الدستور هو قاعدة بناء الدولة، والدولة إما أن تبنى على أساس متين أو تبنى على اساس هش هار ما يلبث أن ينهار. وكلمة الدستور نفسها والتى هى مستعارة من الفارسية بوساطة اللغة التركية معناها اللفظى هو( الأساس).والدستور هو أبو النظم ويعرف قانونيا بأنه النظام الأساس المنشىء والمنظم لسلطات الدولة والمبين والموضح لصلاحيات وسلطات كل مستويات الحاكمين فيها والموضح والمبين بغير لبس لحقوق المواطنين فيها، لذلك ما كان للدستور أن يأتى إلا على قناعة راسخة من السواد الأعظم من الناس بمشروعيته ولا يتحقق ذلك ما لم يستمد الدستور من القناعات الراسخة فى الأمة المستمدة من العقائد والأعراف المستقرة. لذلك فإن إجابة الدستور على كبريات القضايا لابد لها من الإستمداد من معين ثقافة الأمة ودينها وعرفها وإلا جاء الدستور مثل شجرة نابتة ما لها من جذور ما تلبث سافيات الريح ان تجتثها من الأساس.
ماقبل الدستور:
ما تعارفت عليه الأمة هو أساس الإنتظام فيها فحتى الأديان إنما نشأت لتتميم العرف الناشىء من الفطرة الإنسانية السليمة.ولا يزال قسط الفطرة فى تصرفات الناس الصالحة هو الأساس وإنما جاءت الأديان تكميلا ولم تأت تأسيسا يقول سبحانه وتعالى مخاطبا آدم وزوجه ( قلنا أهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوفإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )والفطرة هى تعليم الله الأول لآدم إذ يقول ( وعلم آدم الأسماء كلها) ولا تزال الانسانية لا تختلف على أمهات الفضائل ولا تتمارى فى كبريات الرذائل إلا قليلاً . فالعرف هو أساس ما ينفع الناس والدين إنما يميز الطيب من الخبيث مما تعارف عليه الناس فالخير مرجعه إلى الفطرة والشرمثابته للغريزة الشهوانية التى أخرجت آدم وزوجه مما كانا فيه.ولذلك قيل ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ولم يقل ما رآه الناس فالإيمان شرط للتمييز وأداة للتحسين والتقبيح لا يتم عمل العرف إلا به. والفقهاء يعرفون القاعدة الشرعية اتى تقول إن العادة محكمة لكن العادة لا تكون محكمة أو عرفا معروفا إلا إذا إستقامت ولم تضطرب وأضطردت فلم تتقطع . وقد ألَّف العلامة ابن عابدين رسالة سماها: «نشر العَرف فيما بني من الأحكام على العرف»، ومن العبارات المشهورة: « المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص» وأما العرف الفاسد : فلا تجب مراعاته لأن في مراعاته معارضةَ دليلٍ شرعي ، أو إبطالَ حكمٍ شرعي، فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة ، كعقد ربوي، أو عقد فيه غرر وخطر : فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد. وما ينطبق على عقود الزواج أو البيع ينطبق على سائر العقود والدستور هو العقد الأعظم من عقود الأمة ومنه تنبثق سائر التعاقدات والتنظيمات. ولاشك أن كل الأمم إنما تقيم دساتيرها وتشريعاتها كافة على ماتعارفت عليه أنه الأحسن والأنفع.