أجمع كل فلاسفة السياسة أن شرعية نشوء سلطة حاكمة إنما تبرر بحاجة الناس إليها لدرء الفوضى والنزاعات والدفع الجماعى المنظم للمضار والمفاسد والتضامن الجماعى لتحقيق المصالح وجلب المنافع.بيد أن هذا التبرير النظرى لا يصدقه الواقع فى أحيان كثيرة أو على الأقل ليس فى جميع حيثياته.فلطالما كانت سلطة كثير من الحاكمين تشهياً بهوى الأنفس وظلما وفسادا.وظل الكثيرون منهم لا يجدون تبريرا لوجودهم وإستمرارهم فى السلطة إلا الكلام العفو أو الكلام المكرور المسهوك الذى لايفتقر إلى الصدقية فحسب بل قد يفتقر إلى التماسك اللفظى والمنطقى.
هل الشرعية مسألة خطابية؟ :
رغم غرابة السؤال فإنه يكتسب شرعيته من واقع الحال حيث أصبح الحصول على السلطة والبقاء فيها يعتمد إلى مدى بعيد ليس على ماتفعل الحكومات أو لاتفعل بل إلى ما تقول أو لا تقول.وبخاصة وقد أصبح أهم وسائل السلطات الحاكمة على إشهار شرعيتها هى زعمها بتصديها لأخطر المشاكل القائمة ومواجهتها لأهم التحديات المنتصبة سواء كانت قضايا تحرير أو تعمير مثل خطابات التحرر من الإستعمار الجلى أو الخفى أو مناهضة التخلف والفقر وتحقيق العدل الإجتماعى أو تحقيق الوحدة الوطنية أو القومية أو وحدة أهل الملة. وقد أشرنا إلى أن غالب الخطابات السياسية التى تنشد الشرعية إنما تسبح فى هذه الفضاءات التهويمية فى غالبها، على إختلاف فى التركيز بين التيارات المختلفة والمتنوعة.والأمر العجيب أن مثل هذه الخطابات رغم تهافتها اللفظى والمنطقى فى غالب الحال ، أثبتت نجاعتها فى حمل أصحابها من الملأ السياسى إلى السلطة وأعانتهم على البقاء بها. وذلك رغم تجارب الشعوب المتكررة مع هذه الخطابات الهواء الجوفاء،الركيكة المبانى المسهوكة المعانى. وحديثنا فى مقامنا هذا إنما ينصب على المنطقة العربية ونحن حل بهذه المنطقة العربية. والعرب أمة إشتقت إسمها من العُربة والإعراب أى من التعبير والإفصاح وكلمة تعبير هى نفسها حالة إقلاب لكلمة عرب.فاللسان المعرب الفصيح هو أهم صفات العرب.فهم أهل الفصاحة والبلاغة والكلام ، حتى أن إعجازهم وتحديهم كان إعجازا بلاغيا بيانيا فالقرآن قد تحداهم مرارا وتكرارا ونازلهم فى ميدانهم ودعاهم أن يأتوا بسورة من مثله أو حتى بآية واحدة بل لقد أقروا بالعجز إمام بلاغته على لسان الوليد بن المغيرة إذ يقول فى وصف القرآن (والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)، فأمة العرب هى أمة الكلام كانت وما تزال رغم ما أعترى قدراتها الإعرابية والتعبيرية من وهن كما وهن لديها كل شىء فإنها لا تزال تقارب غالب تحديات وجودها بالكلام، ولكن شتان ما بين اليوم والأمس فبالأمس كانت الفصاحة والبلاغة هى الصفة والنعت للعرب وصارت الفهاهة والركاكة هى غالب أمرم اليوم ولايزال ساستها وقادتها يسوسونها بالكلام وأى كلام.ورغم إختلافى مع محمد عابد الجابرى فى أمور وإتفاقى مع فى أمور أخرى فإنه مما يوسفنى الإتفاق معه إلى مدى غير قريب فى خلاصته التى خلص إليها بأن( العقل العربى قد فشل فى بناء خطاب متسق حول أية قضية من القضايا التى عاشتها الأمة فى المائة سنة التى مضت) ولئن كان لى من إستدراك فأقول إن عقل النخبة العربية التى فرضت نفسها على الأمة العربية بمختلف تياراتها قد فشل فى إنتاج فكر وخطاب قادر على التصدى لقضايا الأمة ومعضلاتها فى واقع الحال.فما هى المشكلة؟ هل هى مشكلة خطاب أم مشكلة أفكار؟ أم مشكلة سلوك وأخلاق؟لا شك عندى أن الفشل مرتجعه لخلل فى كل ذلك.فمرده إلى الفشل فى إنتاج الأفكار وفى التعبير عنها برصانة وتدقيق وفى الإلتزام بها والإستقامة عليها.
