وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. أمين حسن عمر

المسألة الاقتصادية … ترويض الدولار … “د. أمين حسن عمر”

رغم حالة التفلت الكبير في سعر العملات الأجنبية فان قرارات بنك السودان المركزي الاحتفاظ بسياسة تعويم سعر الصرف للجنيه السوداني ربما هي الخيار الوحيد الذي هو متاح في الوقت الراهن . وهي سياسة ممتدة مجربة للتعامل بفاعلية مع الوضع المتذبذب لقيمة الجنيه السوداني وقيمة السلع المعروضة في الأسواق تبعاً لذلك. وتعويم سعر الصرف Flotation يعني ترك سعر العملة بالنسبة للعملات الأخري يتحدد وفقاً لقوي العرض والطلب في السوق النقدية . والتي تشهد مؤخراً زلزالاً وردات فعل وتوابع عديدة.
تعويم سعر الصرف وتحولات العرض والطلب:
تعويم سعر الصرف المعمول به في السودان هو «التعويم المدار» . وهو يختلف عن التعويم المطلق لسعر الصرف . فالتعويم المطلق هو ترك السعر يتغير ويتجدد بحسب قوي السوق ودون أي تدخل من البنك المركزي . وقد يقتصر تدخل البنك المركزي علي التأثير في سرعة تغير سعر الصرف دون اللجوء للحد من ذلك التغيير . وهو الأمر المعمول به في منطقة اليورو وفي الدولار الأمريكي والين الياباني والجنيه الاسترليني والفرنك السويسري . وهذه السياسة تقتضي قدرة واسعة لقوي الانتاج في ذلك البلد . كما تقتضي سرعة وقدرة وكفاءة الأجهزة المالية وهي متطلبات يحتاج المرء لشديد تفاؤل ليرجو توفرها . ففي بلد مثل السودان يعتمد بنسبة 80% علي الاستيراد في تلبية احتياجات الانتاج والاستهلاك فان التعويم المطلق للجنيه السوداني قد يخرج به عن السيطرة تماماً . لأن قوي الانتاج الضعيفة واحتياطات النقد الأجنبي الشحيحة لا تمكنان البنك المركزي من الجلوس بارتياح في مقعد القيادة ، والسيطرة بالتالي علي السوق النقدية التي قد يكون في مُكنة المضاربين والمحتكرين التحكم بها أكثر من قدرة السلطات النقدية بالبلاد . ولذلك فقد كانت السياسة المتبعة هي تعويم السعر المدار أي تلك السياسة التي تسمح للبنك المركزي بالتدخل استجابة للمؤشرات بيد أن الحذر شل أيادي البنك المركزي من انفاذ السياسة بالجرأة اللازمة لاتباع المؤشرات التي تتمثل في رؤية الفجوة بين العرض والطلب ، ومستويات السعر العاجل والآجل والتطورات الآنية في السوق ، مثل عطلات المغتربين أو مواسم الطلب العالي مثل موسم العمرة في رمضان وموسم الحج وما الي ذلك . و هذه سياسة تتبعها ثلة من البلدان ذات العملة المرتبطة بالدولار أو اليورو أو سلة من العملات. والسودان الذي اعتمد رسمياً ربط الجنيه باليورو لسنين عددا لم يستطع أن يفرض ذلك علي السوق النقدية بالبلاد . حيث يتعامل أكثرها بالدولار فتحتسب قيمة الجنيه السوداني به . وعلي الرغم من ذلك فقد كانت سياسة التحرير المدار سياسة ناجحة وناجعة . ضمنت للعملة الوطنية استقراراً طويلاً أمتد لأكثر من عقد كامل . وقد اتبعت هذه السياسة قبل تصدير البترول وأثبت نجاحها في تحقيق الاستقرار للجنيه السوداني . فما الذي جري وسبب العواصف الأخيرة التي أضرت اضراراً بليغاً بهذا الاستقرار؟
صدمة الانفصال:
