وقد كان فوت الموت ســهلا فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعـر
فأثبت في مستنقع المـوت رجلـه وقال لها من تحت أخمصك الحشر
غدا غدوة والحمد نسـج ردائــه فلم ينصرف إلا وأكفانه الأجـر
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشـتهت أنها قبر
وما كان لمحمود أن يرد عنه غائلة الموت بالجزع، فما جزع من المصائب إلا من اتهم ربه.. وما كان ليدفع عنه البلوى بالانخزال أمام المهووسين، وبدع الدجاجلة، واضطغان الذين ما استطاعوا عبر ما يقارب نصف قرن من الزمان أن يجابهوا الرأي برأي أوثق.. فإن فعل خان ماضيه، وتنكَّر لتعاليمه، وقد عرف الناس الراحل الكريم، على لينِ عريكتِه، رجلاً أصمعيَّ الفؤاد، صلب القناة.. إن الذي يأبى على نفسه من الدنيا الفضول – ولا يطلع غيره على ما لا يعلمه عنه إلا الله، لا ينكسر أمام الموت كما يفعل “إمام” آخر الزمان الذي أكداه السعي وراء الحياة، فراراً في كل معركة، ولواذاً عند كل لقاء، وتهالكاً أمام كل مجابهة، فأين مروءة محمود من مِرائه، وأين حلم محمود من غلوائه، وأين تواضع محمود من خيلائه، وأين جرأة محمود من انخزاله وانزوائه..
إن اغتيال محمود محمد طه، شهيد الفكر، لرزءٌ أكبر من أن توفيه الدموع السواجم. وما اغتال محموداً دهرٌ خئون، وإنما انتاشته سهام صدئة، أطلقها قضاة تالفون، ودعاة عاطبون، وحاكم فاجر، معتل العقل، آن له أن يلجم..
لقد ذهب محمودٌ إلى رحاب سنية، وجنابٍ حانٍ، وهو راضٍ، وكيف لا يرضى بذلك، الرجل الذي يودع فلذة كبده، وعينه لا تدمع، وهو يقول لمن جاء لعزائه “لقد ذهب ابني إلى أبٍ أرحم”!! نعم! ذهب محمود إلى ذاك الأب الأرحم، وبقينا نحن في خُلْف شعورٍ وزمانٍ عقيمٍ عقم الخصي الأوكع الذي قتل أباً شجاعاً فتاكاً – نعم! بقينا نحن في زمان كزمان الصوفي المتبتل أبوبكر الواصلي، زمانٌ ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوي المروءة، فما أشد أهل السودان اليوم حاجةً، وقد استبدت بهم الدواهي العظام، والكروب العضال إلى ذوي الرأي السديد والعزم الحديد.. أوغبن في الرأي وخورٌ في العزيمة؟! معاذ الله!
لقد كانت دعوة محمود، على اختلاف الرأي حولها، دعوة مفكر حر، ما حمل يوماً عصا، حتى ليتوكأ عليها وهو الشيخ الذي قارب الثمانين، وكانت رسالته لمثقفي السودان، الذين أجدبت فيهم الأفئدة، وظمئت العقول، وأظلمت الألباب، كانت رسالته للمثقفين حتى يملكوا زمام أمرهم، ويوغلوا في دينهم المتين برفق، بدلاً لتركه للسفلة، السقاط، من المتاجرين بالدين والمطمورين بالخرافة، والمبخوسين حظاً بين الناس يوم قسمت العقول..
وفي البدء كانت الكلمة، وقد بدأ محمود كلمته بالدعوة لخلق الجمال “لأن الله جميل يحب الجمال” ولا مكان للحب والجمال في نفوس الحاقدين والحاسدين، ناهيك عن القتلة السفاحين، وقد كتب شهيد الفكر في أول عدد من الصحيفة “الجمهورية” في الخامس عشر من يناير 1954 تحت عنوان “خلق الجمال”:
((نحن نبشر بعالم جديد، وندعو إلى سبيل تحقيقه، ونزعم أنا نعرف ذلك السبيل، معرفةً عملية، أما ذلك العالم الجديد، فهو عالمٌ يسكنه رجالٌ ونساءٌ أحرار، قد برئت صدورهم من الغل والحقد، وسلمت عقولهم من السخف والخرافات، فهم في جميع أقطار هذا الكوكب، متآخون، متحابون، متساعدون، قد وظفوا أنفسهم لخلق الجمال في أنفسهم وفيما حولهم من الأشياء، فأصبحوا بذلك سادة هذا الكوكب، تسمو بهم الحياة فيه سمتاً فوق سمت، حتى تصبح وكأنها الروضة المونقة، تتفتح كل يوم عن جديد من الزهر، وجديد من الثمر))
