كانت خاتمة مقالنا السابق أن الخطاب العربي الدارج هو خطاب بلاغة وليس خطاب إتصال ما يعني أن إستثارة الإعجاب ببلاغته تبقى أولوية تعلو على مُكنته في توصيل الأفكار أو تحقيق الإقناع.والخطابة فى أصلها هى فن توصيل المعاني وإستمالة السامع، ولكنها لما جنح بها الجانحون ناحية الصور المتخيلة والأساليب التزينية والمبالغات اللفظية والعبارات المحفوظة،صارت أقرب للدعاية منها للإعلام أو الإقناع.والبلاغة التي مقصدها توصيل الأفكار وتحقيق الإقناع بها جدلية حوارية فى طبيعتها بينما البلاغة التي مقصدها الدعاية محفلية إحتفالية في جوهرها.
هوية السياسي وهوية خطابه:
لاشك أنه من العسير التعريف بالخطاب دون التعرف على صاحبه، فهوية الخطاب جزء من هوية صاحبه . ومثلما يُتخذ الخطاب ذريعة لتمرير الأفكار فهو يتوسل به للتعريف بصاحبه. وقد يكون التركيز على بناء صورة إيجابية لدى السامع عن صاحب الخطاب أهم فى الأولوية لدى فئات من أهل السياسة إن لم نقل جلهم ، من إيصال اقكار السياسى إليه وتجشم إقناعه بها.وهذا يعنى أن بناء الصورة يأتى عند أهل السياسة وبخاصة فى منطقتنا وبلادنا أولوية فوق كسب إقتناع السامعين بالفكرة. ونعنى بذلك أن خطاب الخطباء من أهل السياسة وإن كان يحمل رسالة ما، ويحاول نشر فكرة عامة أو محددة مهما كانت بساطتها، لكنهم يهتمون أكثر من ذلك، أو ربما من خلال ذلك، ببناء صورتهم بصفتهم سياسيين أو خطباء أو حزبيين أو تنفيذيين. وهم وإن كانت الرسالة والأيديولوجيا من أهدافهم فهى إنما تُستخدم لتأسيس هوية مفضلة لدى السامعين .فالخطاب السياسى كله يشتمل على رسالة وعلى هوية ولكنما يختلف التناسب والأولوية حسب طبيعة أهل السياسة وطبيعة السياسة السائدة نفسها . فإن كانت سياسة تدبير وإستصلاح برزت الرسالة وتسنمت المحل الأرفع ،وإن كانت سياسة تكالب وصراع كانت الأولوية للهوية ولبناء الصورة الإيجابية عن السياسى ، الأمر الذى لا يتحقق في غالب الأحوال.
ونحن إذ نتحدث عن الهوية والخطاب الهوياتي لا نتحدث فقط عن الخطاب الفردي والهوية الفردية، بل يشمل ذلك الهوية الجماعية حزبية أو أيدولوجية. فالسياسة المعاصرة أضحت ذات طابع مؤسساتي فالسياسى فى كل حال متحيز إلى فئة حزبية أو سياسية أو أيدولوجية. وهوية الخطاب هى ما ترسم صورة تلك الفئة وما تحدد هويتها بأكثر مما تحدده الأسماء والمقار والمشاركات العامة .وأما الخطاب السياسى للأفراد المنقطعين ( من يتسمون بالمستقلين) فهو خطاب منقطع مثلهم غير متصل.ذلك أنه خطاب بما ينبغى أن يكون لا خطاب بما يمكن أن يكون. ذلكم لأن طبيعة السياسة أنها ذات صلة بالعمل الجماعى والتدبير المدنى ، ولا يصلح المنفرد المنقطع أن يقوم بأعبائها.ثم إن خطاب المنفرد خطاب معيارى أخلاقى للتحسين والتقبيح لا للإرشاد والتدبير وهو فى غالب الأحوال يجنح للتركيز على تحسين صورة الخطيب بأكثر من التركيز على فكرته.فالمنتمى إلى جماعة بسبب إحساسه بهذا الإنتماء فإنه سوف يتذكر الأفكار التى تصله بالجماعة ولا ينساها، لأنها وسيلته لكسب مودة الجماعة إن لم يكن كسب ولاءها.