قبل قراءة هذه الحلقة يجدر بكم التأكد من وجود علبة مناديل ورق بجواركم.. فصل محزن ومخزٍ لدرجة النواح على وطن كاليتيم الذي أسلم ماله وقراره للسفهاء (والسفهاء تعبير قرآني ورد في الآية “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.”).. رئيس الجمهورية وفي لحظة غضب (شخصي) يقرر معاقبة الشعب كله.. وأي عقاب.. (الدمار الشامل) الذي لا يزال يدفع السودان ثمنه الفادح حتى اليوم وربما لأجيال قادمة.. إنها (سادسة المخازي السودانية العشر)!!
ما الذي حدث بالضبط!!
في تمام الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأحد 25 أبريل عام 1976.. وفي إستاد المريخ بأم درمان كانت مباراة القمة بين فريقي الهلال والمريخ.. المناسبة كانت (كأس الثورة الصحية).. التي أعلنها اللواء خالد حسن عباس وزير الصحة آنئذ.. والمباراة بهدف جمع التبرعات لمشروعات وزارة الصحة..
في المقصورة الرئيسية كان الرئيس جعفر محمد النميري، يجلس وسط ثلاثة من شيوخ دولة الإمارات على رأسهم الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان والذي تبرع بعشرة آلاف جنيه سوداني للثورة الصحية.
روى لي لاعبنا الدولي علي قاقارين وقائع تلك المباراة.. قال لي (قبل يوم من المباراة أطلق مشجعو الهلال إشاعة أنني مصاب ولن أشارك.. وكانوا يقصدون التأثير على استعداد المريخ للمباراة.. وعندما بدأ نزول لاعبي الهلال إلى الميدان تأخرت قليلاً عن الفريق لسكب مزيد من الإثارة النفسية.. ثم دخلت الميدان وتصادف أنها كانت نفس اللحظة التي دخل فيها الرئيس النميري إلى الإستاد..)
الجمهور كان كبيراً بدرجة غير مسبوقة.. اشتعلت المدرجات بالهتاف للاعب علي قاقرين وتجاهل الجمهور وصول الرئيس النميري إلى الملعب. كانت تلك أول إشارة في الاتجاه الذي انزلقت إليه الأحداث بعد ذلك.
قصة المعركة بين اللاعبين!!
يقول علي قاقارين (الشوط الأول انتهى بالتعادل السلبي.. في الشوط الثاني كنت في الجهة اليسرى من الملعب احتك بي لاعب المريخ الطاهر الهواري وكعبلني من الخلف.. غضب عزالدين الدحيش وضرب الهواري.. فاندفع نحوه الطيب سند حارس المريخ وضرب الدحيش.. كنت على الأرض وبجانبي الهواري عندما أشهر الحكم محمود حمدي البطاقة الحمراء في وجه حارس المريخ الطيب سند.. لاعبو المريخ رفضوا خروج الطيب من الملعب.. ثم غادروا كلهم.. لكن الوساطات أرجعتهم مرة أخرى إلى الملعب..)
هذه الأحداث التراجيدية استغرقت حوالي نصف ساعة توقفت خلالها المباراة تماما..
في لحظة قاتلة في الدقيقة (25) من عمر المباراة أرسل لاعب الهلال عزالدين الدحيش كرة أمام المرمى استلمها علي قاقارين ولدغ شباك المريخ بهدف قاتل على يمين حارس المرمى البديل الهادي سليم..
اشتعلت المدرجات.. انتهت المباراة بفوز الهلال (1- صفر) وبدأت الجماهير تهتف:
-(أبوكم مين.. علي قاقارين)
– (النجمة.. النجمة.. تحت الجزمة.. جزمة مين.. علي قاقرين).
وهو هتاف استفزازي للرئيس النميري (الذي لم يكن يخفي تعصبه للمريخ) وكان النميري تعود على هتاف (أبوكم مين.. نميري)..
قال لي أحمد محمد الحسن الصحفي الرياضي الأشهر.. والذي كان حاضراً تلك المباراة عن صحيفة (الأيام) الحكومية آنئذ.. قال لي إنه رأى الرائد زين العابدين محمد أحمد وزير الرياضة والشباب والذي كان بالمقصورة جوار الرئيس النميري.. رآه يلوح بيديه الاثنتين بعلامة (باي.. باي) أي وداعاً.. لم يكن واضحاً ماذا يقصد الوزير لكن الأيام التالية بعد تلك المباراة كشفت ما كان يقصده الوزير..