ففي البدء كانت هذه الكلمة، التي تدعو لعالم لحمته الحرية، وسداه الحب، ولا حرية مع الطغيان والخرافة، ولا حب مع الغل والحقد. وما قال محمود شهيد الفكر بأنه يعرف هذا العهد الجديد، كما يردد الأدعياء القاصرين، الذين يسعون لكتابة الفصل الأخير من تاريخ الإنسان، وإنما قال “نحن نبشر به”، وما قال محمود بأنه سيخلق هذا العالم الجديد الحافل بالزهر والثمر، كما يدعي الذين يتحدثون عن البعث الجديد وهم يذلون البشر بالتبول على رؤوسهم، وإنما قال “نحن ندعو إلى سبيل تحقيقه”، وما قال محمود وهو الأديب الأريب، لا الثأثأ الفأفأ، بأنه سيد العارفين الذي لا تكتنف دعاويه ذرة من شك، وإنما قال “إنا نعرف ذلك السبيل”. ومن أجل كل هذا أحب الناس محموداً مع اختلافهم عليه. كان هذا هو البدء، ثم مضى في أخريات أيامه، – عوداً على البدء- يدعو مثقفي السودان للحوار الفكري، الحر الطليق، حول أمور دينهم ودنياهم، بدلاً من تركها للموميات المحنطة، والمنافقين المتكذبين باسم الإسلام. فقد عرف أهل السودان، كما عرفنا الدعاة الأطهار، وقد خلت نفوسهم من الغل، وسلمت أفئدتهم من الحسد، وطهرت ألسنتهم من الإسفاف، وتجافت أرواحهم عرض الدنيا الزائل، لا كشاف أئمة آخر الزمان الذين ما تركوا معصية إلا وولغوا فيها. ومن هذا رسالته (( النهج الإسلامي والدعاة السلفيون)) ديسمبر 1980 والتي جاء فيها:
(( إن على المثقفين ألا يتركوا ساحة الفكر، لعقليات تريد أن تنقل تحجرها إلى الحياة باسم الدين، وتريد أن تصفي باسم تحكيم الإسلام سائر مكتسبات هذا الشعب التقدمية التي حققتها طلائـعه المثقفة عبر صراعها الطويل من أجل الحرية والمساواة، ثم على المثقفين أن يتخلصـوا من مواقفهم السلبية المعهودة نحو مسألة الدين فيكسروا الاحتكار الذي ضربه الدعـاة الدينيون حول الدين. إن المثقفين، في الحقيقة، لهم أولى بالدين من هؤلاء الدعاة الأدعياء الذين حجَّروا، وجمَّدوا الدين، ذلك بأن المثقفين يمثلون روح العصر، بأكثر مما يمثلها هؤلاء)).
لقد أحسن شهيد الفكر الظن بدعوة نميري للإسلام، وما كانت تلك الدعوة إلا كلمة حق أريد بها باطل، فما أراد النميري الإسلام إلا سوط عذاب، وآلة تعذيب يقهر بها الخصم، ويروع بها المناهض. وما كان لذي الصبوات في شبابه، والنزوات في كهولته أن يفعل غير هذا، بل ما كان غريباً – والحال هذه- أن يمضي صاحب الدعوة المزعومة للبعث الإسلامي، دافعاً بالسودان إلى بدعٍ لم تعرفها الدولة الإسلامية إلا في عهود الانحطاط التتري والشعوذة الأيوبية، والطغيان المملوكي.. فما عاد الإسلام هو الإسلام، ولا أصبح السودان هو السودان، ودون الناس هذه المخلوقات الديناصورية التي أخرجها النميري من حظائرها. والتي لا مكان لها في عالم اليوم، إلا في متاحف التاريخ الطبيعي.. كما أحسن شهيد الفكر الظن بمثقفي السودان وهو يستحثهم للدفاع عن حقـهم في الحياة، وفي التفكير، وفي الإرادة الحرة الطليقة، فوقفوا – أغلبهم ذاهلين- أمام بدع الجاهلية، وضلالات المهووسين وتقحم المتفيقهين.. وكل ذلك باسم الدين، والدين منهم براء!! ومع كل هذا الهوس والتعصب المذموم، المزعوم، صمت هؤلاء الأدعياء المنافقون على انتهاب بيت المال على يد خازنه، وصمتوا على بيع ديار المسلمين في مزاد مقفول لمشترٍ واحد هو “الخاشقجي”، وصمتوا على تجاوز الحاكم لأحكام السماء في تعامله مع ذوي البأس من غير المسلمين، كما فعل مع المصارف الأجنبية حول الربا، وصمتوا على هرطقة الحاكم وهو يساوي نفسه بالرسول الكريم، عليه أفضل الصلوات، وصمتوا على تجاسر الحاكم وهو يفترض لنفسه عصمة في دستور حاكه بيده، والعصمة لم يعرفها الإسلام إلا لمحمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد عصمه بارئه، وصمتوا على خيانة بيضة الإسلام وهو يتقاضى الثمن الربيح على تهجير يهود إثيوبيا لإسرائيل. صمتوا عن كل هذا، فالإسلام في عرفهم هو القطع والجلد والتشهير بالشارعين في الزنا.. وعلم الله أن الزناة الحقيقيين هم زناة الفكر والقلم، “وستكتب شهادتهم ويسألون”..
