ضحكت ساخراً من سلوك متعجرف لضابط نظامي وهو في كامل هندامة الميري المرصع بالنجوم، محتجاً على موقف موظف الشباك الذي حاول دون فائدة أن يرتب طريقة تعامل الجمهور وفق أولوية الحضور، وأحسب ان اسلوب تقديم الخدمات المصلحية عبر نظام الصف فيه من العدالة والمساواة والسرعة ما يكفي، باعتبار أنه ليس في الإمكان أحسن من هكذا طريقة لتحقيق مبدأ الناس سواسية أمام القانون، وتحت إلحاح وزئير الضابط انصرف الموظف كليةً عن أداء واجبه الرسمي في خدمة الجمهور، وتفرغ لتقديم مرافعة بددت الوقت في محاولة التصدي لتطاول النظامي الذي لم يرمش له جفن وهو يتصرف بهمجية ورعونة تنم عن جهل فاضح وأنانية مفطرة على خلفية أن كثيراً من أبواب وشبابيك ومنافذ مرافق العمل العام قد تم تصميمها بعجينة الاستثناء لأصحاب الرتب والألقاب خصماًَ على قدسية القانون وأهمية النظام الذي لا يفرق بين الناس على أساس بريق زائل لوظيفة مؤقتة لا قيمة لها بدون هؤلاء العوام الذين فيهم من هو أكثر فائدة وأعمق نفعاً من أمثال هؤلاء المتطاولين على نظام وضوابط العمل المدني، وهذه المفاهيم يجب تصحيحها وتقويم الإعوجاج فيها لأنها زادت عن قدرتنا على الاحتمال.
والمؤلم في مسألة الاستثناءات الخدمية هذه، أن المشرع المدني نفسه هو الذي يقترح ويبارك كثيراً من القوانين واللوائح التي تعطي النظاميين حق التمييز والأولوية دون غيرهم، لدرجة الغرور الذي يرتقي أحياناً الى مقام الاستهتار بهيبة الدولة وأدمية الآخرين.. فخبروني كيف تفسرون ظاهرة عدم تقيد بعض أصحاب الرتب الرفيعة من النظاميين بإشارة المرور عند القيادة؟ وحتى لا أظلم الجميع فهناك بعض منهم في قمة الضبط والربط والامتثال للقانون، ولكنهم قلة أتت متأدبة الى الوظيفة بأخلاق الاسر التي تنتمي اليها.. فصدق رسول «ص» حين قال: «أطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت ولا تطلبوه من بطون جاعت ثم شبعت».. ومن حسنات الإنقاذ على الكثيرين أنها بنت لهم مجداً دون اعتبار لماضٍ بائس أنجبهم فسعوا الى تغيير جلودهم بطلاء النعمة في محاولة للتخلص من صورة بؤس الأمس.. وعلى طريقة الضابط الرفيع الذي انفجر غاضباً في وجه موظف تسجيلات الاراضي محتجاً على مبدأ مساواته بالوقوف في صف طلب الحصول على الخدمة مع العوام أو الملكية كما يحلو للعسكريين تسميتهم، قس سلوك مستجدي النعمة الذين وجدوا أنفسهم فجأة في مربع الوزارة أو القيادة للواجهات العامة، فسكروا بالوظيفة وتخدروا بطاعة مطلقة من بطانة سوء منتفعة تهرول أمامهم مذعنة بالخضوع، وعلى شاكلة مستجدي النعمة هؤلاء كثيرون يعيشون بيننا ويصرون على التميز والتبجيل، فيشقون صفوف تنظيم تقديم الخدمة أيا كانت ومهما كانت، أو يسرفون في استخدام صافرة الموتوسايكل الشرطية كحل فردي لفتح الطريق وسط زحام كثيف للمرور دون اعتبار لمن يشاركهم الطريق العام، وللأسف تبدو معظم مشاويرهم لأغراض ليست ضرورية أو ملحة بالقدر الذي يجعلها فوق قدسية القانون أو الذوق العام. وينتابني شعور بالغبن من سلوك هؤلاء لدرجة تجعلني أطالب بأن استثناء المرور السريع وسط الزحام يجب أن يسمح به في حالتين لا ثالث لهما، إسعاف الطوارئ وموكب رأس الدولة «الرئيس في الخرطوم والوالي في ولايته».
وتمسك مجتمعنا بالحلول المهارية الفردية هو الذي جعلنا نعتنق ديانة الزحمة والمدافرة عند شباك الرغيف وعند ركوب المواصلات وعند محطات السفر وطلمبات الوقود وعند عبور الطريق وعند الخروج من المسجد عقب صلاة الجمعة وعند مقاعد الدراسة وعند دفن الموتى.. وحتى في عالم السياسة «منذ مرحلة ما قبل الاستقلال» كثير من قراراتنا المصيرية كانت بمبادرات فردية، ومثلها في الألعاب الرياضية وخاصة في كرة القدم، فطريقة الاعتماد على الحلول الفردية لاحراز هدف أو لإدارة الفريق هي أس البلاء في تراجعنا المستمر في عالم المستديرة، وهذه الذهنية هي التي كانت تحكم علاقة النجم «سيدا» بالهلال، فأنظروا كيف أضر سحر «الأنا» بنجم عشقته جماهير أكبر نادٍ في السودان فتحولت ذكراه الى بقايا جراح ومستقبله الى شيء من حتى!!
وما لم نحترم ونخضع لمنهج الحلول الجماعية التي تُذوِّب «بضم التاء» كل مهارات الحلول الفردية وحب الذات لصالح مشروع الوطن الكبير، سنظل حتى قيام الساعة عند مربع البكاء على الماضي واستجداء المستقبل.. والحقيقة التي يجب أن ندركها بأنه لا ولن يمكننا عبور هاوية الحاضر إلا بالتراضي على مبدأ سيادة النظام ومراعاة حق الغير، بغض النظر عن الرتب والالقاب التي أرهق طموح أصحابها عافية البلاد وسلامة المجتمع الذي بات ينظر بكثير من الإحباط وعدم الاكتراث لكل مبادرة أو وثبة تحمل في داخلها أمنيات سعيدة لغد مشرق، لأن العبرة بالأعمال وليست بالأماني، وكثير من قيادات العمل العام بوصفها قدوة مطالبة بمراجعة رصيدها الوطني وإعادة ضبط مسارها في شبكة الإرسال القومي، ولهذا السبب بات كثير من شباب اليوم في حالة نفور من التواصل مع البث الفضائي الوطني، وفضلوا الاقتداء المعرفي عبر القنوات الأجنبية والفيس بوك والواتساب والتويتر والفنجر، وهو ما بات يعرف بالاستلاب الفكري والثقافي باعتباره رد فعل منطقياً لخيبة هؤلاء الشباب في سلوك الكبار بوصفهم قدوة وطنية حشدت كل موارد البلاد وطاقاتها للاستثمار الفردي بعيداً عن تأمين المستقبل لوطن الجميع.. ألم أقل لكم إن الحلول الفردية هي سبب الأذية؟!
صحيفة الإنتباهة
error: Content is protected !!