يشكو كثير من اناس هذه الأيام من صعوبة الحصول على مبالغ كبيرة من الكاش، ومما لاشك فيه أن ذلك يسبب مضايقة لإقتصاد متوعك لعله المسجل لأعلى نسبة فى إستخدام الكاش فى المعاملات فى العالم وربما المستحق للرقم القياسى فى موسوعة جينس للأرقام القياسية. بيد أن كثيرين من الناس لا يدركون الأضرار الهائلة التى تجلبها السيولة الزائدة للإقتصاد الوطنى الذى يصبح مظهره وباطنه مثل مريض الاستسقاء الذى تنتفخ بطنه بالسوائل حتى ما يكاد يسير. ولايبقى من ثم إلا المعالجة الأليمة الباهظة الأثمان.
الصين تخلصت من الكاش :
الاقتصاد الصينى من أنجح الإقتصادات فى العالم وأسرعها نموا ونجاح الصين وإستدامتها للنمو له أسباب عديدة، واحدة من أهمها القدرة على التمويل للمشروعات لأن المال الصينى لا يوجد جله إلا فى المصارف ، ولئن عرفنا فى السودان حصاد المياه من خلال تجميعها فى السهول المنخفضة بواسطة السدود فقد عرف الصينون حصاد الأموال من خلال تجميعها فى المصارف عبر جزادين الهواتف السيارة. فالهاتف السيار فى الصين صار وسيلة للدفع بأكثر منه وسيلة للإتصال . وغالب الناس يشحنون الرصيد على نوعين رصيد قليل للإتصال ورصيد أكبر لما يسمى الجزدان «الإى واليت» والجزدان أو الجزلان بالدارجة السودانية يُملأ رصيده من خلال وصله بحساب بنكى مسجل بالرقم الوطنى ومحمى بحماية حيوية مثل البصمة أو بؤرة العين أو ما شابه ذلك ، ثم أن ذلك يتحول إلى كيوآر فى هاتف الشخص المسجل الهاتف باسمه ورقمه الوطنى ، ومن خلال هذا الكيوآر الذى تقرأه القارئات الإليكترونية تتم عملية الدفع من الهاتف السيار حيث توضع الكيو آر فى مواجهة القارئة ليتم سحب المبلغ إما من الجزدان بالهاتف أو من الحساب المصرفى مباشرة وهكذا تقول الصين وداعا للكاش ومرحى بالإزدهار الاقتصادى.
ويقول خبراء التقنية المالية في شنجهاي،:«تظل عمليات الدفع الرقمية جزءاً أساسياً من البنية التحتية للتقنية المالية في الصين، لكنها أيضاً مصدر مهم للصفقات والبيانات المالية التي ظلت تستفيد منها شركات الدفع في منصات التقنية المالية وارتفعت قيمة دفعيات الهواتف المحمولة للطرف الثالث في الصين، بأكثر من ثلاثة أضعاف إلى 38 تريليون يوان «5.5 تريليون دولار» في العام الماضي وتفوقت على خدمة الهواتف المحمولة في أميركا بنسبة قدرها 39% إلى 112 مليار دولار، في وقت تتقاسم فيه حصص السوق شركات تضمنت، آبل وجوجل وسامسونج وباي بال
وتتضافر أسباب أخرى لتفوق الصين على أميركا في عمليات الدفع عبر الهواتف المحمولة، من بينها عدم انتشار بطاقات الائتمان في الصين، بالمقارنة مع أميركا، في حين يتسم الدفع ببطاقات الصراف الآلي بالبطء، خاصة وأنه يتطلب سلسلة من عمليات التحقق من بينها رسائل نصية. وفي المقابل، يتميز الدفع عبر تطبيقات على باي أو وي شات، بالمرونة، ويتطلب فقط التعرف إلى رمز الاستجابة السريعة «كيو آر» من أي نقطة خدمة لبيع التجزئة أو هاتف ذكي. وبالإضافة للعائدات التي يتم الحصول عليها مباشرة كرسوم معاملة، تمكنت آنت فاينانشيال وتن سنت، من الوصول لبيانات المستخدم، التي يمكن استغلالها في كل شيء من، التصنيف الائتماني إلى توجيه الإعلانات وتطوير المنتج.
