لماذا لا نصالح اسرائيل (2) د. أمين حسن عمر
اسرائيل دولة مصنوعة :
إسرائيل دولة مصنوعة من أساطير يهودية صادفت عقدة ذنب غربية وتراث اسلاموفوبيا عميق الجذور في المجتمعات الغربية. فالغرب أراد التخلص من عئب الأمم الغربية وعقدتها تجاه اليهود بتجميعهم في موطن واحد لا يهم ان كان هذا الموطن في امريكا الجنوبية أم في أفريقيا أم في آسيا . ولم يكن رجال الدين اليهود براغبين في تحقيق هذه الفكرة الاستعمارية الاستيطانية الغربية . ولا يزال فئام كثير منهم اليوم يعارضون فكرة احتجاز اليهودية في وطن واحد، ولكن الجمعية الصهيونية العالمية التي أسسها غلاة العلمانيين اليهود كانت تبحث عن مركز أنطلاق للقوة اليهودية والنفوذ اليهودي عبر العالم ، وتعاظمت الفكرة بتحول الولايات المتحدة إلى دولة وطنية تمنع الهجرة إليها إلا بمقدار وبخاصة الهجرة اليهودية التي تهدد سيطرة الأنجلو ساكسون على مقاليد الأمور في الدولة المتحدة الناهضة ، ولذلك سقطت فكرة تجميع اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية . وبدأ البحث المحموم على أرض يسهل إستيلاء المستوطنين الجدد عليها. وفكرة تجميع اليهود سبقتها فكرة تجميع السود وإرسالهم مرة أخرى إلى أفريقيا إلى أرض يسهل إستيلاء المستوطنون الجدد عليها. فأنشئت دول في الساحل الجنوبي الغربي هى ليبريا أى أرض الحرية وسيراليون وذلك لتقليل عدد السود في امريكا بعد تحريرهم لئلا تؤدي زيادة أعدادهم إلى تغيير وجه أمريكا وسحنتها ووجهتها.
وكان جنوب السودان ويوغندا أو أجزاء منها من أول تلكم الاقتراحات لإنشاء وطن قومى لشعب بلا وطن في وطن بلا شعب أو يكاد أن يكون بلا شعب. وكاد ذلك الاقتراح أن يدخل حيز التنفيذ لولا تطورات جيو سياسية عقيب اسقاط الخلافة العثمانية أغرت أصحاب الفكرة بامكانية تنفيذها في قلب الشرق الأوسط في فلسطين. ولتحقيق هذا الهدف كان لابد ترويج فكرة الدياسبورا التي تقوم على فكرة أن اليهود كانوا شعباً واحداً وأنهم هجروا بالقوة الجبرية وفرض عليهم الشتات . فنشأت أسطورة شعب بلا وطن هو شعب الله المختار الذي يحق له بأمر الهى أن يقود البشرية جمعاء راغبة أم راغمة ، ثم جاءت فكرة الأرض الموعودة بالاعتماد على إشارات غامضة في التوراة والتلمود تتحدث عن أرض الميعاد . وجاء وعد بلفور في العام 1917م ليجعل فكرة الأرض الموعودة ممكنة خاصة بعد إنهيار خلافة بني عثمان وتفجر ما سمي بالثورة العربية التي آذنت بإنشاء الواقع الجوسياسي الراهن . بيد أنه في المنظور الإسرائيلي فأن الجيوسياسية الراهنة هي حالة مؤقتة لأن أرض اسرائيل التوراتية التي تستند إليها الصهيونية تمتد من منابع الفرات إلى منابع النيل، و خارطة هذه الأرض التوراتية هي التي تزين ابهاء المباني الرسمية في اسرائيل وهي التي يجاهر بها الزعماء الإسرائيليون الذين صاروا حكاماً لاسرائيل من بن غوريون إلى نتنياهو فبن غوريون فيما ينقله روجية غارودي لصحيفلا اسرائيلة عقب حرب الايام الستة يقول “أن القضية لا تتعلق بالابقاء على الوضع الراهن بل أنه علينا أن نتجه إلى دولة دينامية تتجه نحو التوسع” . أما موشيه ديان فينقل عنه جارودي فى كتاب الساطير المؤسسة لدولة اسرائيل قوله “إذا كنا نملك التوراة وكنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة فأنه يجب علينا ان نملك الأرض التوراتية أرض القضاة والشيوخ والقدس والخليل واريحا وأمكنة أخرى أيضاً” . أما مناحم بيغن فيقول(أن أرض اسرائيل سترد إلى شعب اسرائيل .. الأرض كلها وإلى الأبد ) وأما كيف تخُلى تلكم الأرض المسكونة بالملايين من العرب وغيرهم لتكون وطناً لهم فان الطريقة الأمريكية في امريكا الشمالية والطريقة البريطانية في استراليا والطريقة الاسبانية – البرتغالية في أمريكا الجنوبية والهولندية في جنوب افريقيا هي الطريقة الناجعة المجربة بل هي الوصفة التي يزعمون نسبتها إلى التوراة ( إذا أنت أفنيتم الشعوب تسكنون الأرض. أما إذا لم تبيدهم واستبقيتهم بعضاً فسيكونون أشواكاً في أعينكم ومناخس في جنوبكم ) وأما واجب تطهير الأرض من الأشواك فهو واجب العصابات الصهيونية ثم الجيش الإسرائيلي من بعد. ذلك الجيش الذي يصفه بن غوريون بأنه خير مفسر للتوراة وأنه هو الذي سوف يرسم حدود اسرائيل فحدود دولة اسرائيل هي حدود قدرة جيشها التوراتي في تدمير الدول وافناء الشعوب.