الاقتصاد المستقر قد يتأثر بصدمات تأتيه من الخارج فتؤثر فيه تأثيراً كبيراً. وما جري للجنيه السوداني كان أمراً من هذا القبيل . فعلي الرغم من عدم تأثر الجنيه السوداني بصدمة الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2009م والتي أضرت بأسعار البترول وأرتفعت أسعار السلع المستوردة فقد استطاع الجنيه السوداني آنذاك أن يستوعب صدمة الأزمة الاقتصادية العالمية . و لا تزال آثارها تتوالي علي جميع الدول في العالم وبخاصة الدول في العالم الثالث التي تعتمد علي الاستيراد لتوفير احتياجاتها الانتاجية والاستهلاكية. بيد أن صدمة الأزمة العالمية جاءت بعدها صدمة هائلة للاقتصاد. تمثلت في انفصال الجنوب واقتطاع 75% من انتاج البلاد وصادرها من البترول من الموازنة العامة وكذلك من عائد الصادر . فاختل بذلك الميزان الداخلي والميزان الخارجي بدرجات متفاوتة . بيد أن الأخطر من ذلك كانت هي الصدمة النفسية التي اقترنت بالانفصال . وتوقع الجمهور والسوق علي وجه الخصوص لتقلبات واختلالات كبري في الاقتصاد . مما أدي الي حالة تشبه التوقف التام عن عرض النقود في السوق النقدية. وبات من يملك قدراً يسيراً أو كبيراً من العملات الأجنبية في حالة ترقب . وحالة انقباض عن التعامل في تلك السوق انتظاراً لتوازنها من جديد. ثم تعرضت السوق لحالة من الاستنزاف للموارد المحدودة التي ظل بنك السوداني المركزي يرفد بها المصارف والصرافات . وتمثل ذلك الاستنزاف في محاولة حكومة جنوب السودان استبدال ما لديها من عملة سودانية دفعة واحدة بالعملات الحرة . وطرح عمله جديدة لجنوب السودان وذلك خلافاً لتعهدها بأن لا تلجأ الي هذا الأسلوب.
بيد أن بنك السودان المركزي الذي لم يكن ليثق في تعهدات حكومة الجنوب كان قد احتاط لمثل هذه الحالة بتجهيز عملة جديدة . فقام بطرح الأوراق المالية الكبري منها من السوق وسحب الأوراق القديمة . لحرمان حكومة جنوب السودان من توجيه ضربة قاصمة للسوق النقدية من خلال سحب ما يربو علي «700» مليون دولار دفعة واحدة . بيد أن حكومة الجنوب وبعض المضاربين المتعاملين معها قد أفلحوا في تهريب نسبة 15% حسب تقدير البعض . وذلك من خلال تهريب بعض الأوراق الكبيرة وكل الأوراق والعملات الصغيرة للسودان . وقد شكل هذا العمل رغم التحوط له قدراً من الضغط علي سوق العملات في السودان في وقت كانت تعاني فيه من تراجع العرض علي نحو مريع . ثم أن وفاء حكومة السودان بدفع تعويضات الجنوبيين العاملين بالسودان والسماح لهم بتحويل هذه الأموال الي عملات أجنبية عند المغادرة أدي هو الآخر الي مزيد من الضغط علي المعروض المحدود. وأدي جفاف السوق النسبي الي تهافت المحتاجين للعملات الأجنبية لأغراض الاستيراد أو العلاج أو التعليم أو حتي العطلات.
عودة السوق السوداء:
وأدي هذا التهافت الذي ترافق مع بروز أباطرة السوق السوداء مرة أخري الي شبه تجفيف كامل للسوق . عجز معه البنك المركزي علي التعويض الذي هو السبيل الوحيد لمناهضة السوق السوداء. ولما أتسع الرتق علي الراقع كان لابد من سياسة جريئة مسنودة بترتيبات محسوبة لاعادة السيطرة علي سعر الصرف . ومناهضة وترويض الفئة الباغية التي تضارب في العملات للاسترباح ولو علي حساب استقرار الاقتصاد الوطني وعلي حساب حصول المواطن البسيط علي السلع الضرورية بأسعار معقولة . وكان لابد من حزمة سياسات مالية ونقدية وأمنية في آن واحد . وهي الحزمة التي اعتُمدت في الوقت الراهن. فوزارة المالية عليها اتباع سياسة مالية تقشفية مع أحلال الواردات وزيادة الصادرات . وتشجيع الاستثمار ذا العائد السريع . وبنك السودان عليه أن يحصل علي موارد تمكنه من اعادة القبض علي زمام المبادرة . وذلك بتوفير وسادة من النقد الأجنبي تمكنه من التدخل وادارة سعر الصرف بعد تعويمه . وذلك للنزول به تدرجاً نحو الوضع الاعتيادي الذي يعود فيه عرض العملات الأجنبية طبيعياً . ويتوقف احجام من البائعين الصغار أو الكبار . ويعود فيه الطلب الي الوضع الاعتيادي الذي يتمثل في الاحتياجات الحقيقية «غير الاحتكارية» للعملات الأجنبية. وبنك السودان المركزي لابد له من ترك حالة الحذر المفرط وعدم اختيار مساحة وسطي بين خيارين فان مثل هذه المساحة لا وجود لها.