ثورة الهاتف السيار:
وهل نحتاج الى كثير حديث عن التحولات الهائلة التي أحدثها الهاتف السيار في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. بيد أن تطور التقنيات المرتقب في الهاتف السيار يوشك أن يحدث ثورة اقتصادية هائلة كما رأينا إشارات ذلك فى الحالة الصينية . وذلك من خلال تغيير نماذج الأعمال والنشاط الاقتصادي في أعوام قليلة ربما الخمس سنوات المقبلة على السودان . ذلك ليس لأنها ستتولد عنها عوائد وفوائض هائلة فحسب بل لانها ستؤدي الى تغيرات جذرية في أساليب التعاطي المالي ونشاط الأعمال، وسوف تتطور هذه الأساليب الجديدة بذات سرعة تطور تقنيات الهاتف السيار. وسوف ينشأ على اثر ذلك علم اقتصاد جديد يقوم على تفاعلية هائلة وسريعة بين رجال الأعمال وبينهم وبين المستهلكين من ناحية أخرى. وبهذا الزواج الفريد بين العالمين الحقيقي والأسفيرى تتولد ثورة اقتصادية غير مسبوقة. ذلك أن البشرية تكسب بذلك أغلى المعطيات الاقتصادية على الاطلاق الا وهو عنصر الوقت. ومن ناحية أخرى فإن اندماج الهواتف الذكية في الحسابات المصرفية سيتيح فرصاً استثمارية غير مسبوقة، ويشكل نظام خدمات جديداً كاملاً ومتفاعلاً وفائق السرعة . وسوف يتمظهر ذلك كله ثورة في عالم التجارة والمعاملات والإعلانات والتبادلات المالية وغير ذلك. فثورة المعلومات لن تتيح معرفة ونقل البيانات السريعة عبر الاندماج بين الهاتف والحاسوب اللوحي بل سوف توفر معلومات كان من المتعذر الحصول عليها دون هذا الدمج وتكشف عن اتجاهات وميول الأسواق والأعمال والأشخاص. مما يجعل التفاعل والتجاوب السريع مع الاحتياجات الحقيقية للأشخاص والهيئات أكثر دقة وأسرع نسقاً . ورغم مما في ذلك من اختراق للخصوصيات أصبح من المتعذر تجنبه ألا أن له فوائد عظمى في مجال تنمية الاستهلاك وتعزيز التشغيل وتنشيط الاقتصاد.
الهاتف السيار في السودان :
دخل الهاتف السيار في السودان في وقت مبكر نسبياً في العام 1997 عبر شركة «موبيتل» زين حالياً . وسنحت لتطوره فرص هائلة تمثلت في الأموال الهائلة التي أنفقت في بناء شبكة الألياف الضوئية لتصل أطراف السودان جميعاً بعضها ببعض. كما استفاد من اقبال هائل ومتسارع على الخدمة التي شهد مراقبون عبر العالم بتميزها بجودة عالية.
بيد أن الهاتف السيار في السودان رغم تأثيره الظاهر على قطاع الأعمال في السودان وبخاصة الأعمال الصغيرة لم يطور خدماته في المجالات خارج الاتصالات الهاتفية وعبر الشبكة العنكبوتية وتحويل الرصيد. بل لم تستفد شركات الهاتف السيار كثيرا وهي تتشارك الملامة مع بنك السودان المركزي كما استفادت شركات الاتصالات في بلد مجاور مثل كينيا. فتلك قدمت خدمة «أم بيسا» وتعني «نقود الموبايل» بالسواحيلي إلى الجمهور الكيني في العام 2007م ، علماً بأن خدمة الموبايل دخلت إلى كينيا في ذات العام الذي دخلت فيه الخدمة إلى السودان «1997»م . ورغم أن بنك السودان المركزي بدأ البحث في إدخال الخدمة منذ عدة سنوات وتهيأ لها بإعداد التشريعات اللازمة فإنه تهيب البدء في الخدمة حتى بدأت طلائعها في خدمتي «هسا» بين زين وبنك الخرطوم و«قروشى» بين سوداني وبنك فيصل الإسلامي. وهما قد شرعا فى تقديم خدمات محدودة لكنها سرعان ما تعثرت بأسباب خلافات بين الاطراف ولم تتطور كما تطورت فى البلدان الأخرى وتوقفت خدمة هسا واستبدلها بنك الخرطوم بخدمة تبدو مبشرة بصورة أفضل وهى خدمة أم بوك. بيد أن الشركات كانت تتعاطى فى السابق بصورة مبسطة وغير مقننة في هذا المجال من خلال استخدام نظام الدفع المقدم «بري بيد» والذي عنى احتفاظها بفوائض أموال من المستخدمين بحيث صارت أشبه ما تكون بالمصارف. واحتفظت بسيولة طائلة من أموال «البرى بيد» وهى فوائض معطلة لاتفيد الشركة إلا بتحقق الاتصال فحينئذ يمكن لشركة الاتصال سحب المبلغ وإضافته إلى عوائدها ،ولكن هذه الأموال التي لم تخضع للسياسة النقدية لبنك السودان المركزي ظلت فوائض عاطلة عن الاستثمار أو التمويل الذي قد يستفيد منه قطاع الأعمال. كذلك بدأت بعض الشركات بالتنسيق مع بعض المصارف في خدمات محدودة لدفع الفواتير وعملت أيضاً في خدمة تحويل الرصيد التي تجاوزت فكرة الرصيد المستعمل للاتصال إلى الرصيد القابل للإستبدال. بيد أن كل هذه المعاملات ظلت محصورة ومحدودة وذات أثر ضئيل في تحريك الاقتصاد بخلاف التجربة الكينية. بيد أن خطوات تصحيحية قد بدأت آنفا نرجو لها توفيقا وتسارعا يستدرك به ما فات.
