في اليوم التالي لإطلاق تقرير التنمية الإنسانية العربية الثالث حول الحريات في العالم العربي في عمان في نيسان/أبريل 2005، أجريت بحثاً سريعاً على الانترنيت لمتابعة التغطية الاخبارية للتقرير. وللوهلة كان هناك أكثر من مئتي تقرير اخباري باللغة الانكليزية، مع عدد مماثل من التقارير في الإعلام العربي. وخلال أيام تضاعفت التعليقات بسرعة متصاعدة حتى أصبحت تعد بالآلاف.
أجريت نفس التجربة عقب إطلاق تقرير جديد من هيئة أخرى من هيئات الأمم المتحدة (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، إسكوا) في تونس الأسبوع الماضي، وهو تقرير ‘التكامل العربي سبيل لنهضة إنسانية’، فكانت النتيجة بعد حوالي خمسة أيام ستة أخبار باللغة الانكليزية، وحوالي فوق المئة خبر بقليل. هذا بالرغم من التقرير أطلق بمشاركة الرئيس التونسي د. منصف المرزوقي ورئيس الوزراء اللبناني السابق نجيب ميقاتي، وتطور وسائل الإعلام خلال العقد من الزمان الذي فصل بين التقريرين.
هناك مبررات عدة لهذا التفاوت، رغم المشترك بين التقريرين، ابتداءً من الفريق الذي أعد التقرير بقيادة الدكتورة ريما خلف الأمين التنفيذي للاسكوا (وكانت أشرفت على تقارير التنمية الإنسانية من موقعها السابق على رأس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للدول العربية بين عامي 2000 و 2006) وبتعاون وثيق مع د. نادر الفرجاني، الذي أشرف كذلك على تحرير التقرير الأخير. ولعل أهم عامل هو أن تقارير التنمية الإنسانية أثارت جدلاً كبيراً منذ إطلاق أولها في عام 2002، وقسمت الرأي العام العربي بين مؤيد ومعارض. وكانت تلك التقارير ركزت الاهتمام على قضايا التنمية الإنسانية بمعناها الواسع، باعتبارها تعزيزاً لحرية المواطن وقدراته، ورأت أن أهم عوائق التنمية كان غياب الحريات وتهميش المرأة وضعف آليات تحصيل وانتاج المعرفة. وقد لقيت التقارير ترحيباً واسعاً في الدوائر الغربية والدولية، وهذا بدوره دفع بعدد من المفكرين العرب للتشكيك في التقرير وأطروحاته.
إضافة إلى ذلك فإن تسرب أخبار حول اعتراضات عربية رسمية وأمريكية تسببت في تأخر نشر التقرير عن موعده في بأكثر من ثمانية أشهر أثار فضول الإعلام، خاصة بعد نشر مقالات وتعليقات حول أسباب التأخير. وكان أبرزهذه المقالات مقال في صحيفة ‘نيويورك تايمز′ حمل إدارة بوش المسؤولية عن تعويق نشر التقرير. وهذا يفسر لماذا كانت كل وسائل الإعلام تنتظر التقرير بفارغ الصبر لمعرفة أسباب الانزعاج منه.
