جاء فى وسائل الإعلام ووسائطه أن ولاية الخرطوم بصدد إجراء تعديلات فى قانون ما يسميه الإعلام بقانون النظام العام. وبهذه السانحة أجدد موقفا ظللت أتحدث به وأكتب عنه فيجلب لى طائفة من التهم من أمثال رقة الدين وأحيانا ذهابه بالمرة. ولكننى لما كنت أوقن أن موقفي مما يسمى قانون النظام العام يدخل فى باب النصح اللازم والحسبة الواجبة فقد ظللت أعبر عنه كتابة وشفاهة فى صحف وبرامج تلفزيونية ومحاضرات وندوات ولا أزال على كامل الاستعداد لموصلة ذلكم المسعى ليقينى أنه وباسم الشريعة تعارض مبادىء الشريعة فى تلكم الحزمة من القوانين وباسم النظام ترتكب مظالم جسيمة على طائفة من ضعفاء المواطنين ويوضع سائر المواطنين فى دائرة الشك والريبة حتى يتمكن الفرد منهم انه من أهل الاستقامة وربما من بعد جهد جهيد.
مفهوم الضبط الاجتماعى :
جرى التعارف أنه لابدّ من وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي ودرء المنازعات وفضها والحفاظ على الحقوق المشروعة لكلّ فرد. ذلك أن الإنسان الذى هو كائن اجتماعي بفطرته وجبلته لا يستطيع أن يعتزل الناس لأنه يعجز بمفرده عن الوفاء بحاجاته وذلك يستتبع وجود علاقات متشابكة بين أفراد المجتمع وهي علاقات لا يمكن أن تترك فوضى ينظمها الأقوى وفق رغبته ومشيئته، لذلك لا بدّ من وجود قواعد موضوعة تهدف إلى إقامة التوازن بين الحريات المتعارضة والمصالح المتضاربة. فهذه العلاقات الاجتماعية المعقّدة والمتشابكة تفرض وجود ضوابط تستوعب التناقضات المتداخلة والمصالح المتعارضة، فكلّ فرد يرى أن لحريته وحاجياته الأولوية على حريات الآخرين فأولئك هم الجحيم الذى يؤطر حريته كما يزعم الوجوديون وهذه الرؤية لا شكّ سوف تؤدي إلى الصدام إن لم توجد هناك مبادئ تبلور مفهوم الحرية بصفة سلوك او نظام اجتماعي عادل و رادع للفصل بين الناس، والإنسان الذي تحرّكه النوازع الفردية والحاجات الاجتماعية لا يخضع تلقائياً للنظام بل لا بدّ من عملية ضبط اجتماعي تحتوي نزعة الإنسان الفردية وتنظم مشيئته فى اطار النظام الاجتماعي العام.
إن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام هو ما تعارف الناس عليه باسم «القانون» حسب الاستعمال الحديث والذي يرادف أو يشابه مصطلحات أخرى أيضاً مثل الشريعة التي تطابق في معانيها كلمة القانون وتبحث عن غاية واحدة وهي التنظيم الاجتماعي. لذلك يعد «القانون» من أهم وسائل الضبط الاجتماعي بل هو الوسيلة الأساس التي يعتمد عليها المجتمع المنظّم في ضبط سلوك أفراده.
فالقانون له الدور الأكبر في حفظ لحمة المجتمع والحفاظ على استقراره وتماسكه عن طريق تأكيد الحرية وصيانتها وتوفير العدالة والأمن ، عبر الإلتزام بالنظام والقواعد التي تأمر بها السلطة الشرعية العليا. بيد ان القانون لكى يكون أداة ناجعة فى الضبط الاجتماعى لابد له من التماهى مع منظومة القيم ومصفوفة الأعراف المرعية فى المجتمع المراد تنظيمه فهو أداة بيد المجتمع لحفظ هويته ونظامه و ليس وسيلة بيد جهة متسلطة لهندسة المجتمع.
بيد ان الواقع العملي أثبت عدم قدرة الكثير من الدساتير الوضعية على تحقيق تلك المثل العليا بل إنها في غالب الأحيان أدت إلى تصاعد الظلم والفوضى والاستغلال لاسيما عندما يتعلق الأمر بسلطة مستبدّة؛ وهذا الأمر يرتبط بالجوهر الذاتي للقانون الوضعي ومفهومه المعنوي ولا يتوقف على الكيفية السليمة التي يتم بها تنفيذه، باعتبار أن واضع القانون هو الإنسان نفسه المتحيز إلى رؤاه الخاصة ومصالحه الشخصية وخضوعه لظروف الزمان والمكان المحدودة ،مهما كان هذا الإنسان نزيهاً أو محايداً، ولذا فان مفهوم العدل هنا لا يكون إلا نسبياً وضيقاً يراه واضع القانون من خلال زاويته البشرية الضيقة. والعدل بمفهومه الشمولي غير المحدّود وغير المتحيّز والقادر على توفير تلك الاهداف العليا لا يتحقّق إلا من مشرع غير خاضع لتلك المحددات.