ربما أولي المعالجات هي المعالجة الذهبية .وأعني بها شراء كل الذهب المستخرج بسعر مجزي يتفق عليه مع المنتجين يناسب السعر العالمي للذهب وذلك من خلال قيام مجلس للذهب يضم الحكومة والقطاع الخاص وكبار المنتجين وممثلي التعدين الأهلي لتحديد سعر الشراء وتوفير الظروف الأنسب لتطوير الانتاج والحؤول دون التهريب الواسع لمعدن ناضب. وفي مرحلة أخري تطوير المجلس الي بورصة للذهب بعد استقرار الأسعار.كذلك يمكن احتذاء التجربة التركية في سك جنيهات ذهبية وتوفيرها في الاسواق لتكون وعاء للقيمة يطمئن اليه من يريد حفظ قيمة مدخراته. كذلك يمكن اعتماد صكوك الجنية الذهبي التي تضمن لحاملها استبدال الصك بسعر الذهب العالمي في يوم الصرف وبذلك يمكن توفير ملاذات آمنة لمن يريد الدولار مخزنا للقيمة وهؤلاء هم العدد الأعظم من الفئة التي تهجم علي الدولار ليس لشراء السلع أو للاستيراد وانما لحفظ قيمة النقود وقد أتسع عدد هؤلاء بالتوسع في السيولة بالجنيه السوداني بسبب الذهب.لاشك أن هذه الحلول هي أقوي المحفزات لتحقيق الاستقرار لكن أمورا أخري تتعلق بالسيطرة علي حجم السيولة في الاقتصادية تظل ذات أهمية تكميلية.كذلك فان تقليص المستوردات من خلال توسيع قائمة السلع الممنوع استيرادها مؤقتاً حل مطلوب وان كان مثل الدواء المر لطائفة من المستهلكين وللوزارة المالية لما له من أثر علي تقليص عائدات الجمارك ولكنك في عالم اقتصاد الندرة لن توفر شيئا حتي تقتطعه من جزء ما من الغطاء الاقتصادي.
ولا شك عندي أنه اذا أتبعت هذه السياسات بالجرأة المطلوبة فان هنالك تفاؤلا عظيما بنجاح هذه السياسة «سياسة التعويم المدار» . خاصة اذا نجحت جهود بنك السودان في الحصول علي موارد تقارب وتسدد لسد النقص المتوقع لهذا العام ما يعني اعادة القدرة اليه لامتلاك زمام المبادرة.
كما أن تباعد شبح الحرب بين السودان وجنوب السودان وربما الأمل في عودة لاستقرار للجنوب وربما عودة المفاوضات الأمنية التي يرجي أن تفضي الي فتح ملفات النفط والملفات الأخري سوف يبعث بروح من التفاؤل للأسواق . تحتاجها الاسواق لاعادة الطمأنينة والتوازن النفسي اليها. واذا أدي بدء المفاوضات ونجاحها الي نتائج فان بعض تلك النتائج سيعني حصول السودان علي المزيد من موارد النقد الأجنبي . سواء من خلال ما تنتهي اليه المفاوضات أو مساعدات دولية كانت موعودة ولايزال الحصول علي بعضها لا يستحيل . واذا ألهم الله الرشد للحركات غير الدستورية الحاملة للسلاح وبدأ شوط مفاوضات جديدة فإن نجاح المفاوضات سيفضي باذن الله لانقشاع السحب السوداء في سماء الاقتصاد فالأوضاع الأمنية هي العامل الأكبر في فساد كيماء الاقتصاد الوطني. . وفي كل الأحوال توسيع دائرة الحوار والوفاق الوطني والتشاور القومي الواسع سوف يعين علي قراءة الوقائع أياً ما تكون ويوفر الحلول ببعض ماذكرنا وما غفلنا عن ذكره . و أهل السودان قادرون بحول الله علي تسخير موارد بلادهم وطاقتها للتعامل مع ذلك الواقع أياً ما كان. والحكومة الوطنية عليها أن تثق بشعبها وربها الرزاق ذي القوة المتين.
د. أمين حسن عمر

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!