمان أن المطلوب تغيير (منهج التفكير)، أو تغيير الـ (Setup) الذي تقوم عليه أركان الدولة السودانية.. من هنا نبدأ..
إعادة هيكلة الدولة السودانية
تتكون الدولة السودانية من أربع طبقات من ترتيبها من أدنى إلى أعلى كالتالي:
طبقة المجتمع: Community Layer
وهي الطبقة الأدنى في هيكل الدولة السودانية، وتمثل القاعدة العريضة من جماهير الشعب السوداني، وتتضمن عامة الشعب، ومنظمات المجتمع المدني- التقليدية والحديثة.
طبقة الأعمال: Business Layer
وهي طبقة الأعمال (غير الحكومية) بأحجامها الثلاثة، الأعمال الكبرىLarge Business والمتوسطة Medium Business، والصغرى Small Business، والحرفية vocational
طبقة الخدمة المدنيةCivil service Layer
وهي طبقة الإدارة الحكومية التي تشكلها دواوين الحكومة في مختلف المرافق والخدمات والمصالح.
طبقة السياسة Political Layer
وهي الطبقة الأعلى التي تدير الشأن العام بصورة شاملة في مختلف مؤسسات الدولة السيادية أو السياسية أو الدستورية،
يربط بين هذه الطبقات علاقات تكامل وتداخل- تكامل في المهام، وتداخل في الأعمال-، بحيث يصبح مخرجات Output أي طبقة، هي مدخلات Input لطبقة أخرى.
الدولة المستقيمة Perfect state
هي الدولة التي تعمل فيها الطبقات الأربع بكفاءة وانسجام Tuning، وأي تنافر أو تعارض بين هذه الطبقات يؤدي مباشرة إلى إخلال بهيكل الدولة، فتعاني من الأمراض المزمنة، كما هو الحال في بلادنا السودان الآن.
السودان يعاني من حالة التهابية مزمنة في الطبقة الأعلى، طبقة السياسة التي تدير البلاد، والشأن العام، هذه الطبقة بمفهومها وتفويضها الهلامي متمددة ومتغولة على بقية الطبقات بصورة ضعضعت هيكل وقوام الدولة.
طبقة السياسة لا تكتفي بمهامها الدستورية فتسيطر وتدير الطبقات الثلاث الأخرى، مما يؤدي إلى حالة اختلال كامل في مهام الطبقات الأخرى، فتوهن وتذبل بالتدريج، حتى تصبح عاجزة ومشلولة تماماً.
الأمثلة كثيرة التي تثبت تشخيص الحالة الالتهابية المزمنة في طبقة السياسة، لكني أوجزها في بعض هذه الأعراض الماثلة أمامنا:
• منصب الوزير.. تحول إلى منصب إمبراطوري بلا حدود لتفويضه وصلاحياته.. فالوزير- حالياً- هو الأب الروحي للوزارة، التي تسير وفق مزاجه، وبحدود خبرته وأهوائه، ولا تعترض طريق الوزير أية لوائح أو قانون يحد من سلطاته.
• حاجة القطاع الخاص الماسة إلى الحماية السياسية، والتي تصل- أحياناً- درجة انخراط بعض رجال الأعمال في المسار السياسي، والارتماء في أحضان الانتماء الحزبي الصارخ، لا عن إيمان بل من باب التقية، ودرء الضرر، وهذه الحالة متمددة في السودان إلى درجة كبيرة.
• تحول الساسة إلى رجال أعمال، فيصبح كل سياسي رجل أعمال بالفطرة، مستفيداً من سلطاته التي تؤثر على الأعمال بصورة مباشرة؛ بجلب المصلحة، أو المضرة- حسب الهوى السياسي، أو الشخصي.
• تغول السياسة على الخدمة المدنية.. راجع ثالث المخازي السودانية “التطهير واجب وطني”، التي تطورت على مرحلتين، حتى وصلت مرحلة سياسيات الصالح العام في بداية التسعينيات، فكانت أكبر مجزرة في تأريخ الخدمة المدنية السياسية.
يكفي هذه الأمثلة البسيطة من قائمة طويلة.
فصل الطبقات:
فصل (وليس عزل) الطبقات، هو المدخل للحفاظ على استقامة الدولة؛ بحيث تعمل كل طبقة وفق تفويض وصلاحيات وحدود معروفة، تضبط الإيقاع العام للدولة.
عملية فصل الطبقات ليست مجرد نظرية هلامية على الورق، هي مفهوم أصيل يتنزل عملياً في شكل دستوري وقانوني ولائحي، يحدد بكل دقة المساحة والفضاء الذي تنشط فيه كل طبقة.
فلنأخذ مثالاً: بفصل طبقة السياسة:
القاعدة الذهبية، والمبدأ الأسمى، هو أن الحكومة الصغيرة تصنع شعباً كبيراً.. فكلما صغرت الحكومة قوي المجتمع.
تصغير الحكومة يعني حبس الدور الحكومي والسياسي- فقط- في تنظيم الدولة لا تسييرها.