وتتميز الشريعة الاسلامية بأنها أقدر على تحقيق الحرية والعدل والأمن والاستقرار باعتبارها تمتلك الموضوعية المحايدة في التشريع والتقنين. والمشكلة الأساس التي تواجه قضية تطبيق الشريعة الإسلامية انما تتمثل في أمور منها:
إعراض طائفة كبيرة من أهل المهن القانونية عنها والتمسّك بالقوانين الوضعية التي أنتجتها الحضارة الغربية المعاصرة بعد أن نادت بفصل الدين عن الدولة. وكذلك التطبيق السييء الذي قامت به بعض سلطات الملك الاستبدادي والدكتاتوريات في استغلال الدين واجهة لتبرير سلطاتها الاستبدادية المطلقة.
كذلك عدم وجود رؤية عميقة ولا صياغة حديثة لبعض القوانين الإسلامية التي لازالت بالاسلوب التراثى القديم نفسه، أو في إطار المفاهيم الكلية التي تحتاج إلى وصف تطبيقى دقيق يستجيب لحاجة المجتمع ، ويتسق مع طبيعة مشكلاته وهذا الامر يؤدي إلى عدم الملائمة، الذى يؤدى للعجز عن استخدام التشريع بالصورة المثلى التى تحقق مقاصد الدين وتلبي حاجة المجتمع.
ان مفهوم الملائمة جوهري لفهم دور القانون فى الضبط الاجتماعى فبمعرفة لماذا يحتاج الإنسان القانون يمكن معرفة نوعية القانون الذي يلائم الإنسان وحياته، ذلك أن علم القانون الوضعي حدّد الحاجة للقانون في الحاجات المادية وتنظيم العلاقات الاجتماعية، والحال أن الحاجة إلى القانون هي أعم فى المفهوم الاسلامي المتمثل فى الشريعة. وإنما احتاج الإنسان القانون لأنه إنسان له حوائج فردية واجتماعية في مختلف الجوانب. فالانسان فى الرؤية الاسلامية التوحيدية يحتاج الى ضبط ذاتى مستمد من القانون الشرعى ولو عاش فى كهف أو غابة فهو لكى يسمو من الحالة الحيوانية الى مراقى الانسانية فى حاجة ماسة إلى القانون الذي ينظّم سلوكه مع نفسه مضافاً إلى القانون الذي ينظّم سلوكه مع خالقه ومع الكون بصورةٍ عامة. فالقانون لازم لتنظيم شؤون الفرد والمجتمع مهما كان المجتمع بدائياً أو متوسطاً أو مثالياً حيث إن اللازم أن يكون هناك مقياس لسير وسلوك الفرد فى حالي التوحد والاجتماع وفي مختلف جوانب الحياة.
وادراك معنى القانون مهم لمعرفة دوره فالقانون في اللغة كما في (لسان العرب) يعني: الأصل وقانون كل شيء طريقه ومقياسه. وفي (المعجم الوجيز): القانون في الاصطلاح أمرٌ كلّي ينطبق على جميع جزئياته التي تتعرف أحكامه منه. فالقانون في اللغة يحمل معنى عاماً يطلق على «كل قاعدة أو قواعد مطردة حمل اطرادها معنى الاستمرار والاستقرار والنظام».
وقد يُفهم من أهل الاختصاص فى المهن القانونية أن كلمة القانون في المصطلح الحديث تحمل معنى الإجبار والقسر والإلزام بالقوة لأنها «قواعد ملزمة تنظم سلوك الاشخاص في المجتمـــع على أنـــه يُفهم مــن معنى الإلـــزام بأن له جزاءً مادياً توقعه السلطة العليا في الجماعة».
بيد أن القانون المستمد من شريعة هو مسؤولية ذاتية يتحمّلها الإنسان باقتناع ووعي وإيمان ،ففى رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عُرف القانون بأنه معرفة كل ما يلزم على الإنسان أن يعمله تجاه نفسه وربه وتجاه أسرته وتجاه محيطه وتجاه الطبيعة حيواناً أو نباتاً أو جماداً، وقبل السجاد رضى الله عنه، قال علي «كرم الله وحهه»: إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم». لذلك فان القانون يحمل معنى جامعاً كلياً لا يقتصر على معنى «الجزاء الرادع» إذ أن «القانون بهذا المعنى يشمل الشريعة بمختلف فروعها الفقهية والأخلاقية والتربوية مما يلي الفرد والحكم في مختلف مجالات الحياة».