والدستور الأمريكى الذى وضعه جورج واشنطون فى العام 1889 لتأسيس الفدرالية الامريكية التى أنشات الولايات المتحدة الأمريكية هو أقدم دستور مكتوب مستمر غير متغير وقد إضيفت إليه وثيقة الحقوق فى العام1891 وعلى الرغم من علمانية الدستور الامريكى التى جاءت لمنع التصادم بين مذاهب مسيحية يكفر بعضها ببعض إلا أنه مؤسس بإجماع علماء القانون والسياسة على الثقافة المسيحية ذات الأصول اليهودية وقد إضيفت عبارة بالله نثق شعارا له يوضع خلف منصة الرئيس فى الكونغرس وهى محفورة فى مدخل مجلس الشيوخ ومطبوعة فى سائر أوراق الدولار الأمريكى وكذلك يرد فى قسم الولاء الذى يؤديه الرئيس وكل موظفى الدولة عبارة فى (عهدة الله) تأكيدا على أن علمانية الدولة لا تعنى أبتعادها عن الأيمان. ويقر كثيرون أن الدستور الأمريكى إنما أسس على الوصايا العشر التى تتفق عليها المذاهب المسيحية ولذلك لم تمنع المحكمة العليا تدريس الوصايا العشر فى المدارس بحسبان أنها لا تخالف علمانية الدستور. وعلمانية الدستور الأمريكى تعنى فصله عن الكنيسة وليس تعاليم الدين بل أن غالب التشريعات فى الولايات الأمريكية المتحدة إنما تبرر وتعارض لموافقتها أو مخالفتها للدين المسيحى والحورات التى تدور حول حق الحياة وحق الإجهاض وحرية الجنس المثلى وأمثال هذه القضايا منطلق إتخاذ المواقف فيها هو عقيدة هذا الفريق والفريق الآخر.
ويبرز هذا التأثر بالدين سواء ب(البروتستانتية، أو الكاثوليكية) في أمريكا لطبيعة نشأة الولايات المتحدة الأمريكية إذ أن أصل هذه الروح المتدينة جاء به أهل مخلتف المذاهب المسيحية وهم المهاجرون الأوروبيون الأوائل إلى الأرض القبائل الهندية الحمراء، كذلكم فإن أصول التشريع التي تضمنها الدستور الأمريكي بما في ذلك تعديلاته المختلفة وأن فرق نصها النصوص المسيحية فقد اقتبست من معانى الكتاب المقدس.
ونتج عن ذلك أن تأثير الأصول المسيحية على السياسة الأمريكية بدا واضحا في سياستها وأختياراتها الداخلية وسياستها الخارجية، وذلك من جهة لنظرتها لنفسها في العالم، كأمة صاحبة رسالة أخلاقية مستمدة من المسيحية تحمل رسالة خلاص للعالم ، وينبثق من ذلك ما يتعلق بالموقف من إسرائيل، و الموقف من شتى الدول بحسب التوافقات والتحيزات الدينية. فالتوافق مع الأوروبيين يحدوه التوافق الديني يتأثر بالمذهب البروتستانتي أوالكاثوليكي، وكذلكم التراث المسيحي المشترك ويعبر عن ذلك صراحة بغير مورابة أو موراة، وكذلكم التعاطف مع الصهيونية اليهودية.
وعودا على مبتدأ الحديث فإن العرف والدين هما مصدرا التشريع والدستور سواء كتب ذلك فى صدر الدستور أو لم يكتب فهو الحقيقة المسلمة التى لا يمارى فيها إلا مكابر وهذا النص يجىء فى صدر دستور السودان 1974 وكذلكم فى صدر دستور 1998 ودستور2005 الانتقالى التى أسس على بروتوكول مشاكوس الذى حسم قضية مرجعية الدستور مرة وإلى الأبد من خلال توافق جميع القوى السياسية على نصوصه بوجه لم يسبق له مثيل فى تاريخ السودان .
