ذكرنا فيما مضى أن سلاطين باشا ولد فى فيينا وينحدر من أسرة يهودية الأصل، كأسرة أمين باشا الذى حكم إقليم اللادو فى جنوب السودان. وبعثه غوردون باشا إلى دارفور لإخماد الثورات التي اندلعت وانتصرت للمهدية. وتعرضنا لإسلامه واستسلامه وختانه.
بعد هزيمة هكس على يد المهديين فى غابة شيكان القريبة من الأبيض صار السودان الغربي كله فى يد المهديين. وفى شرق السودان استطاع الأمير عثمان دقنه أن يبيد الجيوش المصرية/البريطانية فى سنكات. أما فى وسط السودان فإن قريب المهدى ود البصير انتصر على جيوش الحكومة فى عدة مواقع، فلم يبق للحكومة إلا الخرطوم وشمال السودان.
أذاع غوردون منشوراً بتعيين المهدى حاكماً على غرب السودان – كردفان ودارفور.
يقول سلاطين أن المهدى لا بد أنه تعجب من غوردون، إذ كيف يمنحه بالكلام ما حصل عليه هو بالسيف!!!
وقد رد عليه المهدى بخطاب طلب فيه منه أن يسلم الخرطوم ويحقن بذلك دمه ودماء المواطنين.
ومما ذكره سلاطين أيضاً أن الخليفة عبد الله يعتبر اليد اليمنى للمهدى وكان أقرباء المهدى يكرهونه لهذا السبب. ولكن الخليفة كان يعرف تماماً أن المهدي لا يستطيع تدبير الأمر بدونه.
أنظروا وتأملوا……. كيف تبدأ الفتن والخرطوم لم تفتح بعد. ثم أن الخليفة عبد الله ناصر المهدي بنفسه وماله وأهله، بل هو الذى أدخل فكرة المهدية فى مخيلة المهدي، والله أعلم. وكاتب المقال دائماً ما يقول أن عظمة المهدية أنها صنعت قيادة للسودان قوامها المهدى القادم من جزيرة لبب فى أقصى شمال السودان، والخليفة عبد الله القادم من أقصى غرب السودان، وعثمان دقنه أمير شرق السودان، وحمدان أبوعنجة فارس الجبال. ولكن حكمة الله أوجدت فينا منذ قديم الزمان فئة لا تعرف غير إقصاء الأخر منهجاً وسبيلاً.
صدر منشور عن الإمام المهدي عظم فيه من مقام الخليفة ووظيفته، يقول فيه (أن الخليفة عبد الله هومنى وأنا منه وقد أشار إليه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، فتأدبوا معه كتأدبكم معي وجميع ما يفعله بأمر النبي صلعم).
وقال أيضاً: (وإنى مللت من النصح والمذاكرة لأقاربي الأشراف الذين تمادوا فى الطيش والغواية وظنوا أن المهدية لهم وحدهم. فقد أهلكهم أحمد ود سليمان بالدنيا). ثم مسك ثوبه ونفضه ثلاث مرات وقال أنا بريء منهم فكونوا أنتم شهوداً علىّ بين يدي الله تعالى. فنكس الأشراف رؤوسهم.
وصل سلاطين باشا المهزوم المكسور إلى الرهد بصحبة اليوناني زيجاده وسعيد بك جمعة، وسمعوا صوت الأمبابة التي تؤذن بمقدم الخليفة. ثم كان هنالك عرض الفرسان بخيولهم ورماحهم……. فى شأن الله ورسوله.
بعد العرض جلس سلاطين وصحبه على الحصير فوق الأرض، وجلس خليفة المهدي على عنقريب – سرير سودانى -، وأكلوا العصيدة مع اللحم. وتبادلوا الحديث فوصف سلاطين الخليفة بالصرامة مع العدل.
عبد الرحمن بانقا صديق سلاطين السابق حذره من الكلام وألا يثق بأحد. فأثر كلامه فى نفس سلاطين ونقشه فى قلبه.
ولم يمض كثير وقت حتى كانت مقابلته للمهدى وطلب من سلاطين أن يخلص النية فى خدمة المهدية كما خدم مولاه السابق لأجل المال الزائل، وأن خدمة المهدية هي خدمة للإسلام ينال المرء بها سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.
فأسرع سلاطين وبايع المهدي: (بسم الله الرحمن الرحيم. بايعنا الله ورسوله وبايعناك على توحيد الله ولا نشرك بالله شيئاً. ولا نسرق ولا نزنى ولا نأتي البهتان ولا نعصيك فى المعروف ولا نفر من الجهاد).
بعد هذه البيعة صار سلاطين ملازماً للخليفة وتعرف على شقيق الخليفة يعقوب (جراب الرأي)، والذي نصحه بأن يخدم الخليفة بأمانة وإخلاص.
استعان المهدي وخليفته بسلاطين كترجمان فى مسألة أولفيه الفرنسي والذي جاء لتقديم مساعدة الفرنسيين للمهدي. ولكن المهدي رفض معونة غير المؤمنين وقال أنه يعتمد على معونة الله ونصره له بواسطة الملائكة والأنصار.
حسين باشا من شمال الوادي غضب من هذا الفرنسي ونعت المهديين بالقتلة واللصوص واستعباد النساء والبنات. وفيما ذكر أن العبد الأسود لا يمتاز على الحيوان إلا فى أنه يقدر على حرث الأرض.
ثم حرر سلاطين خطابات من المهدى إلى غوردون وقنصل النمسا هانزل، وقد كتبها سلاطين بالفرنسية والألمانية. ووصلت الخطابات إلى غوردون لكنها كشفت للمهديين نية سلاطين فى اللحاق بغوردون المحاصر، وإفشائه لبعض أسرار جيش المهدية، فتم القبض عليه وسلموه لأبى عنجة الأمير، ووضعوا القيد والسلاسل فى عنقه ويديه وأرجله. ولسانه يسبح: أبانا الذى فى السماوات والأرض.
يقول سلاطين أن الإيمان بالقضاء والقدر يفيد فى مثل هذه الحالات ولكنه ما زال أوروبياً لم تبلغ نفسه هذه المرحلة وإن كان قد تعلم بعد ذلك أن ينظر إلى الأشياء نظرة التسليم والهدوء وعلمته التجارب فى السودان أن يمارس تلك الفضيلة الكبرى – فضيلة الصبر.
منذ هذه اللحظة صار سلاطين مكان شك الخليفة، وعندما جاع وطلب طعاماً من زوجة حمدان أبوعنجة أجابت: هل يظن عبد القادر سلاطين أننا نسمنه هنا بينما عمه غوردون باشا لا عمل له إلا فى إلقاء القنابل على زوجنا الذى ربما يقتل بسببه.
كانت هذه المرأة مصيبة فى قولها – هكذا قال سلاطين.
مقالات عبدالله شريف>>
error: Content is protected !!