في الأسابيع القليلة الماضية، حدثت حولنا أحداث مجلجلة، منها قيام روسيا بوتين باحتلال شبه جزيرة القرم الأوكرانية مذكرة العالم بأيام هتلر، بينما حققت الديمقراطية التركية انتصاراً بيناً يعد تركيا بالاستقرار واستمرار التقدم. وكما هو متوقع، رحب كثير من العرب بعرس تركيا الديمقراطي، ولكن البعض احتفل بعدوان بوتين باعتباره ‘ضربة لقوى الاستكبار’، بينما يردد آخرون مقولات أنظمتهم الدكتاتورية الفاشلة في ذم أردوغان والأتراك.
يبدو أن المرض العربي حالة مستعصية أكثر مما تخيل الكثيرون. فهنا لا يكتفي البعض بالتصفيق لمجرمي العرب، وما أكثرهم، بل يصفقون كذلك لكل قاتل كذاب أشر، مهما كانت هويته. أما إذا شهدنا قصة نجاح، فإن الكثيرين يتمنون أن تتحول إلى فشل بأسرع ما يمكن، حتى لا تفضح فشلنا المزمن.
نفهم أن تتمسك الأمم المهزومة بكل قشة. فقد صفق العرب لانتصار اليابان على روسيا في عام 1905، واستبشروا به باعتباره أول انتصار لدولة غير أوروبية على أوروبا منذ بداية العهد الاستعماري. ورحب كثيرون بانتصارات الثورة البلشفية، بل وصفق غير قليل من العرب لهتلر، بمن في ذلك بعض القيادات الإسلامية. وهناك بعض العذر لعرب ذلك الزمان في مواقفهم، لأن كثيرين شهدوا نهضة روسيا وألمانيا بعد اندحارهما في الحرب العالمية الأولى، وتحول كل منهما إلى قوة عظمى في زمن قياسي، وهو ما كان يتمناه العرب لأنفسهم. ولم يكن كل أهل ذلك الزمان على اطلاع كامل على الفظائع التي كانت ترتكب تحت ستار تلك الأنظمة.
بنفس القدر، نفهم تصفيق البعض لطغاة مثل أتاتورك وعبدالناصر وصدام وغيرهم، بحجة أنهم أنقذوا بلدانهم من التبعية ووضعوها على طريق النهضة. ولكن غير المفهوم أن يستمر الإعجاب بعد أن تكشفت الفظائع التي ارتكبوها في حق شعوبهم، والأدهى من ذلك، بعد أن قاد الطغاة العرب بلدانهم والأمة لشر الهزائم.
في كل بلد آخر في العالم، تكفي أصغر هزيمة لإسقاط الحاكم المستبد ومعاقبته. ففي عام 1974، سقط عسكر اليونان لأنهم هزموا جزئياً في قبرص، وفي عام 1982، انهار الحكم العسكري في الأرجنتين بعد هزيمته في حرب الفولكلاند. وفي الحالين لم تكن أراضي الدولة المعنية قد استبيحت، وإنما هزمت في معركة خارج بلادها. أما نحن، فكل البلاد تسقط، ولكن الحاكم يبقى، ثم يجد من يصفق له، حتى بعد أن يهزم، ويهان، ويموت كمداً أو إعداماً.
في سوريا، يهتف البعض لطاغية دمر البلاد وارتكب من الفظائع ما يخجل منه يزيد والحجاج ونيرون وهتلر. وليس الإشكال في أنهم يهتفون لزعيم مجرم قاتل، بل في أنهم يهتفون لفرد، لا لوطن ولا لقضية ولا لشعب. بل نسمع البعض (ومنهم ‘مفكرون’ ومتهمون بحيازة عقول) يقول إن هذا الزعيم الأوحد لو ذهب فإن البلد ستنهار وتمزق. وليست القضية هنا في أن البلد انهارت وتمزقت في وجوده، بل لأنه لو كان هناك بلد لا تسلم إلا إذا كان على رأسها طاغية مجرم قاتل، فلا سلمها الله أبداً!
بالعودة إلى بوتين، فإنه إن كان يحمد له أنه أعاد روسيا إلى الملعب الدولي بعد أن أوشكت على الانهيار، فإنه لم يحقق هذا النجاح الجزئي إلا بعد أن دمر إنسانيتها وحول شعبها إلى عبيد. فقد دمر بوتين الشيشان على رؤوس أهلها، وقتل منهم بحسب بعض التقديرات ما لا يقل عن مائتي ألف إنسان. ويبلغ عدد الصحافيين الذين قتلوا في عهد بوتين قرابة مائتين وخمسين. ولا تنافس روسيا في لقب أخطر دولة على حياة الصحافيين في العالم إلا دولتان، هما الجزائر في أيام الحرب الأهلية، والعراق بعد غزوه (والحمدلله، فلنا دائماً قصب السبق في بعض الأشياء).
امتد إجرام بوتين إلى جيرانه، فقد غزا جورجيا واقتطع بعض أراضيها، ودعم دكتاتوريات دول آسيا الوسطى الإسلامية، وهدد معظم جيرانه الآخرين، وآخرهم أوكرانيا التي اقتطع بعض أراضيها وما يزال يهددها. وفوق ذلك أعان كل كذاب أشر من الطغاة أمثاله، من سفاح سوريا إلى مجنون كوريا الشمالية.
لعل الطريف هو أن بوتين عندما كان يدافع دفاع المستميت عن عامله على سوريا، كان ووزير خارجيته يرددان بلا كلل أن سوريا دولة ذات سيادة، وأن التدخل في شأنها غير مقبول حتى ولو ذبحت كل أفراد شعبها. ولكن ها هو يضرب بسيادة الدول ووحدة ترابها عرض الحائط، ويعيد العالم إلى عصر ما قبل الأمم المتحدة، حينما كانت الدول تغزو جيرانها كل ما عن لها على سنة المغول والتتار. والطريف أنه يزعم أنه تحرك للدفاع عن ‘المواطنين’ الروس المهددين. وهذا يفسر تقييمه لإنسانية السوريين مقابل الروس. فيكفي أن يهدد روسي واحد للتدخل، أما قتل مائتي ألف سوري وتشريد نصف سكان البلاد، فهو شأن داخلي لأنهم نعاج يملكها الأسد!
لقد ظللنا نلعن الاستعمار وأهله، ولكن يبدو أنه لو حدث ما يتمناه البعض من صعود لنجم بوتين، فإننا لن نرى فقط عودة الاستعمار، ولكن عودة الاستعمار الأكثر بربرية وهمجية، مثل استعمار إيطاليا الفاشية لليبيا، وهجمة النازيين على جيرانهم وكثير من مواطنيهم، والاستعمار السوفييتي لدول جوار روسيا، وكلها شر أنواع الاستعمار.
نحمد الله على دفعه الناس بعضهم ببعض، وتسليط الظالمين على بعضهم، لأنه لولا ذلك لما تحقق لكثير من الشعوب استقلالها. ولكن إلى متى يدمن العرب الانحياز من ملك طاغية إلى آخر؟ ألم يحن للعرب أن يتحرروا من طغاتهم أولاً، بل وقبل ذلك من الحنين إلى طاغية يحميهم من آخر؟ يبدو أن شعور العبودية تأصل عندنا حتى أن بعض من يدعي أن يتحدث باسم الشعوب لا يتصور نفسه ولا شعبه حراً. فنحن دائماً نتوق إلى حكم طاغية محلي هو بدوره عبد لطاغية أجنبي هو شر منه. ومن كان هذا حالهم، فهم لا يستحقون الحرية.
د. عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
error: Content is protected !!