في وقت سابق من هذا الأسبوع، أصدرت اللجنة العليا التي شكلها الاتحاد الافريقي حول الحالة المصرية تقريرها النهائي، وأكدت فيه على ما يعرفه الجميع من أن الوضع السياسي في مصر ما يزال يعاني من أزمة كبرى في مجال حقوق الإنسان، وأن الانتخابات الأخيرة تمت في ظروف غير ملائمة بسبب الاستقطاب الحاد وفقدان الشفافية وحالة الإقصاء. ودعت اللجنة النظام في مصر إلى إصلاح نقائص وأخطاء الانتخابات الرئاسية في الانتخابات البرلمانية القادمة، مؤكدة أنه لا بديل عن المصالحة الوطنية. وأوصت اللجنة برفع تجميد عضوية مصر رغم عدم وفائها الكامل بمتطلبات الانتقال الديمقراطي، على ألا تعتبر هذه سابقة، وعلى أن يتواصل الحوار مع مصر حول وفائها بمتطلبات الانتقال.
في نفس الأسبوع، وبعد أن شهد العراق انهيار جيشه، تقدمت حكومة نوري المالكي رسمياً بطلب تدخل أمريكي لإنقاذ بغداد من السقوط في أيدي المجموعات المسلحة المناوئة لحكمه. وكان المالكي قد انتهز من قبل فرصة رحيل القوات الأمريكية ليقوم بعد يوم واحد من رحيلها بتوجيه تهم الإرهاب إلى نائب الرئيس طارق الهاشمي، ويبدأ مرحلة هيمنة طائفية على الحكومة بعد أن أعجز المرض الرئيس عن ممارسة مهامه وتم تجميد البرلمان بسبب الطائفية. وهاهو الآن يتوسل إلى إيران مرة وإلى أمريكا مرة لإنقاذه. وهكذا نهايات الجبابرة والمتجبرين: يبدأون بالتأله وينتهون بالمذلة والعبودية.
قبل ذلك كان الجيش العراقي الموصوف بأنه الرابع في العالم قد تبخر في الهواء مع الاحتلال الأمريكي، وتحول الجيش السوري إلى ميليشيا تستعين بميلشيات أجنبية لمجرد حماية معسكراتها. وفي عام 1991، وصلت معظم عناصر الجيش الثاني الاثيوبي المحتل لاريتريا، وعديده كان يزيد على مئة وعشرين ألفاً، إلى الحدود السودانية بكامل أسلحته، بما فيها الأسلحة الثقيلة والدبابات، وسلم نفسه وكامل أسلحته للجيش السوداني الذي لا يزيد على نصف عدده كثيراً، وذاب في الهواء أيضاً.
خلال الأشهر القليلة الماضية، سجل الجيش السوداني غياباً شبه كامل عن الميدان العسكري والسياسي، ولعل الأصح أن يقال شهد تغييباً. وأصبح الحاضر في كل مكان ما يسمى بقوات التدخل السريع، وهي ميليشيا الجنجويد التي اشتهرت في دارفور بكبائر شهد عليها العالم كله، وبسببها تم إصدار أمر قبض على الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة الإبادة وارتكاب جرائم حرب. ولكن هذه الميليشيات في طبعتها الجديدة أصبحت تتولى كل مهام الجيش في القتال الميداني في مسارح العمليات، وأخيراً حتى في حماية العاصمة الخرطوم. وقد ارتفع مستوى الغضب والحنق لدى ضباط وجنود الجيش إلى أقصى مستوى، خاصة وأن هذه الميليشيات أصبحت توقف العسكريين وهم في زيهم الرسمي على حواجزها حول العاصمة وتقوم بتفتيشهم إمعاناً في الإذلال. وهكذا انتقل السودان من حكم التنظيم السري إلى حكم الرجل الواحد والآن إلى حكم ميليشيا الجنجويد!
هناك فرق مهم بين الجيش والميليشيا، كما هناك فرق جوهري بين الدولة والعصابة. فالجيش مؤسسة تعمل في خدمة الدولة في إطار القانون، ولا تعمل لحسابها أو لحساب فئة أو فرد. والدولة هي مؤسسة تخدم مصالح جميع مواطنيها وتعمل تحت سلطة القانون. ومهمتها –عبر جيشها ومؤسساتها- الحفاظ على كيان الدولة والسهر على العدالة ومصالح الشعب. في كل من مصر والسودان والعراق وسوريا، جرت محاولات مستميتة لتحويل الجيش إلى ميليشيا، أو تهميش الجيش لصالح ميليشيات، وذلك بعد أن سقطت الدولة في يد فئة اصبحت تتصرف كعصابة.
مصير مثل هذه الكيانات هو الانهيار السريع، كما شهدنا في العراق وسوريا واثيوبيا، وسنشهد قريباً في مصر والسودان، ما لم يتم تدارك الأمور بصورة حاسمة. وفي كل هذه الدول، من واجب الجيش قبل غيره أن يتحرك بحسم لإعادة الأمور إلى نصابها، بدءاً من إعادة الاعتبار إلى الجيش وحمايته ممن يريدون تحويله إلى ميليشيات تخدم القوى الخارجية أوالمصالح الفئوية، وغالباً الاثنين معاً كما هو حال مصر المنكوبة.
