,يقوم الغرب بصناعة المصطلحات وترويجها ويرددها الناس في كثير من الأحيان دون فهم لها أو معرفة لأبعادها ومنها مصطلح “الحياد”، والحياد هو عدم اتخاذ موقف أو المساواة بين الجاني والضحية أو القاتل والمقتول أو الظالم والمظلوم، وهو يتناقض مع طبيعة الحياة لأن الحياة موقف والإنسان موقف، ويردد كثير من العامة وحتى المتخصصين أن الإعلامي يجب أن يكون محايدا، وهذه أكذوبة تتناقض مع طبيعة العمل الإعلامي الذي يتلخص في تقديم “الحقيقة” إلى الناس والحقيقة تفرض عليك أن تكون منحازا لطرف،
وأذكر أنه بعد تغطيتي لأحداث معركة الفلوجة في العام 2004 حيث كنت مع فريق الجزيرة، الفريق التليفزيوني الوحيد، الذي تمكن من دخول تلك المدينة المحاصرة أن وقعت نقاشات طويلة داخل قناة الجزيرة وخارجها من قبل الزملاء أني لم أكن محايدا في نقل الأحداث، حتى أننا كنا في ندوة داخلية داخل الجزيرة وحضرها كثير من المراسلين ومديري المكاتب الخارجية وحضرت جانبا منها فوجدت بعض الزملاء يناقشون تغطيتي لمعركة الفلوجة وفوجئت بهم يوجهون لي التهم التي وجهها لي الناطق باسم الخارجية الأمريكية والناطق باسم الجيش الأمريكي الجنرال مارك كيميت بأني لم أكن محايدا، ومع ترحيبي الواسع بكل النقد الذي يوجه لي، فقد وقفت للرد علي الزملاء وفاجأتهم بما لم يكونوا يتوقعونه فقلت لهم “أنا لست محايدا.. أنا لست محايدا.. أنا لست محايدا ولن أكون محايدا، ولكني منحاز..” ساد صمت رهيب في القاعة ثم أكملت ” أنا منحاز دائما للحقيقة، وإلى صاحب الحق وإلى الضعيف، وإلى المعتدى عليه، وإلى القيم الإنسانية التي تقوم علي العدل والمساواة، أنا منحاز دائما ضد الحروب وعمليات القتل للمدنيين والنساء والأطفال وجرائم الحرب التي يرتكبها المعتدون ضد الإنسان في أي مكان من العالم.
أنا منحاز دائما إلى ديني وإلى عروبتي وثقافتي وهويتي، لن أتخلي عنها في أي موقف مهما كانت الاتهامات التي توجه لي، وحينما يتخلى الصحفي الأمريكي أو البريطاني أو الألماني أو الياباني أو الروسي عن الانحياز إلى دينه وثقافته وهويته وقوميته وأمته فليأتوا وليتحدثوا معنا عن الحياد.
وتساءلت قائلا ” هل كان الألف ومئتي صحفي الذين دخلوا العراق على ظهور الدبابات الأمريكية أثناء الغزو الأمريكي للعراق في مارس وابريل 2003 محايدين؟ وهل كان المراسلون الأمريكيون الذين يبثون تقاريرهم وهم يتحركون على ظهور الدبابات مع القوات الأمريكية وهي تمارس جرائم الحرب ضد المدنيين محايدون؟
إنهم ليسوا محايدين في أدائهم ولكنهم جميعا منحازون ويعملون من أجل أمتهم وثقافتهم وهويتهم ودينهم ومؤسساتهم وهم يفخرون بذلك، فلماذا لا نكون أكثر فخرا منهم بما نقوم به ونعلن أننا لن نكون محايدين؟
إن المنهزمين من الاعلاميين العرب سواء الذين تماهوا مع الأنظمة، أو فقدوا انتماءهم وهويتهم أو حتى معرفتهم بطبيعة الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإعلامي يتحدثون أحيانا عن مصطلحات لا يعرفون معناها، وقد لاحظنا في الفترة الأخيرة ظهور عشرات من مقدمي البرامج في الفضائيات المصرية على وجه الخصوص لم يأخذ الواحد منهم دورة واحدة في التقديم التليفزيوني ليعرف الفارق بين تقديم البرامج وبين ” الهرتلة” أو التهريج والصراخ والحنجورية، وكأن مقومات الإعلامي أن يكون عالي الصوت لا يحترم مهنته ولا يحترم الناس ولا يعرف كيف يخاطبهم وكيف يقوم بدوره في تقديم الحقيقة لهم
إنني أقول بكل ثقة ويقين: لا يوجد في الإعلام شيء اسمه “حياد” وإنما توجد هناك حقيقة يجب أن نسعى جميعا لإظهارها، وحق يجب أن ننحاز له جميعا، وموضوعية يجب أن نتحلى بها، وهذه هي مهمة الإعلامي الاساسية في الحياة، أما الحياد فهو أكذوبة وأؤكد مرة أخرى أنني لن أكون محايدا على الإطلاق وإنما سأبقى منحازا دائما لما أعتقد أنه الحق والصواب.