التجربة الكينية:
بدأت كينيا في العام 2007م بإدخال خدمة «أم بيسا» والتي تتيح للمواطنين نقل الأموال عبر الرسائل النصية القصيرة، والتي شهدت نمواً أذهل كل المراقبين جميعا فشركة سفاري كوم التي بدأت الخدمة أصبح 14.5 مليون مشترك لديها يستخدمون هذه الخدمة كما دخلت الشركات الأخرى جميعاً لتقديم خدمة مناقلة الأموال، وقد أظهرت دراسة أعدتها جامعة جورجتاون الأمريكيه أن 86% من السكان في الريف الكيني يستخدمون خدمة «أم بيسا» . وأعلن بنك كينيا المركزي في تقريره عن العام 2010 أن سفاري كوم وحدها حولت عبر الهاتف 728 مليار شلن كيني « 8.8 مليار دولار أمريكي» في العام 2010 وذلك يساوي قيمة 13% من الناتج الإجمالي الكيني لنفس العام. في السابق كان 6% من الكينيين فقط يتعاملون مع المصارف واصبح الان عددهم يقارب 90% ممن يتعاملون عبر الهاتف السيار مع النظام المصرفي الذي اتيحت له قدره فائقة للتعامل مع السيولة بأيدي المواطنين وإعادة تدويرها واستخدامها في سائر وجوه الأعمال. ودخلت كافة الخدمات غير تحويل الأموال المباشرة إلى استخدامات الهاتف السيار. فدخلت كل المعاملات التجارية لشراء السلع من عشرات الآف المتاجر ودخلت كل الخدمات الصحية والتأمين الصحي والتأمين الإجتماعي والتمويل الأصغر . كما دخلت أصناف من الإئتمان المصرفي الذي أصبح في مكنة الأهالي الذين لم يعتادوا في الماضي على هذه التعاملات. وفي كينيا وقع حوالي خمسة وعشرين مصرفاً إتفاقات مع «أم بيسا» مما يتيح للمتعاملين إيداع وسحب الأموال من حساباتهم المصرفية عبر الهاتف. وأصبح بذلك في مقدور المصارف تقديم خدمات فورية لغير المتعاملين مع المصارف. فالمصرف أصبح محمولا بواسطة تقنية الجزدان الإليكتروني «E-Wallet» وصار كل مواطن يحمل حسابه في جزدانه الاليكتروني المتصل بمصرف من المصارف المتعاقدة مع الشركات الهاتفية التي تقدم الخدمة. وتتم إدارة الخدمة بواسطة وكلاء شركات الاتصالات في غاية السهولة. فالمشترك يسجل اسمه لدى وكيل شركة الهاتف النقال ويتلقى الوكلاء الأموال ويقومون بتحويلها إلى حساب المشترك على الهاتف بحد أدنى للايداع قابل للزيادة حسب الخدمات التي يتوقع المشترك الاستفادة منها، وبعد ذلك يصبح بإمكان المشترك استخدام «جزدانه الإلكتروني» لإرسال الأموال أو تلقيها أو دفع الدفعيات للمتاجر أو المصارف أو شركات التأمين أو خدمات المهنيين والحرفيين طالما كانت تلك الأطراف ذات إشتراك في الخدمة.
وفي كينيا خدمات «ام بيسا» متوفرة في غالب المتاجر الكبرى فأصبح المواطن لا يحتاج إلا لهاتفه النقال ليدفع فاتورة ما يشتري ويمكنه أن يدفع أجرة سيارة الأجرة وأجرة الطبيب ودفع تأمين السيارة والتأمين الصحي وأقساط القرض المصرفي . وما إلى ذلك باستخدام الهاتف لاغير. ورغم أن كينيا لم تبلغ المستوى الصينى إلا أنها ظلت من أنجح التجارب فى أفريقيا.
كيف أدى ذلك إلى تحولات ملحوظة في الاقتصاد الكيني وكيف دفع عمليات السيطرة على السيولة وتوسيع دائرة التمويل وتوسيع دائرة التشغيل وكيف يمكن لهذه الوسيلة أن تتحول لاداة فاعلة لتحقيق تعافى الاقتصاد السودانى فذلك موضوع الجزء التالي في هذه المقالة.
نواصل
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!