أهل السياسة العرب من هم؟
قلنا إننا لن نتعرف على الخطاب السياسى قبل أن نعرف من هم أهل السياسة فمن هم أهل السياسة فى منطقتنا العربية؟ هل هم أناس إرتقوا إلى سلم القيادة وتسنموا سدتها بما كسبوا من ولاء عامة الناس لهم وبقدرتهم على إقناع الناس بخطاب يلامس ضمير الناس ويحرك هممهم لمجابهة التحديات التى تنتصب أمامهم؟إن أجبنا بالإيجاب كنا أقرب للكذب منا إلى الصدق.فأهل السياسة فى المنطقة العربية إما شيوخ عشائر قفزوا من زعامة القبيلة إلى سدة الدولة أو عسكريون قفزوا من ثكناتهم إلى قصور الحكم، أو مثقفون تحالفوا مع هؤلاء تارة ومع الآخرين تارة أخرى أو معهما كلاهما ليتبلغوا إلى حكم لايستوى فيه الحلفاء والنصراء فى الحقوق مع غيرهم فهؤلاء ليسوا إلا أوليجاركية بلغة إفلاطون ولكنها أوليجاركية جديدة. فلئن كانت أوليجاركية إفلاطون هى مكونة من النبلاء والأغنياء فإن هذه فئة من المتعلمين التى تسمى نفسها نخبة أو صفوة تتميز بالتعليم العالى أو السلطة العسكرية وغالبا ما تتقوى بالنسب والصلات القبلية ثم هى تتقوى من بعد بالمال الذى تحوز النصيب الأوفى منه أما نهباً مباشراً فى غالب الحال أو إمتيازات غير مستحقة. والقرآن أسمى هذه الأوليجاركية (الملأ) فى أكثر من آية.ولئن كانت السياسة أكثر إنفتاحا فى المجتمعات الغربية بحيث يتاح مرارا للعامة التنافس عليها فإن العامى فى المنطقة العربية لن يبلغ إلى السلطة مالم تعلو مرتبته فى السلطة العسكرية ثم يتحالف مع قوى تقليدية عشائرية أو طائفية للبقاء فيها.لذلك فإن الوصول للسلطة لا يعتمد على إقناع فئات الشعب بل إقناع الوكلاء العشائريين أم الطائفيين أو التحالف معهم بعد التوصل إلى السلطة بالغلبة العسكرية.فالخطاب السياسى يتوجه بالأساس للحلفاء لا عبر الجمل والعبارات ولكن عبر الإشارات والتلميحات.ولاعجب إذا أن يكون الخطاب ضعيفاً فى بنيته البلاغية غامضاً فى تأديته للمعانى ولكنه يبقى ناجعاً فى تأمين الوصول للسلطة والبقاء فيها طالما أن الملأ الذى يستند إليه النظام لا يزال متحداً يسند بعضه بعضاً ويتبادل المنافع والمصالح بوجه يرتضيه أركانه ويريده سوادهم الأعظم إن لم يكن الجميع.وأعجب ما فى الأمر أن هذه السياسة النخبوية تحوز على رضا جمهور غفير من الناس فيقبلون خطابها ويعززون إستمرارها فى السلطة ولو أخلفتهم الوعد المرة من بعد المرة.فماهو تفسير عدم تفكك شرعية النظم رغم إخلاف وعدها ورغم بؤس خطابها وتهافته من الناحيتين البلاغية والمنطقية ؟هل هو حالة فوبيا من عدم اليقين؟ هل هو فزع من فتن ليلها كنهارها كما نراها اليوم فى الشام واليمن؟ أم هي عقيدة قدرية تؤمن أن الحكام يحكمون بقدر من الله وأنه لا يجوز منازعة أقدار الله والتمرد عليها؟
الخطاب السياسي بين الجدية والاعتباطية:
وسؤال آخر هل يأخذ أهل السياسة خطابهم مأخذا جادا فيتفكرون فى ألفاظ ومعانى ما ينثرونه على الناس من كلام ؟ أم هو حديث عفو مثل المحادثة العابرة لا يعتد بها القائل أو السامع بعد مبارحة المكان؟إجابتى من تدبرى لواقع الحال وملابستى لواقع السياسة أن الخطاب السياسى فى غالبه أدنى إلى الإعتباطية منه إلى التدقيق فى الألفاظ والمعانى. وحتى إذا صيغت جمله وعباراته بلغة رصينة متينة ومعانيه بمنطق فصيح مبين فإن السامع والقائل فى غالب الأحيان يعتبر انه أبن إبانه وموقفه الذى قيل فيه ولا يكون الإلتزام الأدبى أو الفعلى به قويا متيناً. ينبيك عن ذلك كثرة العبارات المسكوكات فيه ثنياه. ومقصدى بالعبارات المسكوكات هى الجمل والعبارات والأقوال والأمثال المحفوظة المكرورة التى يؤتى بها لملء فجوة فى الكلام لتقويته أو لتزينيه.