إذا كنَّا قد أثبتنا أننا نفاوض في أديس أبابا قطاعاً أو فصيلاً يُسمّي نفسه الحركة الشعبية لتحرير السُّودان (قطاع الشمال) بما يعني أنه فصيل من حزب يحكم دولة أخرى وكنَّا قبلها قد عبّرنا عن دهشتنا لإحياء عرمان بعد أن أشرف فصيله على الهلاك جراء تداعيات الحرب الأهلية التي تُمسك بخناق دولة الجنوب التي يتبع عرمان لحزبها الحاكم فإننا سنواصل فضح عوار المشهد المأساوي الذي ظل يجعلنا منذ زمن بل قبل كارثة نيفاشا نعشق العيش بين الحفر والأنفاق المُظلمة فما أن نخرج من حفرة حتى نهوي في حفرة أعمق ومستنقع أغرق.
ما هو هدف ذلك الحزب الأجنبي الذي يحكم دولة جنوب السُّودان ؟ إنه يحمل اسم (الحركة الشعبية لتحرير السُّودان) أي أنه حتى بعد أن انفصل بدولته يسعى لتحرير بلادنا التي يعتقد أنها مُستَعمَرة يتعين عليه أن ينهض بعبء تحريرها بدلاً من أن يتصدى لتحرير دولته (جنوب السُّودان) من الجهل والفقر والمرض والتخلف والحرب التي يشتد أوارها بين قبائله المُتناحرة ويترك السُّودان الذي غادره طواعية إلى وطن آخر في حاله.
كان من ضمن ما طالب به رئيس الوفد الحكومي السابق كمال عبيد أن تُزاح عبارة تحرير السُّودان لكننا نسينا في هذه الجولة بالرغم من أن قطاع الشمال في أضعف حالاته، نسينا هذا الأمر أو تناسيناه فمن بين ما وافق عليه وفد الحكومة في الجولة السابقة للمفاوضات من (مسودة الاتفاق الإطاري) الذي وضعته آلية أمبيكي (الجزء الخامس: اللجنة السياسية المشتركة) العبارة التالية: يؤكد الطرفان حق الحركة الشعبية شمال في أن تكون مسجلة وتعمل كحزب سياسي وفقاً للقانون)!!
إذاً فإن الفصيل التابع لحزب يحكم دولة أخرى ويحمل اسم (تحرير السُّودان) موعود بأن يُسجَّل كحزب سياسي يعمل بنفس نظامه الأساسي الذي يستهدف (تحريرنا) بالرغم مما رأيناه من نموذجه للتحرير في دولة جنوب السُّودان التي تعاني من أشرس حرب أهلية يشهدها العالم اليوم! العاصم من القواصم في هذه الجولة يا بروف غندور تتمثل في عبارة (وفقاً للقانون) التي جاءت في نهاية العبارة.
أود أن أسأل: هل اشترطنا على عرمان قبل أن نوافق على مقترح أمبيكي تغيير اسم فصيله حتى يصبح وطنياً منتمياً إلى تراب هذه البلاد وليس تابعاً لحزب يحكم دولة أخرى تعاني من الفشل والانهيار؟
هل اشترطنا عليه أن يفك ارتباطه بحزب الدولة الأجنبية التي يتباهى بأنه جزء من حزبها الحاكم بالرغم من أنها تعاني من سكرات الموت الذي يُخيِّم على عاصمتها ومدنها الكُبرى؟!
ليت غندور يطَّلع على الوثيقة التي قدَّمها منبر السلام العادل لمجلس شؤون الأحزاب غداة طلب عرمان تسجيل حركته كحزب سياسي يحمل نفس الاسم المستفز لكرامة الشعب السُّوداني.. لقد قدَّمنا مُرافعة أعدها أحد أكبر فقهاء القانون طعنّا من خلالها في طلب عرمان وزمرته وقُبلت المُرافعة التي اشترطت ليس فقط فك الارتباط بالحزب الحاكم في دولة جنوب السُّودان، إنما تعديل النظام الأساسي بما يجعله مُلبياً لحاجات وطننا العزيز بدلاً من أن يكون جزءاً من استراتيجية الدولة الأخرى التي يسعى حزبها الحاكم من خلال عملائه إلى تحريرنا من هويتنا بل واستعمارنا وتم رفض تسجيل قطاع الشمال كحزب سياسي بناءً على حيثيات منبر السلام العادل وقام نفرٌ من أبناء النوبة وغيرهم بتسجيل حزب سياسي وطني بعيد عن أجندة الحركة الشعبية أذكر منهم دانيال كودي وتابيتا بطرس وغيرهما.
إذا كان مجلس شؤون الأحزاب وخبراؤه الدستوريون قد قبلوا مُرافعة منبر السلام العادل فإنها تصبح بمثابة الوثيقة الدستورية التي ينبغي أن يُؤخذ بها قبل السماح لذلك الفصيل العميل بالعمل ضمن منظومة الأحزاب الوطنية السُّودانية.
لقد ظل عرمان ورِفاقه الحلو وعقار ضمن حركة قرنق منذ الثمانينات، خاضوا غِمار المعارك ضد قواتنا المسلحة وضد مجاهدي الدفاع الشعبي وقتلوا من شبابنا وشيوخنا ورمّلوا عشرات الآلاف من نسائنا ويتَّموا الكثيرين من أطفالنا ولا يزالون يفعلون ذلك في جنوب كردفان والنيل الأزرق ولن تنسى ذاكرة التاريخ ما اقترفوه في أب كرشولا والله كريم والدمازين والكرمك وما يفعلونه حتى اليوم . لكن الأخطر من ذلك كله أن نغفل رغم علمنا بما ينطوي عليه عرمان.. أن نغفل عن حقيقة أن الرجل لم يفكر ولن يفكر في يوم من الأيام في تلكم المنطقتين فقد اتخذهما ودماء شبابهما معبراً لتحقيق حلمه وحلم قرنق القديم والمتجدد المسمى بمشروع السُّودان الجديد ولذلك لا غرو في أن يُطالب بإحياء (خازوق) اتفاق نافع عقار الكارثي الذي لا يقل خطراً عن اتفاقية نيفاشا لذلك لم أدهش البتَّة لحديث غندور الساخر الذي قال فيه: (إن عرمان تحدَّث في كل شيء عدا قضايا المنطقتين) بالرغم من أن التفاوض في الأصل ما قام إلا من أجل مناقشة قضايا المنطقتين!
أقول هذا تمهيداً للحديث عن بقية أجندة المفاوضات غداً باذن الله.
الطيب مصطفى-الصيحة
error: Content is protected !!