ليست للشعوب أعمار تضيعها في تجريب المجرب. وقد أهدرت الأنظمة البالية في هذه الدول العربية وغيرها أقدار أجيال بكاملها عبر القهر والفساد وإهدار الموارد والهوس الايديولوجي والحروب العبثية والتيه السياسي. ولا يمكن لأي من هذه الدول أن تعيش مرة أخرى نفس تلك المراحل المأساوية وتتجنب في نفس الوقت الانهيار الكامل والتمزق.
يمكن أن يقول القائل إن باطل واقع هذه الدول زائل لا محالة. فالأنظمة الطائفية تدمر نفسها بنفسها على المدى الطويل. وهذا صحيح بالطبع. ولكن هذا لا يحدث في الغالب قبل تدمير البلاد بكاملها، وكثير مما حولها كذلك، كما شهدنا في عراق صدام ونشهد اليوم في سوريا. وقبل ذلك شهدنا ذلك في إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية واثيوبيا ورواندا، والكونغو الديمقراطية، إلخ. فمن العقل اختصار المسافة، وتجنب إهدار الأعمار والأجيال، عبر تحرك حاسم لإنهاء المهازل. وعلى كل الشرفاء في هذه البلاد التوحد، والتحرك الحاسم لتخليص البلاد من هذه المصائر المظلمة، ومن دون تأخير أو لجلجة، وبكل ما يحتاجه الأمر من حسم، لأن البدائل لا تحتمل التفكير فيها.
مثّل التحرك الافريقي طوق نجاة محتملا لمصر، وقبل ذلك للسودان. ولكن دولتي وادي النيل لم تتعاملا بالجدية الكاملة مع هذه المبادرات. وقد اختار حكام مصر التعالي والترفع، مما اضطر لجنة الحكماء إلى تذكير مصر بأنها ملزمة بحسب ميثاق الاتحاد الافريقي بقبول قرارات الاتحاد، وليس لها الخيار في ذلك. أما حكام السودان فقد اختاروا المناورة وتضييع الوقت. ولو كانت هناك حكمة، لوجب على هؤلاء اقتناص طوق النجاة هذا قبل فوات الأوان.
لا أريد أن أستعيد هنا السجال العقيم حول الفرق بين المقاومة والإرهاب، بل أبدأ بأن أقول إن هناك ممارسات تستحق أن تطلق عليها تسمية الإرهاب، وهي الأعمال التي تستهدف المدنيين والأبرياء لتحقيق أغراض سياسية. ويندرج في هذا الخطف والابتزاز واستهداف النساء والأطفال وغير المحاربين، وترويع الآمنين وارتكاب جرائم حرب، أو ممارسات اغتيال الزعماء السياسيين والشخصيات العامة.
تمارس الأنظمة الاستبدادية والسلطات الاستعمارية الإرهاب بهذا المعنى بصورة روتينية، لأن هذا من صميم طبيعة هذه الأنظمة. فالنظام الذي يصر على البقاء ضد إرادة الغالبية يتصرف كعصابة تمارس العنف والابتزاز لإخضاع الناس لسلطانها. أما الأفراد والجماعات غير الحكومية، فإنهم غالباً ما يلجأون إلى الإرهاب يأساً وكخيار أخير. وفي معظم الحالات تؤطر للإرهاب أيديولوجيات تبرر له، مثل نظريات الفوضويين والجماعات الراديكالية من يسارية وإسلامية وقومية وعرقية.
من هذا المنطلق فإن السؤال ليس هو ما إذا كان ما تشهده غزة وبقية أنحاء فلسطين هذه الأيام إرهاباً تمارسه إسرائيل أم إرهاب مضاد تمارسه فصائل فلسطينية، ولكن إلى أي حد سيساهم ما يجري في غزة اليوم في الدفع باتجاه موجة نشاط إرهابي جديد. فلا بد أن نستذكر هنا أن النشاط «الإرهابي» لمنظمات مثل «أيلول الأسود» بدأ بعد الكارثة التي تعرضت لها منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن عام 1970، كما أن نشأة جماعات مثل حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي (سواءً أصحت تهمة «الإرهاب» في حقها أم لا) جاء بعد إجلاء منظمة التحرير من لبنان وخروج مصر وبقية الدول العربية من دائرة الفعل السياسي عربياً.
بنفس القدر فإن ظهور جماعات متطرفة مثل القاعدة جاء بعد ضرب العراق وحصاره عام 1990، ثم غزوه عام 2003، وأخيراً بعد سقوط سوريا وتحول نظامها إلى وحش مفترس يدمر بلده وشعبه بدلاً من حمايته. وقد عاد الإرهاب إلى مصر بعد انهيار بنيتها السياسية وسقوطها المدوي في أيدي نظام يمارس سلوك العصابة بصورة علنية. وحال العراق بالطبع معروف بعد الاحتلال والاستقطاب الطائفي.
