مساء الخميس الماضي، عمدت السلطات النمساوية بمطار العاصمة فيينا، وفي خطوة غير مسبوقة في التعامل مع تركيا والخطوط الخطوط الجوية التركية، إلى استقدام كلاب بوليسية وتفتيش ركاب طائرة تركية، بطريقة أثارت الرعب في قلوب كبار السن والنساء والأطفال، والاستغراب الكبير من السلطات التركية، التي شجبت الأمر وطالبت بالتحقيق الفوري.
لم تمضِ ساعات قليلة على الخطوة النمساوية، الخارجة حتى عن إطار مفهوم محاولة حفظ الأمن والتحقق من شخصية مشتبه فيه ما كان بين الركاب؛ وذلك بسبب الأسلوب الذي اتُّبِع، حتى قامت السلطات التركية بالرد بخطوة مشابهة مع مسافرين نمساويين.
ففي مطار أتاتورك الدولي بمدينة إسطنبول، قامت الشرطة بتفتيش المواطنين النمساويين باستخدام الكلاب البوليسية أيضاً، ولكن بصورة، وعلى الرغم من أن الرد أتى سريعاً ومماثلاً، فإنه كان أكثر أدباً دون إرعاب الأطفال وكبار السن.
حادثة أتت بعد فترة قصيرة جداً من أزمة التأشيرات بين تركيا وأميركا، حين بادرت السفارة الأميركية في أنقرة في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بإصدار بيان أعلنت فيه أنها توقفت عن منح المواطنين الأتراك تأشيرات دخول للولايات المتحدة تحت حجج ظاهرية واهية، وغيظٍ خفِيٍّ كبير من أمور عدة.
ويومها، قالت السفارة في بيان إن “الأحداث التي وقعت مؤخراً، دفعت الحكومة الأميركية لإعادة تقييم تعهدات حكومة الجمهورية التركية تجاه أمن موظفي ومقرات البعثات الدبلوماسية الأميركية، وقرار تعليق الخدمات يأتي في إطار الحد من عدد الزوار”.
وعلى الفور وفي ردٍّ لم يكن متوقعاً، لا أميركياً ولا غير أميركي، وبالمستوى نفسه والأسلوب نفسه بنسبة 100%، أصدرت السفارة التركية في واشنطن بياناً مطابقاً بالحرف للبيان الأميركي، أعلنت فيه أنها توقفت عن منح المواطنين الأميركيين تأشيرات دخول لتركيا.
وأتى البيان بناءً على تعليمات الرئيس رجب طيب أردوغان، باستخدام التعابير والجمل والكلمات المستخدمة نفسها في البيان الأميركي، في خطوة ربما لم يشهدها السلك الدبلوماسي بالعالم… نحن هنا مثلنا مثلكم نعاملكم بالمستوى نفسه، ولا يحق لكم أن تعاملونا بفوقية.
وقال البيان إن “الأحداث التي وقعت مؤخراً، دفعت الحكومة التركية لإعادة تقييم تعهدات الحكومة الأميركية تجاه أمن موظفي ومقرات البعثات الدبلوماسية التركية، وقرار تعليق الخدمات يأتي في إطار الحد من عدد الزوار”.
وأيضاً، قبل هاتين الحادثتين بعدة أشهر، عمدت السلطات الألمانية إلى تفتيش دبلوماسيين أتراك عبر أجهزة خاصة بمطار برلين، في خطوة منافية لكل الأعراف الدبلوماسية، وما كان من تركيا إلا أن ردَّت على الفور بالمثل، وفتشت الدبلوماسيين الألمان باستخدام الأجهوة نفسها في مطار أتاتورك.
وأحداث أخرى لا يتسع المقام لذكرها كلها، تقول فيها تركيا: أنا هنا وكما تعاملني سأعاملك، أنت لست في درجة أعلى مني.. عليك أن تفهم هذا.
القضية ليست قضية كلب أو تأشيرة أو جهاز تفتيش، القضية قضية مبدأ واحترام وقوة، قضية ألا ينظر الآخر إلينا على أننا أدنى منه ولو بإجراءات مطار.
على هذه الدول، وغيرها من التي قد تفكر في مثل هذه التصرفات، أن تعيد حساباتها كثيراً مع تركيا الجديدة. ومن هذا المستوى، عليها أن تحسب جيداً أنها تتعامل مع تركيا الجديدة وصولاً لملفات كبرى إقليمية ودولية.
على من يستخدم كلباً أو تأشيرة أو جهازاً لإيصال رسائله الحاقدة إلى تركيا بما تمثله اليوم، أن يدرك تماماً أن في تركيا أيضاً كلباً وتأشيرة وجهازاً، وفيها أيضاً ما هو أكبر بكثير.. ربما يتشكف ذلك تباعاً مع كل خطوة حمقاء من هذه الدول المنغاظة من تركيا الجديدة وتطورها الاقتصادي والسياسي والصناعي والزراعي والعلمي والتكنولوجي، مع وجود أمر عظيم لا يمتلكه الجميع؛ ألا وهو الإسلام.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: “المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير”؛ ولذلك أن تُبرز قوتك للطرف الآخر لهو أمر محمود ومطلوب، وخاصة مع فئة لا تكنّ لك إلا كل أُمنيات السوء والشر، مهما ابتسمتْ في وجهك.
قضية الكلاب سيتم تجاوزها، وأيضاً قضية التأشيرات.. ولكن بعد أن يدرك الطرف الآخر أنه أصبح اليوم أمام دولة ليست ضعيفة؛ بل قوية، وليست خائفة بالرد بالمثل على كل صغيرة وكبيرة؛ بل جريئة لا تخشى شيئاً؛ ومن ثم من المرجوّ أن تكون مثل هذه الأحداث بمثابة دروس لأولئك؛ كي لا يقعوا في خطأ مشابه على مستوى أكبر، فالرد التركي مع تركيا الجديدة بالتأكيد لن يتأخر وسيكون بالمثل.
من يتطاول على تركيا بكلب سيرى كلباً آخر يُنهي هذا التطاول، ومن يحاول تمزيق ورقة تأشيرة لتركيا سيرى تمزيقاً مماثلاً لورقة تأشيرته، ومن يهدد تركيا بكلمة سيسمع كلمة مشابهة لها، ومن يمنع عن تركيا حبة قمح سيخسر حَبّته التركية، ومن يهدد تركيا بسلاح سيجد سلاحاً تركيّاً يواجهه، ومن يحاول التجرؤ على أرض تركية سيرى الكثير والكثير من كل ما سلف.
لم تصل تركيا إلى هنا في يوم وليلة؛ بل بعد مسيرة طويلة تتألق يوماً بعد يوم، فعندما يكون غذاؤك من أرضك، وسلاحك من صُنعك، وقوتك من شعبك، ولباسك من يدك، وإيمانك من ربك الواحد الأحد، دائناً غير مَدين، قوياً غير متكبر، صادقاً غير عميل، فستكون معاملتك للطرف الآخر معاملة على أساس الندية لا على أساس الذل والهوان والضعف والتبعية.
الرسالة باختصار: الكلب بالكلب وإن زدتم زدناً، ولكن أيضاً غصن الزيتون بغصن الزيتون، وإن بادرتم بالخير سبقناكم إليه.
error: Content is protected !!