الوزير يعلن (سبق السيف العزل)!!
في نفس تلك الليلة وزع وزير الرياضة الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر بياناً مكتوباً إلى الصحف ووكالة السودان للأنباء هذا نصه:
(إلى جماهير الرياضة.. الحق يعلو ولا يعلى عليه.. لقد كانت مباراة الهلال والمريخ تأكيداً لإيمان مطلق بأن الرياضة تعيش كارثة حقيقية.. كانت جماهير الكرة السودانية على استعداد لتشجيع اللعبة الجميلة وليس السلوك غير اللائق.. اعتبار نتيجة المباراة ملغاة بنص قانون الرياضة لسنة 1970.. لقد سبق السيف العزل وموعدكم مع تثوير الرياضة وجماهيرها وارضاء طموحكم الأصيل مع لقاء الرئيس القائد مساء الأربعاء 28/4/1976 في مؤتمر الشباب العام بالاتحاد الاشتراكي السوداني السادسة والنصف مساء) انتهى البيان.
رئيس الجمهورية (تأبط شراً)..!!
كان واضحاً من البيان أن الرئيس النميري (تأبط شراً) بالرياضة وجمهورها بل بالشعب السوداني كله.. فالعبارة التي وردت في البيان والتي تقول (سبق السيف العزل) تعني أن هناك قراراً هو بمثابة السيف القاتل.. قد وقع ولا نجاة منه.. ماهو هذا القرار..
مؤتمر الشباب!!
بيان وزير الرياضة والشباب أعلن عن دعوة الشباب إلى مؤتمرهم العام بعد يومين أي في مساء يوم الأربعاء 28 أبريل 1976.. في مقر الاتحاد الاشتراكي (وزارة الخارجية حالياً).
اكتظ فناء الاتحاد الاشتراكي على سعته بمنظمات الشباب وبالرياضيين وما أكثرهم.. وصعد النميري إلى المنصة.. يقول الأستاذ أحمد محمد الحسن كنت أقف قريباً من النميري.. الذي أخذ يتلو في قرارات صاعقة.. ثم بدأ يهتف بكل حماس:
(لا هلال.. ولا مريخ..) .. (لا موردة ولا تحرير).
قرارات الرئيس النميري!!
تجميد قانون الرياضة لسنة 1970.
حل مجالس إدارات الاتحادات والأندية الرياضية وتسريح اللاعبين.
تجميد كل المنافسات الرياضية ما عدا روابط الناشئين بالأحياء.
إيقاف حركة الوفود الرياضية للدورات والمؤتمرات ما عدا الدورة الاولمبية.
تجميد حسابات كل الاتحادات والأندية عدا الاتحاد الرياضي العسكري واتحاد الشرطة واللجنة الأولمبية.
المهزلة لم تقف عند هذا الحد.. أصدر الرئيس قرارات بتغيير أسماء إستادات الكرة.. إستاد الهلال تغير اسمه إلى (إستاد الشباب).. إستاد المريخ أصبح (إستاد أم درمان).. دار الرياضة بأم درمان أصبحت (إستاد علي عبد اللطيف).. إستاد الخرطوم احتفظ باسمه.
كمال شداد.. هروب جماعي!!
كانت القرارات صاعقة مزلزلة لكل الشعب السوداني الذي بات غير مصدق ما يحدث أمامه. عقاب جماعي لكل الشعب السوداني، من رئيس الجمهورية الذي ينتقم من جماهير الرياضة لأنها أساءت إليه في هتافاتها.
الدكتور كمال شداد في سياق هذا التحقيق الصحفي قال لي.. إن كبار اللاعبين زرافات ووحداناً بدأوا في الهجرة الجماعية إلى خارج السودان.. كانت الأندية في الدول العربية تتلقف السانحة الذهبية..
علي قاقارين قال: إن 90% من اللاعبين هاجروا.. هو نفسه مع زميله الفاتح النقر سافروا إلى السعودية.
البروفيسور عبد اللطيف البوني – في سياق هذا التحقيق الصحفي – قال لي إنه حتى الاحتياطي من اللاعبين الذين لم يكن متاحاً لهم اللعب مع وفرة النجوم.. حتى هؤلاء الاحتياطي سافروا إلى خارج السودان وتسابقت عليهم الأندية العربية.
