تضطرم الأحوال السياسية في بلادنا السودان باحتقان لاهب وتمور بإضطراب كبير. ومرد ذلك إلى آفة ليست بالخفية وإن كانت مخفية ، وهي آفة فوران العواطف والمشاعر الخام وطغيانها على منهجية التفكير البصير القويم الهادي أصحابه إلى الصراط المستقيم.والأمر ليس بمقتصر ولا منحصر في الساحة السياسية بل يتعداها إلى مجامع أهل المذاهب الديني ومحافلهم حتى صارت الفكرة المطلقة هي سيدة الموقف. فما أراه وما أقوله صواب لا يحتمل الخطأ وإن لم يكن آية قرانية أو حديثاً صحيحاً متفق عليه، وما تراه أنت وما تقوله خطأ بل ربما خطئية لا تحتمل الصواب ولا سبيل لك إلا بالرجعى إلى ما أقول أو تتوب أو تستتاب! ولئن كان هذا هو غالب الحال الجاري والأمر الدارج فكيف لنا أن نتوقع ائتلافاً على خطة تهدي الخطى إلى سبيل النهضة والتقدم والرقي؟
العقبة الكاداء .. أو القبعة الحمراء:-
الانسياق مع العاطفة الخام أي إتباع الهوى هو سبيل الضلال عن محجة الرشد. فالرفعة والنهضة والتقدم لا تتحقق إلا بمخالفة العاطفة الخام التي هي هوى النفس “ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض وأتبع هواه” (الاعراف 176). (ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا وأتبع هواه وكان أمره فرطاً) (28 الكهف) (وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى) (40 النازعات).
والهوى ناجم وناتج من شح الأنفس ومن خوفها . ولأن الإنسان مفطور على حب البقاء فإن الله ألهم الأنفس أن تجلب اليها ما يبقيها وتدفع عنها ما يفنيها ولكن هذه الفطرة الخلقية قد تتحول إلى حالة من الإفراط في حب النفس (الشح) فتجلب من أسباب حفظ النفس من المال والمتاع ما يزيد عن الحاجة ويتسبب في حرمان الآخرين من الحصول على تلك الأسباب . وأما الخوف فهو غريزة درء الأسباب التي تؤدي إلى الايذاء أو الافناء . وقد يفرط المرء في ذلك حتى يتسبب في ايذاء الآخرين أو افنائهم بدافع الخوف والمبالغة في التحوط من الأذى. فالهوى كما قال الأمام الطبري في تفسيره هو مرادف لشح النفس ولن يفلح أنسان غلب هواه على حجاه . ولن تفلح جماعة غلب تعصبها على تفكرها. والقرآن دعا المخالفين إلى تغليب التفكر على الهوى “قل إنما أعظكم لواحدة ان تقوموا لله مثنى وفرادي ثم تتفكروا” والتفكر أسم للتفكير . وهو إعمال الخاطر في المستجد من الشؤون أو الأمور . والفكر “هو سلسلة من أوجه النشاط النفسي والعقلي غير المرئي التي يتناصر عليها القلب والدماغ عندما يستجد مثير تدركه واحدة أو أكثر من الحواس الخمس .وهو تبصر في الموقف أو استجلاء للخبرة لتوجيه صاحب الفكرة إلى التصرف الأجدى والأنفع في مواجهة ما يستجد” . وحدة التفكير وقوته مهارة تكتسب بالمزاوجة بين الفطرة والموهبة والدُربة المكتسبة ببذل غاية الوسع في التأمل والتدبر وتخيل الاحتمالات واسترجاع الخبرة الملائمة. ولما كانت عملية التفكر مركبة اقتضى ذلك التروي المشار إليه في لفظة “أن تقوموا” فالقيام هو الاعتدال . ولعل أشهر تقسيمات أنواع التفكير هى تقسيمات (ادوارد دي بونو) والتي أسماها “القبعات الستة” فهو قد قسم التفكير إلى ست أنواع . ورمز لكل نوعٍ من الأنواع بقبعة لها لون محدد. فالنوع الأول عنده هو ما أسماه بالقبعة البيضاء ، وترمز لما يسميه بالتفكير المحايد . وهو التركيز على الحقائق المجردة