السودان في قلب الأرض التوراتية:
رغم أن موقفنا من هذه القضية لا يستند على محض الوطنية القحة بل أن أبعاده الدينية والإنسانية أوسع وأعمق إلا أن الرد على من يرون دعوتهم بالتطبيع مع اسرائيل مبررة بالحفاظ على المصالح الوطنية أن تصيبها دائرة، هذا الرد يستوجب علينا مراجعة النظرة اليهودية الإسرائيلية للسودان منذ عهد دويلات بني اسرائيل. فالسودان كان ينظر إليه بأنه أرض ذات خصوصية لبني اسرائيل فابراهيم (عليه السلام) تزوج هاجر الكوشية وان كان نسله أسحق ثم يعقوب الملقب باسرائيل قد جاء من سارة العبرانية ، وكذلك تذكر المصادر الاسرائيلية أن موسى (عليه السلام) تزوج امرأة من كوش وأن أخاه هارون وأخته مريم لم يرضيا بذلك الزواج بل ان البعض ذهب إلى القول أن موسى ربما هرب إلى كوش وتزوج منها ولكن الرواية القرآنية صريحة في كونه تزوج من مدين ، وأنه قد خوطب في جبل الطور في سيناء. ولكن المقصد ههنا هو اظهار احتفاء المصادر اليهودية بالسودان الشمالي الذي عُرف في ذلك الوقت بمملكة كوش والتي ذُكرت في التوراة أكثر من أربعة عشر مرة. بل أن بعض اليهود يفسر نصوصاً بالتوراة تنسب أرض الخليقة الأولى إلى أرض كوش حيث توصف الجنة التي خلق فيها آدم وحواء بأنها أرض ذات أربع أنهر أكبرها نهر جيحون وهو نهر النيل يقول النص التوراتي ” واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط بجميع أرض كوش. وأرض كوش هي مهد الدعوة التوراتية الأولى التي تأمر التوراة الرسل بالتوجه إليها “خذوا هذه الرسالة وعودوا إلى أرضكم التي تجري خلالها الأنهار” وسفر أشعياء فى التوراة يذكر حملات الملك ترهاقا إلى فلسطين وحربه مع الأشوريين الذين غزوا فلسطين واحتلوا القدس وزحفوا نحو مصر لاحتلالها. وتمضي الأساطير اليهودية المرتبطة بالسودان لتذكر كيف فر اليهود بعد سقوط آخر دويلاتهم بالتابوت إلى كوش وكيف تتبعوا النيل الأزرق إلى بحيرة تانا ثم إلى أكسوم حيث دفنوا التابوت . وبقي بعضهم هنالك حيث تناسلوا بعد اختلاطهم بالسكان وحافظوا على العقيدة التوراتية رغم تحول الحبشة إلى النصرانية وظل اليهود الأحباش الفلاشا يُذكرون بوصفهم بعض نسل بني إسرائيل الذي لم يعد إلى الأرض الموعودة مثلما عاد غيرهم . لذلك فكما جاءوا عبر السودان لابد من العودة عبر ذات الطريق فكانت عملية ترحيل الفلاشا عبر السودان واحدة من محاولات تأكيد الأساطير اليهودية القديمة ذات الصلة بكوش وأكسوم وبلاد الأحباش التي كانت تضم السودان الحالي إلى مشارف الهضبة الأثيوبية في أكسوم.
بيد أن جهود مملكة كوش في الدفاع عن شعوب بني إسرائيل في وجه الغزو الآشوري وصلاتها الطيبة مع أبائهم من إبراهيم إلى موسى وسليمان وإصهارها اليهم وحمايتها لحملة التابوت واستضافتها لهم مرة في كوش وأخرى في أقصى حدودها في أكسوم فان ذلك كله لم يشفع لكوش فيجعلها أرضاً غير ملعونة وشعباً برسم الافناء مثل سائر الشعوب الأممية الأخرى التي تحتل الأرض التوراتية في أرض الأنهار الأربعة في مهبط الإنسانية الأول . فهذه الأرض هي التي وهبها الأله بزعمهم لأبراهام “إبراهيم” ونسله وحدهم ولا أحد سواهم ولا أحد غيرهم.
نواصل