بالمقابل، فإن تقرير الإسكوا حول التكامل أعد بما يشبه السرية، كما أن موضوعه ليس من القضايا الخلافية، حيث أن الكل يرحب بالتكامل ويتمناه. ولهذا لم يثر ما يكفي من الاهتمام والسجال. وفي اعتقادي أن هذا تقرير مهم يستحق التأمل، لأنه يجتهد في تقديم تحليل علمي واقتصادي يبين فوائد التكامل للجميع. وقد اتبع التقرير من جهة لغة الإحصاءات الصادمة، وهو نفس المنهج الذي اتبعته تقارير التنمية الإنسانية. على سبيل المثال، يذكرنا التقرير بأن سكان العالم العربي هم 5′ من سكان العالم، ولكن أكثر من نصف اللاجئين في العالم هم من العرب (وهذا من دون حساب اللاجئين السوريين!!)، كما أن أكثر من 50′ من الأموال العربية تهرب إلى الخارج
وبحسب نماذج وتقديرات أعدها التقرير، فإن بدائل التكامل العربي تشير إلى أن الوضع يمكن أن يتغير تماماً. فتبني البديل التكاملي بصورة فورية ومتكاملة سيكفل زيادة 3′ في معدل النمو على نطاق العالم العربي، ويخفض البطالة بنسبة 4′ بحلول عام 2020. وهذا يعني خلق 6 ملايين وظيفة إضافية وزيادة الناتج الإجمالي بأكثر من 760 مليار دولار، وهو ما يعادل الناتج السنوي لكل دول شمال افريقيا العربية مجتمعة خلال العام الماضي.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان التكامل يمكن أن يأتي بكل هذه الفوائد التي لا جدال فيها، فلماذا تتلكأ الدول العربية في التحرك باتجاهه؟ يجيب التقرير بأن أسباب تعثر التكامل تبدأ بعدم تمثيل الحكومات لشعوبها، مما يعني أن مصالح الشعوب لا تنعكس على سياسات الدول، ويفسر ضعف الإرادة السياسية لإنجاز التكامل. بنفس القدر فإن خطوات التكامل ظلت ضعيفة وبقيت الاتفاقيات في هذا الشأن مكبلة بالقيود، فضلاً عن ضعف الالتزام وغياب آليات التنفيذ. إضافة إلى ذلك لفت التقرير إلى التدخلات الخارجية التي أجهضت وعوقت مبادرات ومشاريع التكامل. وبالمقابل، فإن ضعف التكامل أدى بدوره إلى استباحة المنطقة وكثرة التدخلات الأجنبية إضافة إلى زيادة الخطر الإسرائيلي على المصالح العربية.
ولا يخفى أن الباعث الأول لمعدي التقرير على تناول قضية التكامل في هذه المرحلة كان تفاؤلهم بالثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي وزلزلت أركان النظام القديم الذي كرس التشرذم والضعف وشجع التدخلات الخارجية بل وكان عرابها الأول. فقد بدأ إعداد التقرير قبل أكثر من عامين، وأثناء فورة الثورات العربية. وهذا منهج يسنده المنطق. فقد ركزت تقارير التنمية الإنسانية على قضايا الحرية باعتبارها أولوية، وساهمت في خلق المناخ الذي جعل الثورات العربية ممكنة. وكانت الخطوة المنطقية بعد أن بدأ التحول الديمقراطي أن يتم الالتفات إلى خطوات أخرى ضرورية لتعزيز رفاه المواطن العربي وتقوية بنية المجتمعات العربية وتحقيق النهضة. والتكامل هو أولوية الأولويات في هذا المجال.
ولم يخف على معدي التقرير أن الربيع العربي قد تعثر، وتحول’شتاءً قارصاً’ (والصواب ‘قارساً’)، مما يضعف من أسس التفاؤل الذي بني عليه التقرير. ذلك أن منظري التكامل الإقليمي لاحظوا مبكراً أن التكامل الناجح يشترط له أن يقوم بين أنظمة ديمقراطية. فالتكامل يتطلب أن تتخلى الحكومات الوطنية عن بعض سلطاتها لصالح مؤسسات إقليمية، وهذا يعني احترام قرارات المؤسسات المشتركة حتى إذا خالفت رأي ومصلحة النظام مؤقتاً. وهذه فضيلة لا تتوفر إلا لدى الأنظمة الديمقراطية التي تخضع نفسها مسبقاً لرأي الشعب ومؤسسات حكم القانون، ولا تتوفر لدى الأنظمة الاستبدادية القائمة على المبدأ الفرعوني القائل: ‘و ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.’ ولكن التقرير يعيد تأكيد تفاؤله، ويؤكد أن عثرات التحول الديمقراطي ما هي إلا مؤقتة، وأن الطريق قد استبان. ولكن هذا التفاؤل يغفل أن معظم الدول العربية لم تشهد ربيعاً أصلاً، حتى لو كان عابراً. وتذكرنا الدول التي تقود الآن الثورة المضادة بأن التكامل الوحيد الناجح في الوطن العربي كان التكامل في مجال قمع المواطنين الذي ساد طويلاً ووحد الأنظمة ضد شعوبها ولكنه لم يوحد الشعوب.
التقرير طويل وضاف، يقع في أكثر من مائتي صفحة، تصل إلى أكثر من ثلاثمئة صفحة إذا أضفنا الهوامش والمراجع والمحلقات. (وبعض هذه الملحقات يبدو أنه مقتبس من مجال الخيال العلمي، مثل ‘معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي 1950′، و’اتفاقية الوحدة الاقتصادية بين دول الجامعة العربية’، و ‘ميثاق الوحدة الثقافية العربية 1964′). يحفل التقرير كذلك بجداول مفصلة ورسوم بيانية وتحليلات رياضية لا يفهمها إلا ذو حظ عظيم من علوم الاقتصاد. والمختصون مدعوون للتدقيق في هذه المعلومات والتحليلات ومناقشتها بما يثري الحوار حول التكامل العربي المطلوب والمستحيل حالياً.