المدعمة بالأرقارم والاحصائيات . كما هو الحال في الحاسب الآلي ولعل هذا التفكير الذي يطلق عليه التفكير الموضوعي نادر الوجود إن لم يكن منعدماً بالكلية . فالإنسان ليس حاسباً آلياً بل هو كيان مركب من مشاعر وخبرة سابقة و لديه تصنيفات مسبقة وتحيزات . ولكي يحظى الانسان بالقبعة البيضاء لابد له من التجرد تماماً من التحيزات والمعلوم يقيناً من الإفادة الربانية أننا لن نستطيع أن نفعل ذلك ولو حرصنا “ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم” فالميل القلبي الذي تنشئه الخبرة المختزنة ليس من السهل محوه . ليكون القلب صفحة بيضاء مثل الحاسب الآلي . فيحظى بالقبعة البيضاء. وأما النوع الثاني من التفكير والذي رمز له دي بونو بالقبعة الحمراء فهو استحضار العواطف والمشاعر والأحاسيس بقوة بسبب الخوف أو الحذر أو الانانية أو الشح . وهذا النوع يدفع بالأدرنالنين إلى كل أطراف الجسد فيمتليء الجسم والدماغ والاعضاء بالتوفز والتحفز. فالتفكير الذي تغلب عليه العاطفة يفتقد التروي والقدرة على التركيز . فالقدرة بالتالى على الحكم الصائب الرشيد. قبعة دي بونو الثالثة هي التفكير السلبي وهو أدنى ما يكون للتفكير العاطفي ورمز له بالقبعة السوداء . هو التفكير السلبي الذي يرى الجزء الفارغ من الكوب . وينزع إلى التشاؤم بدلاً من التفاؤل والى اساءة الظن بدلاً من إحسانه . والتفكير السلبي ليس شراً كله ما لم تخالطه الانانية والشح . فينزع الانسان الى احسان الظن بنفسه واساءة الظن بالآخرين . ويكون أفضل ما يكون عندما يرجح الميزان نحو إساءة الظن بالنفس على طريقة أهل التصوف واحسان الظن بالآخرين كما أمرنا القرآن ووجهتنا السنة . وأما القبعة الرابعة فهي ما رمز له دي بونو بالقبعة الصفراء . وهو التفكير الايجابي وهو الذي يرى دائماً النصف المليء من الكوب . ويتحرى الأخبار الجيدة والجوانب الايجابية في كل ما يعرض له . والتفكير الايجابى برغم كونه أفضل أنواع التفكير إلا أنه لا يخلو مما يعيبه . وهو ان ينزع الانسان إلى أضفاء صورة وردية غير واقعية على الأشياء والاحداث . فيؤدي ذلك بدلاً من حفزه لمزيد من الجهد إلى التراخى والتواكل . ولكن أفضل أنواع التفكير هو عندما يتطور التفكير الإيجابي ليكون تفكيراً إبداعياً رمز له دي بونو بالقبعة الخضراء . وهو التفكير الذي تتنامي فيه جرعة الخيال فتعلو على الخبرة . فينزع إلى التجاوز والابتكار وتوليد الفكرة من الخاطرة العابرة. وآخر قبعات دي بونو هي القبعة الزرقاء أي التفكير الشامل الناجم عن التفكير في التفكير نفسه هو عملية نقد وضبط الأفكار وترتيبها وتحويرها لتؤتي خير أكلها وتكثر وتعظم ثمارها وآثارها.
التفكير العاطفي سبيل السلبية:-
لاشك أن التفكير العاطفي هو أدنى درجات التفكير أن لم يكن أول دركات الإنزلاق من التفكر إلى التهور وهو بلاشك سبيل يفضي إلى التفكير السلبي الذي يختزن التشاؤم والريبة وسوء الظن بالنفس كما تنشأ عنه غالب أدواء النفس وامراضها النفسية مثل الفوبيا والبارنويا وانقسام الشخصية (الشيزوفرنيا) . هذا في أدنى أحواله وأما اذا لم يبلغ ذلك الدرك فهو يورث الكبرياء المزيفة والتعصب والعجب بالنفس والرضى بالحال وليس ثمة عدو للتقدم مثل أن يقال “ليس في الأمكان أبدع مما كان.
د. أمين حسن عمر
error: Content is protected !!