وخطاب السياسي المنفرد هو أشبه شىء بخطاب المنابر الدعوية والدينية الدارجة في بلادنا.نعني بذلك أنه معياري أخلاقي فى أحسن أحواله أو هو متكلف متزيد فى غالب أحواله . ولا يخلو فى أحيان كثيرة من التركيز على بناء صورة إيجابية للخطيب، ولو على حساب إيصال مضامين صحيحة ودقيقة لخطابه الدينى أو التوجيهى والإرشادى.وقد يتداخل الخطاب السياسي والخطاب الدينى المنبرى تداخلاً لايحقق المقصد السياسي من توظيفه في غالب الأحوال، بينما يؤذى لُحمة التماسك المسجدي والدعوي بغير طائل .وهذا يجلبنا إلى التنبه إلى أن الخطاب السياسى فى منطقتنا بات ينقسم إلى خطابين ، خطاب منطلقاته دينية وخطاب منطلقاته ومرجعياته لا دينية ، وكلا الخطابين له إستمداده وتوظيفه للبلاغة المستمدة من مصادر معرفية دينية. وصار الخطاب يُقسم حسب ميوله نحو المحافظة أو التغيير إلى خطاب يمين وخطاب يسار، ثم إنه صار إلى تقسيم جديد يصنف على أساس أيدولوجى، فما كان إشتراكى النزوع صنف يساراً ، وإذا أبعد النجعة من الفكر الإجتماعى صنف يميناً ، وفى كل الأحوال فإنه تصنيف أدنى إلى الإعتباطية منه إلى المنهجية.
خطاب التدبير وخطاب التأثير:
أوضحنا أن غرض الخطاب هو ترويج فكرة والإقناع بها وتحفيز الناس على العمل بها أو مساندة من يعمل بها . وغرض ذلك كله هو الاستصلاح بمعنى تدبير الأمر العام، بما يتفادى الضرر ويدرءه ويجلب المصلحة والمنفعة وينميها. فالخطاب بذلك ﺣﻘﻞٌ ﻟﻠﺘﻌبير ﻋﻦ اﻵراء وإقتراح اﻷﻓﻜﺎر و تبنى المواﻗﻒ ﺣﻮل اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ. وهى مسائل ﻣثل ﺷﻜﻞ منهج الحكم واﻗﺘﺴﺎم اﻟﺴﻠﻄﺔ وربما إقتراح أطرها والتمييز بين أﻧﻮاﻋﻬﺎ . وقد بينا أن الخطاب اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﺧﻄﺎب إﻗﻨﺎعي ﻳﻬﺪف إلى سوق السامع للخطاب إﻠﻰاﻟﻘﺒﻮل واﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺑﺼﺪﻗﻴﺔ أداء من يخاطبه . وذلكم ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻮﻇﻴﻒ الحجج والبراهين.ثم هو من بعد كونه إقناعيا هو تحفيزيا يحرك نوازع العمل والمشاركة فى نفوس المخاطبين ، ويعطى شرعية للمقاصد العملية من خلال التسليم بها ، والمشاركة فى تحقيقها . وهو يعطى فى ذات الوقت شرعية للفاعلين السياسيين عبر إضفاء الشرعية على أفعالهم ومشاريعهم ورؤاهم لحل المشاكل القائمة ، أو الفرص السانحة أوالصراعات المحتدمة والنزاعات العالقة ويضمن تصنيفهم إلى جانب الحق والصواب.والشرعية إنما تكتسب ببناء صورة إيجابية للسياسى. فكل سياسى وإن أتى للسلطة غلبة إنما يسعى لتأسيس أو تأكيد شرعيته السياسية . والشرعية التى نشير إليها ههنا ليست المشروعية القانونية ، فقد يأتى الحكام بصورة دستورية وقانونية سليمة ولكنهم قد يفقدون الشرعية السياسية من بعد لأسباب مختلفة ومتعددة بمفارقتهم لقواعد الحكم الراشد .