قرأت في صحيفة البيان (الإمارتية) مقالا نشر في مايو في غضون العام الماضي. لقد استثار موضوع المقال فضولي وبعد أن أكملت قراءته قلت في نفسي إن لله في خلقه شؤون!! تناول المضمون شخصية سيدة أمريكية تدعى هيتي غرين، معروفة أيضا تحت اسم “ساحرة شارع وول ستريت”. وكما نرى أن اسمها ارتبط بأعظم بورصة في العالم فإذن في الموضوع إنَّ. عُرفت واشتهرت السيدة غرين أيضا كأول سيدة أعمال أمريكية على الاطلاق. ساهمت في جمع ثروتها عبر الأسهم وكانت تقدر هذه الثروة (بعد معادلتها بالقوة الشرائية الآنية) بالمليارات. ولدت هيتي غرين في عام ١٨٣٤ في ولاية ماساتشوستس واجتمع في نفس هذه السيدة أمران: الثراء العظيم والبخل المفحم فصار يضرب بها المثل في البخل حتى دُوِّن اسمها كأغنى وأبخل امرأة عرفها تاريخ البشرية وسجل ذلك في موسوعة جينيس للأرقام القياسية العالمية. بالطبع شاعت سيرتها وارتبطت في نفس الوقت بأحاديث مثيرة وغريبة فيحكى عنها أن أحد أبناءها أصيب بجرح غائر في ساقه ولم ترد أن تعرضه لمستشفى بغرض العلاج فانطلقت لا تلوي على شيء سواء وجود علاجا بالمجان حتى تفاقم مرض الابن وبترت ساقه من بعد.
ولدت السيدة هيتي غرين في أسرة كانت تعمل في صيد الحيتان الكبيرة وتوطدت علاقاتها التجارية مع الصين في ذاك الزمان. لقد ألمّ بأبيها مرض عضال فاضطرت للعيش مع جدها وهي لا تزال في سن السادسة من عمرها الطريّ. وكانت وهي في هذه السن المبكرة تعاون جدها في قراءة المستندات المالية والحسابات وكل ما يتعلق بمعاملاته التجارية وكما نقول من شبّ على شيء شاب عليه، فصارت في سن مبكرة المحاسبة الأولى المسؤولة عن حسابات الأسرة وهي لم تبلغ بعد سن الرشد إذ بلغت حينئذ سن الثالثة عشر. توفي والدها وترك لها ثروة هائلة تبلغ السبع ملايين ونصف (ما يعادل تقريبا ١٠٧ مليون دولار الآن). لقد دفعها حبها إلى المال وجمع الثروات أن تلتحق بمدرسة بوسطن للدراسات الاقتصادية. انفردت بالورثة التي تركها لها والدها واستثمرتها في سندات حرب خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة وكما نعلم أكبر الثروات تجمع في ساعات الضيق والعوذ فصارت هذه الثروة تربو يوما تلو الآخر حتى بلغت غرين قمم الثراء الفاحش.
مع مرور الأيام أحبت رجلا يدعى إدوار هنري غرين من أسرة ثرية وعندما أرادت الاقتران به أجبرته على توقيع عقد يتعهد فيه بالتخلي عن جميع حقوقه في الإرث من مالها. عاشا سويا وأنجبا طفلين ولكن لم تنعم الأسرة من هذه الثروة كما يظن المرء منا، فظلت هذه المرأة تكدس الملايين في حساباتها بالبنك ولا تنفق شيئا منها. حُكِي عنها أنها كانت دائما ترتدي رداء أسود لم تغيره إلا عندما صار باليا هرئا ولا تغسل منه إلا الأجزاء المتسخة فيه لكي توفر سعر الصابون والماء، وحتى أنها لم تكن تغسل يديها البتة حتى لا تسرف ماء باردا أم ساخنا يكلفها نقودا بعد ذلك. وكانت هيتي غرين حريصة كل الحرص على المال وحتى عند الجوع يقال عنها أنها تنفق سنتان فقط وتشتري بهما فطيرة حقيرة لتسد بها الرمق. وهناك العديد من الروايات التي تحكي عن مدى بخل السيدة هيتي غرين ويقال أنها لو فقدت سنتا واحدا مثلا تحت الكراتين والشنط الكثيرة التي يمتلئ بها مكتبها، فتقعد طوال الليل ملومة محسورة تبحث عنه ولا يضيرها في ذلك ضياع الساعات الطوال حتى تعثر عليه. كانت تقوم بكل أعمالها في مكتب من مكاتب بنك سيبورد الوطني في نيويورك وسط أمتعتها الكثيرة المليئة بوثائقها الخاصة حتى لا تنفق إيجارا لمكتب خاص بها. وكانت تقطع آلاف الأميال مسافرة لتحصيل بعض الدولارات من عملائها في عهد لم يكن فيه سفر النساء معهودا إلا بمرافق حسب العادات والتقاليد إذذاك. انتقلت السيدة هيتي غرين إلى “حساب ربها العسير” في سن تناهز الثمانين عاما في مدينة نيويورك، واستطاعت بعظمة مقدرتها في الحفاظ على المال أو لنقول لبخلها الشديد أن تدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية العالمية من أوسع أبوابها بلقب “أبخل شخصية في العالم”. ويحكى أنها لقيت مصرعها بعد تعرضها لسلسلة من السكتات الدماغية منذ شجارها مع طباختها التي رغبت في توظيف صديقة مقربة لها. تقدر ثروة السيدة هيتي بعد وفاتها بحوالي ١٠٠ إلى ٢٠٠ مليون دولار ما يعادل مليارين إلى أربعة مليارات الآن مما أكسبها صفة أغنى امرأة في العالم في ذاك الزمان. والسؤال الأخير الذي تطرحه هذه القصة: هل استطاعت أن تحمل معها هذه الثروة إلى الدار الآخرة؟ فلله في خلقه شؤون.
د. محمد بدوي مصطفى
error: Content is protected !!