للدرجة التي يصبح فيها المواطن غير معني بمعرفة أسماء الوزراء أو كبار الدستوريين.. ففي واقعنا الحالي تعمل الحكومة من المهد إلى اللحد.. تشرف على ولادتنا وتربيتنا في التعليم العام والعالي.. ثم تتولى حجنا وعمرتنا إلى بيت الله الحرام.. وتشتري لنا (الشيلة) في زواج البركة الذي تتولاه الحكومة..
الحكومة تتدخل في كل تفاصيل حياتنا، وتمتلك الشركات التي تبيع من الموز حتى السيارة.. بل وتحتكر بعض الأعمال والتجارة.. فالحكومة أكبر تاجر وأكبر شركة.
مهمة الحكومة سن التشريعات؛ لتنظيم حياة المواطن وسيادة الوطن.. والأجهزة العدلية مرجعية الفصل بين الناس.. ثم تترك بقية الشؤون للمجتمع ليحك ظهره بظفره..
إذا نجحنا في تحجيم دور طبقة السياسة.. فإن الوطن يرتاح من معظم الشرور.. ليس لأن هذه الطبقة شرّ مطلق.. لا.. بل لأن تدخلها في الطبقات الأدنى منها هو الذي يجلب الفشل..
ربما لفت نظري في المخازي السودانية العشر- التي رصدتها في هذه الحلقات- أن القاسم المشترك فيها هو تمدد (السياسة) في كل مفاصل الدولة، ولأن الساسة مرتبطون بالمصلحة الحزبية والشخصية، فإن القرار السيادي- دائماً مدهون بزبدة المصالح الضيقة.
فصل طبقة الخدمة المدنية:
طبقة السياسة تتغول على طبقة الخدمة المدنية، وتسيطر عليها- تماماً.. كل العهود السياسية السابقة، والعهد الحالي، فعلوا ذلك بدرجات متفاوتة.. صحيح أن العهد الحالي ارتكب مجزرة في حق الخدمة المدنية، وذبحها من الوريد إلى الوريد؛ بسياسات (الصالح العام)، لكن الآخرين فعلوا ذلك- أيضاً.. والحل هو في فرض التشريعات، التي تجعل الخدمة المدنية محايدة لا علاقة لها بالتقلبات السياسية المستمرة..
القوانين الحالية تشير إلى هذا الفصل.. لكنه عملياً غير ملزم؛ لأن ضوابط المساءلة، بل والعقاب في حالة مخالفة ذلك ليست واردة.. فأسهل ما يفعله أي سياسي أن يدوس بحذائه على كل لوائح الخدمة المدنية دون أن يطرف له جفن.. فقلم المحاسبة مرفوع عن الساسة.
مثال لفصل السياسة عن الخدمة المدنية:
في إطار هيكلة الدولة يجب إعادة تحديد (الوصف الوظيفي) لمنصب الوزير.. ليصبح هو مجرد الواجهة السياسية للوزارة دون أية سلطات تنفيذية مباشرة، منصب وكيل الوزارة يظل أعلى سنام الخدمة المدنية، على أن يتحول إلى (درجة وظيفية)، وليس مجرد منصب- أي أن الموظف في سلم المدنية يترقى حتى يصل درجة (وكيل وزارة)، وإن لم يشغل المنصب، فيصبح متاحاً أن يكون في الوزارة أكثر من موظف يحمل درجة (وكيل وزارة)، مما يتيح إمكانية أن تشتمل الوزارة على أكثر من تخصص.. مثلاً (وزارة الزراعة والري).. وكيل للزراعة.. هو أعلى سنام الخدمة المدنية المختص بالزراعة.. ووكيل للري هو- أيضاً- قمة اختصاص الري، ومن الممكن- بالطبع- أن يكون هناك موظف بدرجة (وكيل وزارة) دون أن تسند إليه مهام الوكيل.
هذا المقترح يتيح إمكانية فصل السياسة عن العمل التنفيذي؛ لأن وكيل الوزارة- بالضرورة- موظف تسلق درج الخدمة المدنية وفق التخصص.
عندما نحاصر (طبقة السياسة) في أضيق تفويض.. ونمنع تغولها على بقية السلطات، لن تكون (السياسة) محل طمع.. يصبح المنصب السياسي- فعلاً- (تكليف) لا (تشريف).. عكس ما هو عليه الحال الآن.. حيث تسيل على عتبات السياسة الدماء؛ لأنها تعني السلطة، والثروة، والجاه، والعز، وحصانة ضدّ المساءلة، وتعني أيضاً الـ (لا) مسؤولية..
وبعد..!!
السودان دولة تملك كل مؤهلات القوة، يستطيع أن يتحول إلى (مركز ثقل) دولي وإقليمي، لكن- بكل أسف- نحن أكبر أعداء أنفسنا.. نحن في حاجة إلى من يمسك يدنا أن لا تفتك بنا.
وبالله التوفيق.
انتهت حلقات من ضيع السودان … عشر مخازٍ سودانية …
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!