من المشهود والمعلوم في عالم اليوم أن سكان الكرة الارضية أصبحوا أكثر تنقلاً بين القارات والبلدان وبين المدن والاقاليم والمناطق المختلفة داخل البلد الواحد مما يقتضي بالضرورة تعرّفَهم على وتعرّضَهم إلى أنماط ثقافية مختلفة عن ثقافتهم الأم أو الثقافات المعروفة لهم ولو كان هذا الإختلاف يقل مع انحصار مدى الحركة ويزيد معه بالطبع. ربما تكون دواعي الحركة علمية أو عملية أو اجتماعية لكنها وإن اختلفت تظل الحاجة للتعامل مع الأماكن الجديدة وأهلها قائمة وضرورية لتسهيل التعاملات وقضاء الأوطار اياً كانت.
إن الثقافة تتشكل عموماً بفعل مؤثرات عدة منها مثالاً لا حصراً: الإثنية والدين واللغة والجنس والعمر والوضع الإجتماعي والإقتصادي. ومما لا شك فيه أن العالم أصبح يتجه نحو الإعتراف بالإختلاف رغم سيطرة بعض الثقافات المهيمنة. حتى الثقافة الغربية والمهيمنة بشكل واضح ظهرت فيها إتجاهات جديدة متأثرة بثقافات المهاجرين وثقافات العالم المتداخل معها في حركة الاقتصاد والرياضة مثلاً مما يفند زعم الثقافة الأفضل والأكمل والأعلى ويعزز الوعي بالآخر وقيمته وضرورة تقديره.
لا احتاج أن أُورد الكثير من الإحصاءات عن عالم اليوم لتتضح أهمية الاختلاف والتغير اللذان يستدعيان الوعي الثقافي والحساسية الثقافية فثورة الإتصالات وانتشار الإعلام المرئي والمسموع والمقرؤ جعل غالب سكان العالم يتمتعون بمعرفة بسيطة تمكنهم من ملاحظة الإختلاف الثقافي بل والتداخل والتغيير الثقافي. يمكننا أن نضرب مثلاً بكيفية تنوع الثقافات أو اللغات داخل القطر الواحد وازدياد هجرات الأفراد والجماعات في عالم اليوم بدافع البحث عن حياة أفضل وكيف أصبح العمل التجاري والصناعي والتقني متعدد الجنسيات والعابر لحدود الجغرافيا والقارات سمة لعالمنا وكيف أصبح طلاب العلم يتنقلون من بلد لآخر بشكل مستمر للدراسة وطلب المعرفة وكيف أن البشر في كل يوم وفي بحثهم عن الحقيقة يغيرون دينهم وفي سعيهم للمعرفة يتعلمون لغات جديدة هذا كله بجانب السفر بين البلدان المختلفة للسياحة وللأغراض البسيطة الأخرى. ربما يكفي أن اقول أن اثيوبيا مثلاً – والتي تقدر مساحتها بأكثر قليلاً من مليون كيلومتر مربع وهي العاشرة بين الدول الافريقية من حيث كبر المساحة- يتكون سكانها من 80 مجموعة اثنية وأن هنالك 22 لغة اساسية في الهند تكتب ب 13 خطاً (حرفاً) مختلفاً وأن عدد الطلاب الأجانب في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يفوق المليون وأن الدين الأكثر إنتشاراً (من حيث النمو في عدد معتنقيه) في العالم هو الإسلام وأن هنالك 30 مليون شخص في العالم يتعلمون اللغة الصينية وأن عدد السياح اللذين يزورون ساحة التايمز سكوير بمدينة نيويورك يقدر ب 50 مليون شخص سنوياً وأن حركة الطيران في مطار جديد نسبياً كمطار حمد الدولي في الدوحة تخدم 35 مليون من المسافرين سنوياً.
وهذا بالضبط ما يجعل موضوع الوعي الثقافي و الحساسية الثقافية موضوعاً ذا قيمة وأهمية بالغة لأي شخص ينشط في حركته ومساعيه ويتفاعل مع عالمه. من المهم جداً لأي شخص يتعامل خارج منطقته الأم أو مجاله الذي اعتاد عليه أن يتعرف على القيم والعادات والتقاليد التي يحملها الناس في المكان الذي انتقل إليه خصوصاً إن كان ذلك الشخص يسعى لإحداث أثر ما في حياة أولئك الناس أو ربما الاندماج ولو جزيئاً في المجتمع الجديد.
إن الوعي الثقافي يقوم أساساً على مبدأ عدم التعامل بالأحكام المسبقة و الصور النمطية والتي غالباً ما تُبنى على تعميم مخل وتصورات سطحية. كما أن الحساسية الثقافية تُعنى بالتعامل الايجابي المدرك لنظم الثقافات الأخرى.