حتى (كرة الشراب) تعطلت!!
الدكتور كمال شداد – والذي كان مساعد مدرب الهلال حينها- رسم صورة مأساوية للوضع. قال لي إن ملاعب الكرة جفت تماماً من اللاعبين والجمهور بل حتى من النجيلة.. شداد قال إن الشعب السوداني مارس أنبل درجات الغضب الجماهيري العام.. قاطع كل الرياضات.. حتى (كرة الشراب!!) في الأحياء توقفت تماماً.. ويقول ساخراً وضاحكاً (الطريف أن الشباب لما رجعوا لكرة الشراب.. صاروا يلعبونها بالأيدي بدل الأرجل.. يعلقون كرة شراب في عمود ويتبادلون ضربها بالأيدي..) وهي لعبة شعبية جديدة اسمها (كمبلت).
المنتخب العسكري.. ضحية القرارات!!
إلى أن جاءت لحظة تاريخية فارقة..
منتخبنا السوداني العسكري كان على موعد مع مباراة حاسمة ضد منتخب اليونان العسكري في إستاد الخرطوم.. دخل الجمهور إلى الإستاد.. ولكن يا للمفاجأة الصاعقة.. التهبت المدرجات بتشجيع الجمهور السوداني لمنتخب اليونان ضد منتخبنا العسكري.. كانت رسالة بالغة القوة للرئيس النميري.. تكشف إلى أي مدى هو أخطأ في حق الشعب بقراره معاقبة الشعب السوداني كله بحرمانه من نشاطه الرياضي,
مقاطعة لقاء الرئيس النميري !!
ويروي كمال شداد.. النميري أعلن عن لقاء جماهيري في إستاد الهلال (كان اسمه تغير إلى إستاد الشباب).. توقع الشعب أن النميري سيعلن التراجع عن قرار الرياضة الجماهيرية فأقبلوا على الإستاد يحدوهم أمل كبير.. لكن خطاب النميري استمر فترة من الوقت دون أن تفوح منه أية قرارات جديدة.. هنا بدأ الشعب في مغادرة الإستاد.. غير آبهين بالرئيس الذي لا يزال يلقي خطابه.. وانتهى الخطاب بلا قرارات.. لكن النميري أدرك تماماً أنه بات معزولاً إلى أقصى درجة.
(257) يوماً من العزلة !!
في اليوم العاشر من شهر يناير 1977.. أي بعد (257) يوماً بالضبط.. حوالي ثمانية أشهر ونصف الشهر.. وفي خطابه الشهري الذي يطلق عليه (لقاء المكاشفة) أعلن الرئيس النميري التراجع عن قرارات الرياضة.. لكن بعد (خراب سوبا)..!!
سادسة المخازي السودانية العشر هذه.. سأتوقف فيها قليلاً.. فهي نموذج ولا أروع لما يصل إليه الحال عندما يبلغ التسلط درجة الغليان.. كان واضحاً أن الرئيس النميري ما بات يحس بأن هناك شعباً في البلد الذي يحكمه.. وأنه صاحب القرار و(سيد البلد) الذي في يده القلم يفعل ما يشاء وقت يشاء..
ومعه ألف حق.. ليتني أستطيع عرض كل المقالات التي طفحت بها الصحافة السودانية آنذاك (صحيفتان فقط هما الصحافة والأيام وتتبعان للاتحاد الاشتراكي).. كانت الأقلام تهلل للرئيس في كل ما يفعل.. يحل الأندية ويسرح اللاعبين.. تصفق له الأقلام.. يهتف (لا هلال ولا مريخ).. تهتف وراءه الأقلام.. يعود إلى صوابه ويلغي قراراته تعود معه الأقلام وتمجد عودة الوعي.. في هكذا حال لا يمكن للرئيس النميري أن يظن بنفسه غير ما تظنه فيه الأقلام التي تزين له هوى السلطة والتسلط.
قصة مخازي قرار الرياضة الجماهيرية لم تنته. سأواصلها في الحلقة القادمة غداً بإذن الله..
ونواصل غداً في سادسة المخازي السودانية العشر.. قرارات الرياضة الجماهيرية..
في الحلقة التالية بإذن الله..
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!