قضايا الدستور الكبرى:
لئن كان الدين والعرف هما مرجعا الدستور فإن أهم قضاياه هى أولا قضية الهوية الوطنية ثم قضايا درء التنازع وإستدامة السلام ثم قضايا الحكم الراشد والفدرالية ثم قضايا التسارع والتوازن التنموى ثم قضايا السيادة الوطنية والحضور الدولى.ولقد حظيت أمهات القضايا هذه بحوار طويل فى منتظمات الحوار الوطنى والحوار المجتمعى ثم لخصت المخرجات فى الوثيقة الوطنية التى إقتربت بنا كثيرا من مقام التوافق على دستور يحظى بمقبولية كبرى. وأولى هذه القضايا هى قضية الهوية الوطنية.ولاشك أن الهوية الجمعية للمواطنين لا تلغى ولا تجب الهويات الثقافية أو الفئوية للمواطنين كما لا تلغى التمايز فى الهوية الفردية لكل مواطن فهذا التنوع الهوياتى هو عنصر قوة إذ بلغ إلى صبغة توافقية لتأسيس هوية وطنية جامعة وهو عنصر تفتيت إن هو أخفق فى تحقيق التجانس من خلال إدارة ذكية للتنوع الفردى والإثنى والثقافى. وقد سبق أن قلنا فى مقام آخر إن جدل الهوية في السودان لم يكن كله بالكلمات بل تحول في إحيان كثيرة الي التعبير من خلال صندوق الذخيرة. فهل كانت قضية الهوية حقاً سبباً في تشعب الخلافات وتكاثر النزاعات؟ أم انها اتُخذت مبرراً مناسباً وغطاء سابغاً لطموحات او ظُلامات لا تمت للهُوية أو الثقافة والانتماء بصلة. وإنما كانت شعاراً ودثاراً ألفاه المتزملون به خير إستمالة عاطفية لموقفهم من الخلاف او النزاع او الحرب. بيد أنه وفي كل الأحوال فإن سؤال الهوية يظل غاية في الأهمية وتشكل الاجابات المختلفة عليه استجابات متعددة تتمظهر فيما بعد في المواقف الايدولوجية والسياسية . وتؤثر بأعمق مما يتصور كثيرون في التحالفات الداخلية والخارجية وتوازنات القوي . كما تؤثر علي السياسات العامة في كافة المجالات وبخاصة في مجال التعليم والتوجيه والاعلام والثقافة العامة. ورغم كل هذه الاثار الهائلة إلا انه ما من سؤال آخر يضاهي سؤال الهوية في حالة الارتباك الكبري والاختلافات الفلسفية والفكرية العميقة التي وسمت مقاربات أهل الفكر والسياسة عند محاولتهم الاجابة علي السؤال والسؤالات الاخري المتفرعة عنه. لذلك حقيق بالتثمين ما توصلت له الوثيقة الوطنية من مقاربة متفق عليها لسؤال الهوية الوطنية والذى أجابت عليه بالقول(إننا سودانيون هويةً، وهويتنا إكتسبت بُعدها من الثقافات والأعراق المشتركة في تكوينه ، وإمتزاجها أعطى هذا الكيان المتفرد من أهل السودان رسمه ووصفه وسمته، وهي بعدٌ ذو خصوصية لموقعنا الجغرافي حيث أدت لتلاقح بين الثقافات أطر ثقافتنا السودانية بمكوناتها وأجزائها المتنوعة، منحدرين عبر تاريخ طويل تعاقبت فيه الحضارات المبدعة فشكلت ذاكرته وتراثه وغذّته الأديان السماوية المتعاقبة بالقيم الفاضلة التي يعمر بها وجدان أهله، وفي هذا الأطار تصبح المواطنة ولاءً وجدانياً وانتماءً شاملاً للوطن الذي يعكس ويجسد مكوناته الحضارية والقيمية والثقافية وتقاليده وأعرافه المرعية وتقوم عليها قاعدة المساواة في الحقوق والوفاء بالواجبات والتي تتجاوز الانتماءات الأضيق »الإثنية والقبلية والجهوية والطائفية والمذهبية« والإرتقاء بمفهوم الإنتماء الوطني الأرحب المستصحب لكل الأبعاد السياسية والثقافية والإجتماعية وتحقيق معاني الإنتماء للوطن والولاء له وعدم المساس بحرماته او الإساءة اليه والعمل على إبراز الصورة المشرفة له في الداخل والخارج والإقرار بالتنوع والإعتراف بالتعدد الثقافي والإجتماعي لمكونات الشعب السوداني والتي تشكل مع قيمه القاعدة لهويته السودانية.غرس وبناء معاني الهوية وتعزيزها في وجدان النشء بإعلاء قيم المواطنة.