إنه ليس من السهل أبداً أن نحصل على قاموس تعريفي لدلالات اللغة المنطوقة ولغة الجسد والتصرفات في كل ثقافة نتعرض لها وبهذا نكون معرضين دوماً – في حال عدم معرفتنا بالثقافة او الثقافات الأخرى- لإرتكاب أخطاء فادحة بدون قصد ويمكن لهذه الأخطاء أن تؤثر على نظرة الآخرين أولئك لنا وتعاملهم معنا وتقبلهم لنا أو حتى تؤذي مشاعرهم وتبني الحواجز النفسية السلبية بين الناس. حتى يتمتع المرء بقدر كاف من الوعي الثقافي بنفسه والآخرين فإنه لا بد أن يكون في حالة بحث دائم عن المعرفة بالخلفيات الثقافية للآخرين وتقص عن معتقداتهم وعاداتهم الراسخة وهذا ليس بالعمل الهين خصوصاً في حال الثقافات المحلية وثقافات المناطق والمجموعات السكانية البعيدة عن العالم الغربي والتي لا تتوفر معلومات كثيرة وحقيقية عنها في مصادر المعرفة الحديثة كاكتب المشهورة والمتاحة ومحركات البحث على الشبكة العنكبوتية بل غالباً ما نحتاج لأن نسأل عنها أهلها ونستعين بالمعرفة الشفاهية وربما الملاحظة المباشرة والمعايشة.
بعد توفر المعرفة الكافية بالثقافة الأخرى أو المختلفة عن ثقافتنا فإنه يتوجب علينا أن نظهر قدر كاف من الحساسية للآخرين باحترام ثقافتهم وتقديرها أو حتى تفهمها (على الأقل) لنتمكن من التعامل مع أهلها والاندماج في مجتمعهم كما يستدعي عملنا المعين أو دراستنا أو خلاف ذلك من معاملات، كل هذا يقتضي بالضرورة أن يكون لدينا قدر من التواضع العالِم والفهم المدرك والمقدرة على التعايش لأن البشر بطبيعتهم يختلفون وفي اختلافهم رحمة وسعة بل أني ارى ان في اختلاف البشر سحر وروعة!
مما لا شك فيه أن كل شخص واعِ يحترم نفسه وثقافته ومعتقداته الشخصية والمورورثة بالقدر الكافي الذي لا يعني بأي حال من الأحوال الغرور بما لديه أو العصبية لثقافته، لا بد أن يحمل نفس القدر من الإحترام للآخرين ويتعامل معهم في الإطار العام بما يظهر تقديره لهم وإحترامه لثقافتهم وإن اختلف مع معتقداتهم الحاكمة لها. إن معرفة المرء بثقافته هي الخطوة الأولى لمعرفته بالآخرين ومعرفة طرق التعامل الأمثل. كما أن وعي الشخص بنفسه أي بثقافته العامة والمؤثرات المباشرة عليه يمكٍّنه من أن يتعرف على التحيزات التي يمكن أن تصدر عنه والتي لا بد أن يعيها في تعاطيه مع الثقافة الأخرى.
إن نفس التصرف الذي يمكنه أن يثير الإستغراب بل وربما الإستهجان في مكان ما ووسط مجموعة معينة من الناس (من خلفية ثقافية معينة) يمكنه أن يكون تصرفاً عادياً بل وربما محبباً ومقدراً في مكان آخر ومع مجموعة ذات ثقافة أخرى. وفي مجال التعاملات الاجتماعية البسيطة فإنه من الصعب جداً أن نحكم على تصرف ما بأنه خطأ مطلق أو صواب مطلق لكن يمكننا وبقليل من المعرفة والحساسية الثقافية أن نحدد إن كان هذا التصرف مقبولاً أو مرفوضاً في ثقافة معينة. الأمثلة تتعدد في اختلاف الثقافات بصدد أمور قد تبدو بسيطة مثل طريقة التحية أو تقديم الطعام للضيوف أو النظر للعين (التواصل البصري) أو التعبير عن المشاعر أو القرب الجسدي بين الاشخاص أو إحترام المواعيد وتقدير الوقت. مما سبق يمكننا أن نضرب مثلاً بالفرق بين الثقافة الغربية التي تقتضي ان ينظر المرء في عيني محدثه لإبداء الإهتمام والمتابعة بينما أنه في أجزاء أخرى من العالم في آسيا وأفريقيا يُعتبر النظر لعين محدثك خصوصاً إن كان يكبرك سناً نوع من الوقاحة وسؤ الأدب.
كما أن الاختلاف بين البشر سنة بديعة فإن مقدرتهم على معرفة هذا الإختلاف وتقدير بعضهم البعض في تعاملاتهم رغماً عنه أو باستصحابه لهو أبدع ما يمكن من سلوك بشري راقٍ ونبيل.
–
error: Content is protected !!