لم يكن الوضع في ليبيا مما يسر قبيل قيام الضابط المتقاعد خليفة حفتر بتحركه المسمى ‘عملية كرامة ليبيبا’، كما لم يكن الوضع على ما يرام في مصر حين قام الضابط المتقاعد الآخر عبدالفتاح السيسي بتحركه تحت ستار ‘خارطة المستقبل’. ولكن ما حدث في الحالين زاد الأوضاع سوءاً ولم يؤد إلى إصلاحها.
الإشكالات في ليبيا كما كان الحال في مصر هو تشرذم القوى التي أدى توحدها إلى إسقاط الدكتاتوريات وتحرير الشعوب، وعدم توافقها على شكل الحكم في الفترة الانتقالية وما بعدها. وفي ليبيا زاد الوضع سوءاً أن الثورة كانت مسلحة، وبالتالي فإن التشرذم يختلف نوعياً عن نظيره في مصر. فبدلاً من خيام المعتصمين المتنافسة في رابعة والاتحادية وميدان التحرير، هناك معسكرات وتجمعات مسلحة. وكل خلاف ينتهي بإطلاق نار وتقاتل.
لأن هذا الوضع مصدر خطر على البلدان واستقرارها، حيث أن الفوضى أسوأ من الدكتاتورية، بل هي أفضل دعاية لها. ولسبب ما خرج الفيلسوف البريطاني توماس هوبز بنظريته في ضرورة الحكم المطلق للحماية من الفوضى في أعقاب الحرب الأهلية البريطانية في القرن السابع عشر. وقبل ذلك قال كثير من علماء المسلمين بحكمة القبول بحكم المستبدين بعد ما شهدته الأمة من حروب متداخلة في الفترة التي أعقبت مقتل عثمان رضي الله عنه.
بالطبع ليس من المحتم أن يختار الناس بين الفوضى والعبودية لمستبد قاهر، كما شرح ذلك منظرو الديمقراطية منذ جون لوك. فالبديل للفوضى هو الحكم العادل الذي يرتضيه الناس، لا القهر والظلم. فالاستبداد هو في الواقع حرب أهلية مستترة، يحمل السلاح فيها طرف واحد. ولن يطول الأمر بالطرف الآخر حتى يحمل السلاح بدوره فتكتمل الدورة.
المصيبة أن هناك فئات انتهازية كثيرة استغلت أهمية الأمن بالنسبة للمواطن، فأرادت إعادة الدكتاتورية تحت عباءة جديدة، واستخدام نفس دعاية الأنظمة الفاسدة البائدة، ونفس سياساتها في نشر الخوف والفرقة بين المواطنين، كما جعل فرعون عليه لعنة الله أهل البلاد شيعاً يستضعف طائفة منهم.
لا يمكن الاستهانة بالأنظمة التي سادت في البلاد عقوداً من الزمان، وبعدها قروناً من الدهر. فقد خلقت هذه الأنظمة طوائف من الشعب مرتبطة بها مصلحياً، ومتداخلة معها عضوياً. ذلك أنه حتى نظام الرق إذا تطاول عهده يخلق في الضحايا استبطاناً للقهر، بحيث يقاوم البعض الحرية ولا يألفها. وقد شهدنا في مصر المنكوبة كيف أن طائفة من الشعب نصبت دكتاتوراً تعبده وتسجد له كما كان البعض ولا يزال يصنع بأيديه أصناماً يخر لها ساجداً. وقد شهدنا كيف يهتف البعض في سوريا ‘لا إله إلا بشار’، ويموتون دفاعاً عن الدكتاتور. وهذا لعمري العجب العجاب، حيث أن الموت من أجل الحرية مفهوم، أما الموت دفاعاً من العبد عن عبوديته وسلاسل رقه فإنه مدعاة لتأمل عميق وطويل في حال هذه الأمة.
أكبر الفئات التي تسعى إلى استعادة الدكتاتورية، وتجد الراحة في كنفها هي فئة المنافقين.هذه الفئة، وهي الأكبر بين النخبة، ظلت تخادع الله والشعب وقبل ذلك وبعده نفسها بشعارات كاذبة، وأقاويل ضالة مضللة. فهي تدعي الدفاع عن الدين، وهي أكفر الناس به، أو تتشدق بحماية الدولة وهي أكثر الفئات عدواناً على الدولة، تنهب أموالها وتحولها ضيعة خاصة لها ولأسرتها وحاشيتها من المنتفعين. وتدعي هذه الفئات الدفاع عن السيادة والكرامة، وهي تقدم نفسها في السر والعلن خادماً مطيعاً لأعداء الخارج. فهي لا تخجل أحياناً أن تعلن في نفس الجملة أنها رأس الممانعة ضد الهيمنة الأجنبية، وأنها خط الدفاع الأول لإسرائيل والغرب من ‘المتطرفين’.
لعل هذه هي المرة الأولى في التاريخ نشهد فيها ثورة للمنافقين، وهم حزب لا يستهان به اليوم كما كان حزباً له شأنه في المدينة. وقد رتب حزب المنافقين والمرجفين نفسه، ورص صفوفه، مستفيداً من تفرق وتشتت أنصار الكرامة والحرية والفضيلة، ونصب نفسه مدافعاً عما لا يؤمن به، ونصيراً لما يرفضه. فنحن اليوم أمام حكومات عبدالله بن أبي ابن سلول وشيعته. وإنها لتجربة تاريخية فريدة تشكل مادة خصبة لدارسي التاريخ والسياسة، لأنها بلا سابقة في التاريخ.
د. عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
error: Content is protected !!