وهذه المعانى التى وردت بالوثيقة الوطنية للحوار لا خلاف عليها وإن كانت مادة تقبل التفصيل لإجمالها والتوضيح لمقاصدها لتكون أساسا لإستنباط المناهج التربوية والسياسات والتشريعات، فالهوية الثقافية الوطنية هى الملهم لكافة تصرفات السياسة فى كل المجالات.وهو الحوار المطلوب إنجازه فى ملتقى الدستور لكى تصبح مواد الدستور المتصلة بقضية الهوية الثقافية الوطنية ملهما للسياسات العامة بالدولة .
ولا شك أن النجاح فى إدارة راشدة لقضية التنوع والتجانس فى الهوية الوطنية له قسط كبير فى درء التنازع وإستدامة السلام.وإرساء السلام والأمن والطمأنينة قضية جوهرية وملحة لأي جماعة مهما صغر حجمها، فمنذ بداية الخلق تنازع ابنا آدم وتشاحنا، فكان أول اعتداء على النفس البشرية «التي حرمها الله تعالى» إذ قتل أحد ابني آدم أخاه. والسلام والأمن والطمأنينة ضرورة حياتية للمجتمع الإنساني وللدولة ، فالاستقرار الاجتماعي والسياسي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية كلها ترتبط بقضية السلام.. فإذا انعدم السلام والأمن اضطربت المجتمعات والدول و انفرط العقد الاجتماعي وسادت الفوضى والقتل والنهب والسلب والفساد بكل أنواعه. فالسلام قيمة إيمانية أصيلة ترتبط بمعنى الإيمان، والسلام اسم من أسماء الله عزّ وجل نعبده ونذكره به، والسلام قيمة إنسانية من القيم البنائية مطلوب تنميتها في كل اتجاه ورعايتها في برنامج الدولة سياسياً واجتماعياً وثقافياً حتى تثمر نتائجها استقرارا سياسيا ونهوضا تنمويا ورقيا إجتماعيا وعزة بين الأمم. والمجتمع السودانى هو الأجدر بأن يعتبر بتاريخه منذ الاستقلال. فتاريخ السودان الحديث ابرز علاماته الحرب الأهلية الطويلة التي امتدت لأربعة عقود من الزمان. وقد دفع السودانيون إزاءها ثمناً باهظاً من الأرواح والدماء، والعرق والعنت ، والموارد المهدرة وفساد البيئة وتعطيل التنمية ونزاعات قبلية ونزوح ولجوءا وفقرا وجهلا ومعاناة قاسية لجميع المواطنين وفوق ذلك ضاع من أهل السودان وقت طويل هدراً وفقدت دماء وموارد جمة ، وللمجتمع السوداني كذلك العبرة والتبصر بعقل وروية فيما لحق بالمجتمعات في جوارنا من الأشقاء الأفارقة، والعرب في الكنغو وبورندي ورواندا وإفريقيا الوسطى وفي ليبيا الشقيقة والعبرة واضحة فيما لحق بالمجتمع السوري، واليمني كل هذه المجتمعات كانت آمنة مطمئنة ، فدخل عليها شيطان النزاعات والحرب فصارت إلى ما هو مشهود معلوم.
وأمام أهل السودان فرصة نادرة لينتبهوا وليتجاوزوا الممارسة السياسية المعهودة منذ الاستقلال التي ما عرفت إلا الانقسام والانشقاق والنزاعات والصراع السياسي حول السلطة دون أهداف فى غالب الحال إلا لذات السلطة، ففقد المجتمع الوفاق الوطني، والاستقرار السياسي اللذين ظلا حلماً تتقاصر عنه الخطى منذ الاستقلال .
د. أمين حسن عمر
error: Content is protected !!