ولا شك أن قراءة كل هذه المواثيق حول ‘الوحدة الاقتصادية’ و’الوحدة الثقافية’ التي دبجت ونحن ومعنا الحكومات عنها غافلون، يعيدنا إلى مربع التساؤل الأول: لماذا تعثرت هذه المشاريع، ولماذا لم تتحول ‘الوحدة الاقتصادية’ من أمنية إلى مشروع جاد؟ وقبل أن أجيب على هذا السؤال، لا بأس من أكشف أوراقي واعترف بأنني كنت من المشاركين في إعداد هذا التقرير، كما شاركت من قبل في إعداد تقريري التنمية الإنسانية الثالث والرابع. فقد كنت عضواً في الهيئة الاستشارية، وهي مهمة ثقيلة قبلناها بكل سرور رغم كثرة مشاغلنا الأخرى، تفرض قراءة المسودات المتتالية مثنى وثلاث، ثم السفر إلى عواصم عربية للمشاركة في اجتماعات مضنية تناقشها فصلاً فصلاً.
ولكن ليس بالضرورة كما ذكرتنا د. ريما خلف عندما قدمت التقرير في تونس بأن يتفق كل المشاركين على كل ما ورد في التقرير. وهناك نقطة واحدة أكدت عليها باستمرار في مداخلاتي الشفهية والمكتوبة حول التقرير، وهي ضرورة تحديد الصعوبات الحقيقية التي تواجه التكامل، وعدم الاكتفاء بالحديث المثالي حول فضائله. ذلك أن أهم إشكالية في التكامل هي أنه يرفع أقواماً ويضع آخرين على المدى القصير. فالدول الأغنى وذات الانتاج الأكبر تستفيد من فتح أسواق جديدة لها، مما يهدد صناعات ومنتجات دول أخرى تخسر. وقد دللت على ذلك بدراسات أجريتها خلال الأعوام الماضية عن الصراعات بين دول اتحاد شرق افريقيا (كينيا وتنزانيا ويوغندا) وهي صراعات نشأت بسب الخلاف حول ثمار التكامل. وقد تكرر نفس الخلاف بين اثيوبيا واريتريا الذي كان أهم أسبابه التجاذب حول إشكاليات الوحدة الاقتصادية الفعلية التي كانت قائمة بين البلدين (واشتملت على وحدة نقدية وسوق مفتوحة وحرية الانتقال للمواطنين والبضائع). وإذا كان هذا لا يكفي، فيمكن التأمل في مشكلات الاتحاد الأوروبي وما يشهده أيامنا هذه من تنازعات حول العملة الموحدة وحرية انتقال العمالة.
وهذا يفرض تحديد آليات مسبقة للتعامل مع هذه المشاكل، خاصة عدالة توزيع العوائد. على سبيل المثال فإن من المتوقع أن يؤول معظم العائد الإضافي الذي حدده التقدير بمبلغ 760 مليارا إلى دول بعينها، بينما قد تكون الوظائف الإضافية في الغالب في الدول النفطية. وما لم يتفق مسبقاً على طريقة عادلة لتوزيع هذه المكاسب، فإنها قد تتحول إلى أسباب للشحناء والخلاف.
إضافة إلى ذلك فإنه رغم تفاؤل التقرير بأن الشعوب العربية متقدمة على الانظمة في رغبتها في التكامل، فإن هذا الحكم في حاجة إلى مراجعة. فهناك مقاومة لا تخفى بين شعوب الخليج مثلاً لفتح أسواق العمالة بحرية لبقية العرب، ومقاومة أشد لفكرة المواطنة العربية الشاملة. ويكفي ما نشهده من وجود مزمن لظاهرة ‘البدون’ في دول خليجية عدة، وهي ظاهرة لا مثيل لها في أي بلد آخر في العالم ما عدا ماينمار!
الخلاصة هي أن التكامل هو بحق، كما جاء في التقرير، وسيلة وغاية، وهو في مصلحة الشعوب والدول العربية. ولكننا لا بد أن نتأمل بنظرة فاحصة أكثر معوقات التكامل ونعترف بها ونتعامل معها بواقعية.
القدس العربي
error: Content is protected !!