يمكن أن يقال إذن أن هناك علاقة طردية بين مستوى عجز الأنظمة والأوساط الرسمية من أقليمية ودولية عن التصدي للكوارث والفظائع ونصرة المظلومين. فمن المفترض أن تكون هناك دول تدافع عن مواطنيها، ومؤسسات دولية وإقليمية تدافع عن المستضعفين من دول وأفراد. أما عندما تقف مثل هذه الأنظمة والمؤسسات عاجزة عن التصدي لقتل وتشريد الأبرياء، فإن الدماء تغلي في عروق البعض، وخاصة الشباب المثالي، ويبدأون في البحث فرادى وجماعات عن وسيلة لمعالجة الوضع.
في الماضي كان الأمر يحتاج إلى وجود تنظيمات تجند الشباب للإرهاب وتروج له. أما في ظل الانفجار الإعلامي الذي يشهده عصرنا، فإن الحاجة إلى مثل هذه المنظمات يصبح ثانوياً. فكما ثبت من تجارب كثير من الشباب في الدول العربية، وحتى في أوروبا والغرب، فإن نشرة الأخبار أصبحت هي أهم مصدر لتجنيد الشباب في صفوف حركات العنف. يكفي أن يتابع شاب ما يبث يومياً هذه الأيام عن جرائم ترتكب في غزة وسوريا والعراق، ومئات القتلى وملايين المشردين الذين يفترشون العراء، حتى تراوده تطلعات التصدي الأسطوري لمثل هذه الفظائع التي يقف الآخرون عاجزين أمامها، أو في احتمال أسوأ، يتواطأون مع مرتكبيها.
قرأت مرة لكاتب أمريكي من اصل افريقي حكاية جاء فيها أنه كانت تراوده في صباه، عندما كان يقرأ عن فظائع الرق في الجنوب الأمريكي في القرن التاسع عشر، أحلام السفر عبر الزمان إلى تلك الحقبة، وهو مسلح بأحدث الأسلحة، ومدرب أفضل تدريب. وبحسب فكره الطفولي فإنه كان حينها سينجح منفرداً في تحريرالرقيق وتلقين العنصريين البيض درساً لن ينسوه.
بالطبع فإن ذلك الفتى عندما كبر أصبح أكثر تفهماً لتعقيدات المسألة، ولكن لا يحتاج المرء أن يكون قارئ كف لكي يجزم بأن كثيراً من الشباب العرب وغير العرب تراودهم هذه الأيام أحلام مشابهة، بعضها من الخيال العلمي وبعضها أقرب إلى الواقع. وقد تمر بضعة أعوام قبل أن نشهد تجليات هذه الأحلام على أرض الواقع في شكل كوابيس لأطراف كثيرة.
كنت قد نشرت عام 1985 مقالاً في مجلة «أرابيا» أتنبأ فيه بظهور حركات إسلامية متطرفة معادية للغرب، وذلك على خلفية سياسات بعض الدول الغربية والعربية تجاه الحركات الإسلامية المعتدلة. أيضاً لم يكن ذلك التحليل الذي صدقه الواقع خلال بضع سنوات رجماً بالغيب، وإنما قراءة لاتجاهات الواقع. وبنفس المنطق، فإن المنطقة العربية مقبلة على فوضى غير خلاقة بسبب العجز الكامل للنظام العربي الرسمي.
لا يجسد هذا العجز شيئا أكثر من الشلل الكامل، والإفلاس المؤلم للسياسة الخارجية المصرية. فقد تراجع دور مصر من الزعامة العربية في العهد الناصري، إلى معاداة العروبة في عهد السادات، ثم تجسيد أسوأ سلبيات الوضع العربي في عهد مبارك، قبل غياب كامل عن ساحة العروبة في عهد السيسي. ففي عهد مبارك، تحولت مصر إلى متعهد يتعامل مع القضايا العربية من وجهة نظر المصالح السياسية والاقتصادية للنظام، ويلعب دور المساند لأنظمة الخليج. ولكن مصر كان لها مع ذلك بقية من وزن ونفوذ، وإن كانت دول أصغر مثل قطر أصبحت أكبر نفوذاً منها. ولكنها في عهد السيسي لم تعد مصر قادرة حتى على لعب ذلك الدور، حيث أصبحت تعتمد حتى في وقتها اليومي على إمارات صغيرة في الخليج.
ليست مصر وحدها الغائب عن الساحة، فصمت القبور هو السائد في كل العواصم أمام القواصم التي ضربت كل أنحاء العالم العربي. ولا شك أن هذه القبور ستشهد ضروباً غير معهودة من الحياة المميتة قبل وقت طويل. فقط تابعوا نشرات الأخبار.
د. عبد الوهاب الأفندي
القدس العربي
error: Content is protected !!