حينما قلت هذا الكلام لزملائي قبل سنوات وضجت القاعة وقتها بالتصفيق لم أكن بدعا ولا متفردا فيه، وإنما كان نتاج قناعات وتجارب وآراء وتدريب وتعليم، أخذت فيه خبرة كثير ممن التقيتهم في الحياة وتعلمت منهم بعض فنونها وخبرتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر أنقل هنا عبارة سمعتها من المؤرخ والمفكر الموسوعي العربي البارز الدكتور عبد الوهاب المسيري ـ يرحمه الله ـ حينما أثرت معه النقاش مرة عن موضوع “الحياد” في العمل السياسي و الإعلامي والابداعي فقال لي “إنني لم أبدع في أعمالي إلا حينما تخليت عما يسمى بالموضوعية والحياد”.
أما الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش فقد تعرض لحملة ضارية من قبل بوش وإدارته حينما كشف عددا من الفضائح والتجاوزات التي قامت بها القوات الأمريكية بعد احتلالها للعراق من بينها فضيحة “سجن أبوغريب ” حتى أن جورج بوش وصفه بأنه “كاذب” أما دونالد رامسفيلد وزير دفاع بوش فقد وصفه بأنه “مثل حركة طالبان” أما ريتشارد بيرل فقد وصفه بأنه “إرهابي” لكن هيرش واجه بوش وإدارته بقوة قائلا: “إنني لست محايدا في مهنتي ولكني منحاز، منحاز ضد الحروب عديمة الفائدة”.
أما أستاذي ديفيد سايمون أحد كبار المدراء السابقين في تليفزيون بي بي سي والذي تعلمت الكثير على يديه من خلال أكثر من عشر دورات تليفزيونية يصل مجموعها لأكثر من 600 ساعة من التدريب على العمل التليفزيوني على مدى ثلاث سنوات في إحدى الدورات التي درستها على يديه وكانت تحت عنوان “دور المراسل التليفزيوني في ساحات الحروب” شاهدنا خلالها تغطيات لأشهر مراسلي الحروب الذين يعملون لصالح محطات التلفزة العالمية وأساليبهم المتنوعة في التغطية ودار بيننا نقاش حول ما يسمى بالحياد والانحياز في الإعلام فقال: “إن مثل هذه المصطلحات من الصعب الالتزام بها في هذا العالم المضطرب، فما معني الحياد أو عدم الانحياز حينما ترى طرفا ضعيفا يقتل وطرفا متغطرسا يمارس القتل؟ وما معنى أن تكون غير منحاز وأنت ترى ظلما يقع وانتهاكات تحدث ومظالم تمارس؟ ما معنى أن تكون محايدا في تغطيتك لمثل هذه الأحداث؟!
إنك هنا يجب أن تكون منحازا ليس إلى مجرد نقل الوقائع ولكن يجب أن ينقل الصحفي الحقيقة، والحقيقة أوسع في وصفها من مجرد وصف الواقع، إن الحقيقة تعني أن تظهر الجوانب المختلفة للجريمة التي ارتكبت، أو المظلمة التي وقعت، ولهذا فإنه ليس من السهل أن يفعل كثير من الاعلاميين هذا، ولكن هذا ما يجب فعله، أن يكونوا منحازين للحقيقة”.
إذن هذا الكلام المنطقي من بعض جهابذة الفكر والاعلام لا يعني سوى حقيقة واحدة هي أننا إذا شاهدنا إعلاميا أو صحفيا يدعي الحياد فيما يقدم أو يكتب علينا أن نغير القناة أو لا نقرأ له لأن الحياد في الإعلام “أكذوبة.
أحمد منصور
مقالات أحمد منصور>>
error: Content is protected !!