شهدت ساحة الجريمة في السودان تطورات متداخلة
بين الجريمة المحضة وذات الطابع السياسي، وبتفاصيل تتمحور حولها أبعاداً
كثيرة منها ما هو متعلق بالفوضى الأمنية في حقبة الثمانينيات من الألفية
الماضية، ومنها ما يتعلق بالتبني السياسي لبعض القضايا الإقليمية الأمر
الذي ألقى بظلاله علي سير العدالة أحايين كثيرة، وقد عمد الناس في ذلك
الوقت إلى تفسيرات ربما خاطئة لشح المعلومات المتصلة بتلك القضايا وبسبب
(التدخل السياسي) الواضح الذي نجم عنه (تغيير مسار الحقيقة).
لكن
الشاهد في الأمر أن حقبة الديمقراطية الثالثة شهدت أكبر الاختراقات
الأجنبية التي اتخذت من السودان مسرحاً لتصفية الخصوم والحسابات، والجريمة
المنظمة، لذلك فإن أغلب ما نستعرضه في هذه المساحة من جرائم حدثت في تلك
الفترة، وها نحن نتصفح كتاب الأحداث التي شهدتها بعض فنادق وبيوت
الدبلوماسيين، فإلى تلك الأحداث الشهيرة، نوثقها:
اغتيال مهدي الحكيم (1988)
تعود
السياسة لتطل بوجهها مرة أخرى عبر الأسحلة القاتلة كأداة للتخلص من الخصوم
في ظل غياب الجدل الفكري، حيث كانت الأراضي السودانية مسرحاً قدمت من
خلاله (تراجيديا) دموية للأخوين (قابيل وهابيل)، كان ذلك في يناير البارد
نسبياً من عام 1988م، حيث قدم السيد (مهدي الحكيم) المعارض الشيعي لحكم
الرئيس العراقي (صدام حسين) إلى الخرطوم بدعوة من الدكتور حسن عبد الله
الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية حينئذ لحضور مؤتمرها الرابع ولأسباب
عديدة لم يتثن للحكيم حضور الجلسة الافتتاحية، لكنه لبى الدعوة وحضر بقية
الجلسات، وعقب إحداها عاد السيد الحكيم إلى مقر إقامته (هيلتون الخرطوم)،
حيث لاحظ هو ومرافقوه وجود بعض الأشخاص في بهو الفندق يتصرفون بطريقة
مريبة، وقد زاد الشكوك أن سحنات هؤلاء الأشخاص كانت تشير بوضوح إلى أنهم من
ذات البلد التي يناهض الحكيم سلطته.
وبينما كان مرافق السيد مهدي
الحكيم يطلب من موظف الاستقبال تسليمه مفاتيح الغرف الخاصة بهما كانت
الأقدار أسرع، حيث أطلق عليهم رجلا البهو عدة طلقات أودت بحياة الحكيم
بينما أصيب مرافقه بإصابات مختلفة لم تمنعه من مشاهدة الجناة، وهم يغادرون
بهو الفندق مستقلين عربتي مرسيدس إحداهما بيضاء اللون والأخرى حمراء بلوحات
الدبلوماسية، وسرعان ما اختفت السيارتان بين ثنايا الفندق، والشوارع
الهادئة، وقد تم إسعاف الشخص المرافق إلى المستشفى، وفاضت روح الحكيم إلى
بارئها.
ورغم أن الحادث تم في وسط الخرطوم وفي بهو أحد أهم وأكبر
فنادقها إلا السلطات السودانية لم تتمكن من القبض على الجناة بعد أن أظهرت
نتائج التحقيق الأولية اشتباهها في ضلوع أحد موظفي السفارة العراقية في
الحادث، والذي تأكد لاحقاً أنه غادر السودان بعد سويعات قليلة من وقوع
الجرم المشهود، على الطائرة العراقية التي كانت ترابط على مدرج مطار
الخرطوم.
حادثة الأكروبول والنادي السوداني (1988م)
اعتاد عدد من
أفراد الجاليات الأجنبية التي كانت تقيم بالخرطوم على اختيار فنادق بعينها
توصف بالوسطية في كل شيء وهي هوتيلات أشبه بالبنسيونات (النزل)، وتمتع
بتقاليد وأنظمة خدمية راسخة، ورغم ذلك ظلت تلك الفنادق أهداف (سهلة) لتصفية
بعض الحسابات بين عملاء دوليين ومن بينها فندق (الاكروبول) العريق الذي
شهد حدثاً مأوساوياً لم تتجاوزه ذاكرة السودانيين إلى الآن.
وقعت هذه
الحادثة الغريبة في الساعة الثامنة من ليلة الخامس عشر من شهر مايو 1988،
حيث قام (خمسة) أشخاص بمهاجمة فندق الأكربول المجاور للنادي السوداني حيث
أُلقيت بداخله قنبلة متفجِّرة تزن حوالي خمسة كيلوجرامات داخل قاعة الطعام
بالطابق الثاني للفندق ما أدى إلى مصرع اثنين من السودانيين، وهما العميد
إبراهيم عبد المجيد، والعامل بالفندق الخير خلف الله، بجانب خمسة أشخاص
يحملون الجنسية البريطانية وهم (كرستوفر جون رولف) وزوجته (كلير رولف)
وطفليهما (توماس رولف ولوليس) و(سالي روكت) وهي سيدة في الخامسة والثلاثين
من العمر تعمل في مجال التدريس. بينما أصيب سبعة أشخاص آخرين من جنسيات
مختلفة لأصابات متفرقة، ثلاثة منهم سودانيون وبريطانيون وسويسري وبنغالي.
هذا وقد استقل الجناة الخمسة الفوضي التي خلفتها القنابل، فقام اثنان منهم
بمداهمة (النادي السوداني) الذي يتجمع فيه عدد من البريطانيين وبعض الذين
يتبعون إلى دول (الكمون ويلث)، وألقوا عدداً من القنابل وأطلقوا عليهم
الأعيرة النارية وأصيب أحد السودانيين العاملين في النادي.
وقد تم
القبض على مرتكبي حادثة النادي السوداني بواسطة بعض المارة الذين سمعوا دوي
الانفجارات، وذلك بعد خروجهم إلى الشارع العام، وبعد مضي أسبوعين على
الحادث صرح المناضل الفلسطيني الشهير (أبو نضال) أن العملية قامت بها ما
يعرف بـ(خلايا الفدائيين العرب) وقد تم اعتقال منفذي العملية (الخمسة) وهم
(عماد أحمد هويلك، عماد قاسم قمر، شريف عزت عطوي، مصطفى عارف الرفاعي
وإبراهيم علي فصاعي، وقد قضت المحكمة التي شكلت برئاسة القاضي (أحمد البشير
محمد الهادي) قاضي محكمة الاستئناف بالإعدام شنقاً على المتهمين، إلا أن
الحكم لم ينفذ، حيث تم إطلاق سراحهم في السابع من يناير (1991).
الخرطوم – أمير آدم حسن
error: Content is protected !!