ليست هناك حاجة للتكهنات حول موعد وطريقة سقوط النظام السوري، لأنه قد سقط فعلاً، وبالتحديد في معركة القصير في ايار/مايو من العام الماضي. أعلن حزب الله رسمياً سقوط النظام عندما اضطر لإسقاط الأقنعة ولم يجد بداً من التدخل السافر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام النظام الأسدي. ولكن ما حدث هو أن حزب الله سقط مع النظام في الهاوية، وجر لبنان كله إليها.
نحن اليوم أمام نظام جديد في سوريا، ليس هو نظام بشار الأسد الذي اندثر ، وإنما هو من جهة امتداد لنظام الضاحية الجنوبية، ومن جهة أخرى مشروع كانتونات للميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية التي تمثل الوجه الآخر لعملة القاعدة.
يمكن أن يقال ربما بصورة أكثر دقة أن نظام الأسد قد انهار في آذار/مارس عام 2011، حين كان الرد على رسالته بتعذيب أطفال درعا بالعكس تماماً مما توقع. فقد أراد حينها أن يقول لرعاياه (ولا نقول مواطنيه) بأن سوريا ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا ولا اليمن، ويذكرهم بأنه لا يتورع عن شيء. ألم يدمر حماة على رؤوس أهلها عندما تحداه بعضهم؟ ألم يرتكب مجازر سجون تدمر وصيدنايا حتى يعلم من شاء أن يعلم أن السجن والتعذيب ليسا نهاية المطاف للمغضوب عليهم؟ ألم يلاحق معارضيه بالاغتيال في لبنان وباريس وغيرها حتى يرسل رسالة بأنه لا ملاذ آمن، ولا حرمة لقانون دولي أو سن مكانة؟ ألم يقتل الثمانيني صلاح البيطار في باريس، ويختطف مجايله شبلي العيسمي من بيروت، دون أن تشفع لأي منهما تاريخه ومقامه أو عمره؟
هناك نكتة كنا نتداولها ونحن أطفال، تروي أن كلباً اعتاد كل صباح أن يتسلى بمطاردة عنزة، يحمل عليها فتفر هاربة أمامه حتى يتعب من الجري، ثم يتركها ويمضي لحال سبيله. وذات صباح حمل الكلب على العنزة كعادته، ولكنها بدلاً من أن تجري أقبلت عليه شاهرة قرونها، فارتد الكلب على أعقابه مرتعداً وهو يتمتم: ‘هل جنت هذه العنزة؟’
نظام الأسد سقط يوم أن ‘جنت’ العنزة السورية، ولم تعد في وارد المشاركة في لعبة الكلب الأسدي. فقد سلاح الإرهاب فعاليته عندما رفض أهل درعا الاستكانة أمامه، وأفلس ‘مصرف العنف’ وانهارت عملته. وهذا يذكرنا بأن بقاء أي نظام استبدادي هو عملية شراكة معقدة بين الجاني والضحايا. فليس إرهاب النظام وحده هو الذي أبقى نظام الأسد في سوريا، أو الجيش السوري في لبنان، بل هناك حسابات معقدة لأطراف عدة في لبنان وسوريا تأخذ وتعطي مع النظام، وتستفيد وتفيد.
كان الرئيس الراحل حافظ الأسد من أبرع تجار السياسة في العالم العربي، إن لم يكن العالم. فقد كان يحتضن الخميني بيد ويصافح الملك فهد بالأخرى، يلعن الامبريالية ويرسل جنوده للقتال مع بوش الأب في السعودية، ينادي بالاشتراكية ويتعامل بالاقتصاد الحر، يقتل كمال جنبلاط ويحتضن ابنه وليد. يدمر حماة ويفتح الأبواب لتجار دمشق وحلب، يدعم ‘المقاومة’ ضد إسرائيل ويقدم التطمينات السرية والعلنية لقادتها. يغتال بشير الجميل والهراوي ويطرد عون ويشتت القوات اللبنانية، ولكنه يحتضن أمين الجميل ويدعم المارونيين ضد عرفات وبقية قوى اليسار اللبناني. باختصار كان أمهر لاعب في بازار الشرق الأوسط.