وعلَّ مثقفي السودان، قد رأوا ما يمكن أن يقود إليه الهوس الديني وشهدوا ما يمكن أن يؤدي إليه صمت الشياطين الخرس عن الحق.. ويا ليت أهلي يعلمون! يا ليتهم يعلمون، أن الطاغية الذي لا يقتصد في محاسبته رجل مسالم هو أول الناس إجفالاً عندما يلوح له بالعصا، فما سلَّ “الإمام” سيفه إلا أمام أعزل، وما طالب الطعن والنزال إلا في ساحة خلاء.. ودون الناس توسله وتضرعه للصنديد جون قرنق في أدغال الجنوب، ودون الناس انكساره أمام الأب فيليب عباس غبُّوش؛ وما انكسر البطل إلا لأن الشيخ الذي أحوجت سمعه الثمانون إلى ترجمان قد قالها ولم يُبال!! “إن مسَّني أحد بضر فسنجعل الدماء تجري أخاديد”.. ودون الناس تهالكه بالأمس أمام الأطباء.. وهو يكذب وفي لسانه لسع الحية.. أوهناك من يصدق بعد كل هذا بأن هذا العاطب معتل العقل يتصرف من وحي دينه؟! فالله يعلم بأن إمام السودان الذي يتكئ اليوم على عصاة مهترئة اهتراء منسأة سليمان، لظالم بلا إرادة، وصارمٌ بلا عزم، وحـليم بغير اقتدار، ومحارب بسيف من خشب، كسيف سميِّه “أبي حية النميري”. وما غدره وطغيانه إلا طغيان ضعيف مرتجف. إن العصبة الظالمة التي تتحلق حول إمام آخر الزمان “كافورنا هذا” إنما تجهل، كما يتجاهل، بأن شهيد الفكر سيبقى ضميراً مؤرقاً، ومصباحاً مسرجاً، في هذا الديجور الحالك الذي يعيش فيه أهل السودان؛ سيبقى في غرسه البشري الذي أورق، وفي نبته الفكري الذي اكتهل، وسيبقى في نفوس كثير من السودانيين كنموذج للرجل الذي تجافى مزالق السـقوط، وما فتئ يحترم في الناس أغلى ما يملكون – عقولهم-. وسيبقى إسم محمود بعد كل هذا حياً في نفوس الذين لا ينامون على الهوان، بما سيثيرها فيهم من بغض للظلم وإدانة للعدوان واستنكار للهوس، وإنكار للغدر..
لقد اغتال النميري، والعصبة التالفة من خلفه من كل مشعوذ ومنافق ومتاجر بالدين، لقد اغتال كل هؤلاء باسم الإسلام والمسلمين مفكراً حراً، أعزلَ من كل سلاح، إلا القلم، ومع هذا، فما تركوا لهؤلاء المسلمين فرصة الابتهاج بهذا الذبح الثمين، بل هرَّبوا جثمانه خشية ما لا تحمد عقباه. لقد أخرج النميري العسس والعيون والسلاح والحديد فكذَّب بذلك كل دعاويه ودعاوي من حوله من المنافقين، فما أراد النميري بجرمه الشنيع الفاحش هذا، وما تبعه من مظاهرة بالقوة، إلا إرعاب أهل الشمال، بعد أن تركه أهل الجنوب، يسلِّح على نفسه، حتى ذهب لبيع السودان كله نفطاً وقطناً وتراباً حتى يبتاع بثمنهم سـلاحاً، يدفع عنه، لا عن السودان، العوادي – وحربه في الجنوب حربُ بغيٍ، وما بغى المرءُ إلا على نفسه!! ويا ليت حاكم السودان كان يملك الحس من المسئولية الوطنية التي تجعله يقول ما كان يقوله شهيد الحرية: (( “تقول الحكومة راح منا عشرون وقضينا على ستمائة من المتمردين” أما نحن فنقول “لقد راح ستمائة وعشرون مواطناً سودانياً”)). وعلَّ إمام الباطل يعرف في نهاية الأمر، أنه يتاجر برأسمال غيره، وما تاجر برأسمال غيره إلا المفلس، فالجيش جيش الشعب، والسلاح سلاح الشعب.. ولن يرضى هذا الشعب لنفسه أن يكون وقوداً لحرب جائرة، أشعلها حاكمٌ ظنينُ عقلٍ.. كما لا يرضى لنفسه، أن يكون أداة بطش في يد طاغية لا ظهير له.. فيوم أن تجيء الحاقة فلا غوث لعاطب ولا ملاذ لتالف، ولا يحسبن الظالمون بأن دم أبي الشجاع سيذهب هدراً ليبقى فيها ليسرح خصيٌ أوكع، أو لتمرح إماءٌ لكع.
error: Content is protected !!