فالشرعية السياسية تعنى الحق فى تسلم الحكم والإستمرار فيه. وقد كان مونتسكيو بين فلاسفة الغرب هو أول من أشار إلى مبدأ المشروعية القانونية والدستورية ولكن معنى الشرعية السياسية أشمل من معنى المشروعية القانونية، لأنه يشمل إستخدام السلطة وإن جرى التوصل إليها بصورة دستورية أوحتى غير دستورية ، لجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة . ومفهوم السلطة الشرعية إنما يتبلور من خلال الثقافة السائدة والتنشئة الإجتماعية وهو شديد التأثر بالقيم والأفكار والأخلاق السائدة فى المجتمع . كما أنه يتأثر بمدى تواصل وتأثر مجتمع ما بالمجتمعات الأخرى مقارنة بها أو تأسياً بنماذجها . وكذلك فإن المعارض المتشوف للسلطة يسعى هو الآخر لتأسيس شرعية سياسية لمعارضته ولعرض شخصه وأفكاره وتقويماته بديلاً لما هو كائن وقائم.فكما أن السياسي فى الحكم والسلطة يسعى إلى شرعنة إستمراره بها، فإن السياسي خارجها يسعى إلى إضفاء الشرعية على أفعاله فى معارضة السلطة القائمة دعوته لإستبدالها بما يدعو له من شخوص وأفكار وأحزاب. ولا شك أن الخطاب السياسى يزعم فى كل الأحوال أنه خطاب إصلاح وتدبير، ولكن صدقية هذا الزعم من تحققه فى الواقع أمر آخر، وأما أن غالب الخطاب فإنه يُتقصد به إحداث تأثير إيجابى لصالح رسم صورة حسنة للسياسى .وهو الأمر الغالب الذى لا يمارى فيه إلا مكابر. وكل خطاب من هذه الخطابات إنما يسرح فى فضاء من الفضاءات التى يؤثرها .فبعض الخطابات تتحرك فى فضاء المظالم الإجتماعية وغالب الخطاب الإشتراكى يسبح هنالك. وخطابات أخرى تتحرك فى فضاء مناهضة التخلف وتحقيق التقدم الحضارى وغالب خطابات الإسلاميين كذلك، وخطاب يتحرك فى فضاء الدعوة للوحدة والتوحد سبيلاً للتقدم وهو خطاب القوميين بمختلف أصنافهم.. وخطابات تتحرك فى فضاء التنمية الإقتصادية والسياسية، وغالب تحرك الأحزاب الليبرالية صدقت أو كذبت فى ليبراليتها تسبح هنالك. ولايعنى هذا أن التداخل بين الخطابات لا يقع ولكننا نغلب الأمر الغالب ، فكل مقاربة لتصنيف أمر من الأمور إنما تفعل كذلك. وإذا أردنا محاكمة خطاب الإشتراكيين إلى واقع العدالة الإجتماعية إستبان لها حظ خطابهم من التأثير على واقع الحال . وإذا أردنا محاكمة القوميين إلى واقع حال الوحدة لوضح لنا حظ مجمل خطابهم من التحقق فى واقع الدول والمجتمعات .وإذا نظرنا إلى موقع الأمة المسلمة فى متدرج الصعود الحضارى ومتدارك التخلف لعلمنا حظ خطاب الإسلاميين من التأثير على وقائع الأحوال ، فالجميع يتقاصر كلامهم عن مرامهم . وحديثنا عن فضاءات متنوعة لايعنى أن الجميع لا يجمعهم فضاء واحد هو الفضاء الإجتماعى و الوطنى الذى يشملهم جميعا . وهو فضاء منقسم بين نخبة وعامة ولكل قسم لغته وأولوياته وهمومه ومشاغله حتى لكأننا نتحدث عن مجتمع رأسي من طابقين لامجتمع أفقي يتفاعل فيه المتعايشون ويتواصلون. ولما كان الأمر كذلك فإن ناتجته أن جميع من ذكرنا من أصحاب الخطابات إنما يجمعهم خطاب واحد رغم تنوعه هو خطاب النخبة لبعضها البعض وخطابها للعوام . وخطاب النخبة كله خطاب غربة وإغتراب عن واقع حال الجمهرة الغالبة من عوام الناس.هو خطاب لاترى فيه النخبة إلا نفسها ولا تخاطب إلا نفسها وأما سائر الناس فيستمعون وإن شاؤوا فيمتنعون.
نواصل بإذن الله
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!