ولغتنا العربية بما لها من تراث تليد فى الأقوال والأمثال والعبارات لا تعجز المقترض ولا ترد المستدين. وكثير من هذه التعابير الجاهزة المعدة للإستعمال فصيح وبليغ وبخاصة الأمثال والأشعار والأقوال الحكيمة ولكن هنالك أيضاً ما يربو على ذلك من العبارات الركيكة والأمثال الرديئة والأقوال التى تقف من الحكمة على الضفة الأخرى . وكثير من الناس ومن أهل السياسة حاطب ليل يجمع فى سلته الحطب النافع مع الثعبان العقور. وأما الموفق من أهل السياسة فسيجد فى لغتنا العربية معيناً ثراً من هذه العبارات الجاهزة التى أصبحت مثل المسكوكات أو الأكليشيهات التى يطبع بالضغط عليها نسخا لا حصر لها ولا عد. وهذه المسكوكات ظلت حية ومتداولة منذ عصر الجاهلية إلى عصور الإسلام وظل بعضها سائراً ودارجاً فى لغة التخاطب العام فى الحياة اليومية والحياة الثقافية على حد سواء. وهى تجىء على هيئة تراكيب لغوية وأبيات شعرية أو عبارات نثرية أو مصادر سماعية وتنقل كما هى وترصف رصفاً فى سياق الكلام.وهذه المسكوكات عند الشخص البليغ كنز ثمين يستعين به على تبليغ المعانى الدقيقة والإشارات الحصيفة. وخير هذه المسكوكات هى الأمثال السائرة التى تؤدى المعنى الدقيق عميق الدلالة بغير تعقيد ولا غموض.والأمثال السائرة إن هى وضعت في مواضعها الصحيحة فإنها أداة بلاغية مؤثرة وقادرة على تبليغ المعانى الواسعة أو الدقيقة العميقة .بيد أن الأكثر شيوعا فى لغة الخطاب العام والخطاب السياسى ليست هى الأمثال أو الأشعار أو الحكم وإنما العبارات والجمل والتعابير الإصطلاحية التى قلما تستخدم فى ما يناسبها من مواضع كأن يقول القائل إنى لا أملك عصا موسى فى التعبير عن إستحالة إنجاز أمر ما.أو يتهم أحدهم الآخر بتعدد المعايير أو مسك العصا من منتصفها أو أن يتهم أحد من الناس غيره بالصيد فى الماء العكر أو بذر الرماد فى العيون.أو عبارة أعطاه الضوء الأخضر للسماح بعمل شىء.ومثل أن يقال أنظر للجزء الملىء من الكوب أو أن تقول أتحدث من خارج الصندوق أى بغير المعتاد من القول. ولن نستطيع أن نحصى هذه المسكوكات اللفظية التى أصبح الخطاب السياسى متخما بها.ودخل للخطاب السياسى إلى جانب أمثال هذه الإكليشيهات اللفظية عبارات كثيرة ركيكة وهى غير صحيحة صرفاً ونحواً فى أحيان كثيرة ولكن تنتشر(إنتشار النار فى الهشيم) (هذه مسكوكة هى الأخرى ولكننا نضعها موضعها من الكلام)وقد شاعت عبارات فى الآونة الأخيرة فى لغة السياسة حتى أصبحت وكأنها صرعة لغوية مثل عبارة التقييم والتقويم ويقصدون بها التقدير والتقويم وقد لا يعلمون أن كلمتى تقييم وتقويم كلمة واحدة سوى أن أولاهما خطأ شائع.،عبارة سمجة أخرى هى عبارة (الإنجاز والإعجاز) ومثل عبارات أن (الأمر تحت السيطرة )(والضرب بيد من حديد)فإلى أى مدى تفلح أمثال هذه المسكوكات فى توصيل خطاب بليغ مؤثر للسامعين، وما أثر نجاحها أو أخفاقها فى فعل ذلك على المشهد السياسي فى بلد ما.
أواصل بإذن الله
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!