كان خطأ ورثة الأسد القاتل اعتقادهم أن الإرهاب والبلطجة كانت سلاح الأسد الأب الأول. والصحيح أنه كان يتبع مبدأ ثيودور روزفلت القائل: تحدث بلطف واحمل عصا غليظة، ويدرك أن قيمة ‘الردع′ تتناقص بكثرة استخدام أدواته. وقد انهار سلاح الردع السوري عندما وقع التجاوز في استخدامه باغتيال الحريري في شباط/فبراير من عام 2005، فانهار مقومات الوجود السوري في لبنان، وكان سقوط النظام بعد ذلك مسألة وقت.
انهار النظام السوري سياسياً يوم أن رفض السوريون الانصياع لإرهابه، وانهار أخلاقياً (بصورة نهائية، لأنه كان دائماً نظاماً مكيافيلياً لا يراعي في انسان إلاً ولا ذمة) عندما باشر التصرف كعصابة قتل إجرامية لا تترفع عن جريمة، وانهار دبلوماسياً حينما لفظه العرب والعجم، ولم يعد له نصير سوى حفنة من الدول المارقة، وانهار عسكرياً حينما اضطر للاستنجاد بميليشيات أجنبية للدفاع عن عاصمته ومقر رئاسته. وما نراه يتشكل اليوم على أنقاض ذلك النظام المنهار هو شيء جديد تماماً.
من المستبعد أن يتجنب النظام الانهيار الكامل، ولكن لو حدث ذلك فإن نفوذ نصر الله فيه سيكون أكبر من نفوذ الأسد، ودور الميليشيات العراقية واللبنانية سيكون أهم من دور بقايا الجيش السوري، كما أن المعادلات الطائفية ستتغير بصورة جذرية. وعموماً فإن سوريا ستتحول إلى صومال جديد، لأن الكانتونات السنية ستبقى كذلك خارج سيطرة النظام الإيراني الجديد.
هناك الآن معادلات دولية جديدة، لأن إيران بدورها في قبضة الإصلاحيين الرافضين لسياستها التقليدية والراغبين في ترميم العلاقات مع الغرب، كما أن سياسة أوباما التصالحية التي ركزت على مد الجسور وتجنب القتال أصبحت من الماضي بعد أن هبت رياح الحرب الباردة الجديدة. وهناك حديث بصوت عال في واشنطن اليوم بأن التهاون مع الأسد هو ما جرأ بوتين في القرم، وهناك دعوات بأن البداية لكسب الحرب الباردة الجديدة ستكون في دمشق. ومن هذا المنطلق فإن ‘انتصارات’ النظام وحلفائه على ‘المتطرفين’ وإتمام تسليم الأسلحة الكيماوية هو ما تنتظره القوى الغربية قبل توجيه الضربة القاصمة.
المعادلات الجديدة ستسهل كذلك القضاء على حزب الله الذي اختطف لبنان وسوريا معاً، وتخيل نفسه قوة عظمى جديدة تتمدد في المنطقة. وليس السكوت على مغامراته عن غفلة أو ضعف من الأطراف المعنية كما يتصور هو والواهمين من حلفائه وأنصاره، وإنما لأنه بتورطه هذا يخدم المخططات الرامية لعزله. فالحزب يقف اليوم معزولاً في لبنان، ومتورطاً في عداء مع غالبية الشعب السوري، وفاقداً لكل تعاطف عربي أو إسلامي. وعندما تأتي الضربة المحتومة للحزب هذه المرة، فلن تكون هناك ‘تونس′ يتراجع إليها قادته كما كان حظ عرفات. ولعل أفضل ما يمكن أن يطمح إليه هو معسكرات في العراق على سنة مجاهدي خلق.
د. عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
error: Content is protected !!