في لفتة ذات مغزى، تحولت أنظار النظام الانقلابي في مصر من دولة قطر المتهمة بإيواء ‘إرهابيين’ ومطلوبين للعدالة، إلى بريطانيا العظمى التي صنفت من قبل مسؤول مصري الأسبوع الماضي بأنها ‘قبلة الهاربين’ من بطش النظام المصري. وبحسب المسؤول فإن بريطانيا تؤوي 53 من المطلوبين مقابل 29 فقط يقيمون في قطر!
ليس هناك بالطبع خوف من حملات على بريطانيا مثل تلك التي تعرضت لها قطر، اللهم إلا في الإعلام إياه الذي يتهم أمريكا كل صباح بأنها تؤيد الإخوان قبل أن يتوجه من يقف خلفه إلى شباك الصرف لتقاضي الدعم الأمريكي الشهري. أما سحب السفراء وتحريك الأسطول المصري قريباً باتجاه لندن المحروسة، فهو ما نبشر منه بطول سلامة، والحمدلله.
السؤال هو: لم يرتجف انقلابيو مصر رعباً من بضعة وتسعين هارباً، جلهم من رجال مبارك أحباب النظام الحالي ومن الوزراء السابقين ورجال الأعمال والصحافيين؟ ولماذا بريطانيا وقطر تحديداً، لأن هناك بالقطع من لجأ إلى سويسرا وفرنسا وجزر القمر؟
بريطانيا لا تؤوي ‘إرهابيين’ أو محرضين، لأن قوانينها تتكفل بأي مشتبه فيه بذلك. ولكن ما يجمع بين بريطانيا وقطر هو أن كليهما مركز إعلامي فعال. وعليه فإن الخطر الذي يستشعره جنرالات مصر هو الكاميرات والأنوار الكاشفة، لأن ما يراد تنفيذه هناك يحتاج إلى ليل دامس.
تصريحات المسؤول المصري تكشف بدورها إشكالية تدبيج وتسويق الروايات الخيالية التي يراد تحصينها من الفضح الإعلامي. فقد روج الإعلام المصري لخبر حول تسليم وشيك لوزير المالية الأسبق يوسف بطرس غالي، قبل أن يبرر ‘تراجع فرنسا’ باكتشافها أن غالي حاصل على لجوء سياسي في بريطانيا.
وقد كان تهافت هذه الرواية الساذجة بيناً حتى قبل أن ينفي غالي نفسه جملة وتفصيلاً خبر أنه اعتقل أصلاً. ففي أي دولة ديمقراطية متحضرة لا يمكن تسليم شخص لدولة أخرى (حتى لو كانت دولة يسود فيها حكم القانون) بمجرد اعتقاله في المطار. فلو أن أيمن الظواهري اعتقل في مطار باريس لما تمكنت السلطات من تسليمه لواشنطن، ناهيك عن مصر، بدون إجراءات قضائية!
بريطانيا نفسها جاهدت خلال معظم العقد الماضي لإبعاد الأردني الأصل أبوقتادة الموصوف بأنه منظر القاعدة في أوروبا إلى الأردن الذي وافق على تسلمه. ولكن القضاء البريطاني والأوروبي عارضا تسليمه رغم كل الضمانات والتعهدات، ورغم إرادة الحكومة والإعلام والنخبة السياسية وغالبية البريطانيين، حتى قبل هو نفسه الترحيل بشروط اشترطها. من هنا فإن الرواية المصرية تكشف عن سذاجة مدهشة لدى النخبة السياسية والإعلامية في مصر، وتوضح لماذا يريدون إسكات الإعلام الحر حتى يستمر تسويقهم لمثل هذه الأساطير المثيرة للشفقة.
المحاكم تدافع عن حق اللجوء السياسي (أو الجوار) لأن القوانين الدولية كفلته منذ قيام الأمم المتحدة. وقد كان قبل ذلك قيمة عربية أصيلة حتى قبل الإسلام، يأمن وفقه من المستجير من كل طالب، عادلاً كان أو ظالماً. وقد اشتهر عن كليب وائل أنه كان يجير الطير في الوادي فلا يجرؤ شخص على صيده، مما جعله صاحب أول محميات طبيعة في التاريخ بعد مكة وجوارها. وقد استفاد الرسول والمسلمون الأوائل من مؤسسة الجوار، حيث كان صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي في مكة.
يعكس احترام الجوار والحرمات قيمة حضارية رفيعة، لأن الباعث ليس فقط الخوف من صاحب الجوار، بل احترام القيم والأعراف وضبط النفس والأنفة من أن ترتبط سمعة الإنسان بشناعة مثل خرق الأعراف.
للأسف فإن عرب اليوم تميزوا بين العالمين بانتهاك الحرمات وعدم احترام القيم النبيلة. ولا يقتصر الأمر على قتل الأبرياء من النساء والأطفال ظلماً وعدواناً، وكفى به إثماً مبيناً، وإنما في كثرة من يؤيد هذا السلوك البربري من ‘المفكرين’ والإعلاميين وأهل الرأي، بل وحتى رجال الدين، فضلاً عن العوام والدهماء. وهذا حضيض الحضيض في الميزان الحضاري. وبعد أن كان عاراً، حتى في أيام الجاهلية، أن يشاع عن شخص أنه قصرعن حماية جاره، أصبح الدهماء في عصر الانحطاط المعاصر، يفخرون بقتل النساء والأطفال، ويعدون تدمير المدن على رؤوس أهلها ‘نصراً’.
في جاهلية عصرنا، كثر المنظرون لقتل الأطفال، وأله الكهنة سفاكي الدماء. وبدلاً من بسط الجوار على الغرباء الخائفين، يطارد مجرمو العصر من تجب عليهم حمايتهم من مواطني بلدانهم! وفي الأسبوع الماضي، تحدث مسؤول أممي عن العار الذي يمثله منع الطعام عن المحتاجين في عاصمة دولة عضو في الأمم المتحدة (في إشارة لمخيم اليرموك في قلب دمشق، حيث ظلت منظمات الإغاثة تنتظر لثمانية أيام الإذن بالدخول).
في زمان غير هذا الزمان، كانت مصر تؤوي لاجئين من أقاصي افريقيا وأدنى العالم العربي، بمن في ذلك أمراء دول الجوار ومناضلون من الجزائر والكونغو. أما اليوم، فإن مصر لم تعد تسع حتى بنيها، كما أن شغل نظامها الشاغل أصبح مطاردة الفارين منهم. ولكن العزاء هو أن هناك أكثر من مطعم بن عدي على استعداد اليوم لإجارة المستجير، وأهم من ذلك، إن طغاة اليوم أجبن من أن يتجرأوا على كليب وائل.
د. عبدالوهاب الأفندي
القدس العربي
error: Content is protected !!