ما قبل كل قانون هو قاعدته التى يتأسس عليها وتتجلى فى وجود مبادئ أساس ثابتة تحكم النظام الاجتماعي العام وتشكل الغطاء الذي تتحرك في إطاره أبعاد النشاط الانساني كافة، ومن ضمنها القانون والسياسة والاقتصاد. و هذه المبادئ الاساس هي التي ترسم غاية القانون وتؤطر حركته وأولها الحرية التي وهبها الله سبحانه إلى الإنسان وفطره عليها لتكون منهجاً معرفياً وسلوكياً للوصول إلى الطاعة المستندة إلى اليقين وإلى الشعور بالحاجة العميقة للتكامل الإنساني. وأولوية الحرية الفكرية ليس من باب الترتيب الإجرائي والحقوقي وإنما من زاوية الاهمية الذاتية للحرية بصفتها جوهر إنسانية الانسان ،والشريعة وحدها فى الفهم الأتم لها هى التصديق لهذا المفهوم، فالقانون الوضعي وضع بالدرجة الأولى لتحقيق مصالح وغايات نفعية تخدم قوى النفوذ التي تصوغ القانون، لذلك فإن الحرية عندهم هي حرية نفعية عرضية وليست أصلاً مبدئياً لذلك نرى أن الدول الغربية التي اعتمدت على الاستعمار في تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية تطبّق الحرية نـــسبياً في بلادها لكنها تقمعها في البلاد المستعمرة أو المستتبعة .وأما القانون الذى يتأسس على الشريعة فإنه يكفل الحريات ويجعلها أولوية قصوى وينظمها بشكل تتوازن فيه حريات الافراد مع عدم الإضرار بالآخرين أو سلب حرياتهم.
الحقوق أساس التشريع :
الرؤية التشريعية رؤية حقوقية ومنظورها للمصلحة والمفسدة أنما يتأسس على الحقوق الأساسية للإنسان من حيث هو إنسان لا بأية صفة أخرى . والعقوبة في الإسلام مرتبطة بصياغة الحقوق الإنسانية العامة والمعروفة بالكليات أو الضروريات الخمس التي أمرنا بحفظها ، وهي الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال .
ويتمثل جزاء الاعتداء على الدين في قوله تعالى «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم» المائدة 33، كما يتمثل جزاء الاعتداء على النفس في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى النفس بالنفس» وجعل الجلد جزاء الإعتداء على العرض بالقذف ، والاعتداء على العقل يكون باذهابه بشرب الخمر والمسكر والمخدر والاعتداء على المال بسرقته وله عقوبات حدية وتعزيرية. فهكذا تم ربط العقوبة بالاعتداء على حقوق الآخرين ودون ذلك عقوبات دنيوية وأخروية على سلب الناس حقوقهم أو الانتقاص من كرامتهم أو قدرهم . ومما سبق نرى أن العقوبة في الإسلام تحرص كل الحرص على أمن الجماعة ، فهي جزاء يرد به المجتمع على جريمة الإعتداء على الحقوق . والجريمة هي عدوان على حق المجتمع في الأمن والسلامة ، وعدوان على المجني عليه بحرمانه من حقه في الحياة أو الحرية أو التملك. وهى أيضا عدوان على نسيج العلاقة التي تربط الأفراد فيما بينهم وهكذا يحقق الالتزام الديني وظيفة النظام والضبط الاجتماعي ،من خلال تربية الفرد بنفسه لنفسه على القيم الفاضلة ومن خلال تناصر المجتمع على توطيد وترسيخ تلك القيم فى حياة الجماعة فالانضباط الذاتى والضبط الاجتماعى ليس أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة لإخضاع المحكومين بل هى أداة فى يد مجتمع المؤمنين يخضع لها الحاكم والمحكوم على حد سواء، فالدين الإسلامي الحنيف يحقق وظيفة الضبط والنظام ، ولكن ليس على حساب الحرية والعدالة والمساواة ، ويقيم مجتمعاً متكاملاً متكافلاً من خلال معايير ومبادئ يلتزم بها الحاكم والمحكوم. فهي ليست ظنون الحكام وأهواءهم بل هى سبيل الله العليم الخبير وشرعه الذى شرعه لاسعاد عباده المؤمنين. وحق المحكوم هو حق الحاكم ذاته وواجبه هو الواجب ذاته. فالناس فى شرع الله سواسية كأسنان المشط. إنسان له كل الرزمة الكاملة من الحقوق التى تبدأ بالكليات الخمس وتتفرع الى جزئيات مفصلة لا تكاد تحصى، وله من الواجبات مثل تلكم الرزمة. فما من حق لأحد الا وهو واجب على آخر. وهكذا تتوازن الحقوق والواجبات. وقد أجملت بعض هذه الحقوق وفصل بعضها الآخر تفصيلا دقيقا. فقد أشارت الآيات إلى بعض حقوق أصناف من الناس كالوالدين والقرابة واليتامى والمساكين والجار القريب والجار الغريب والصاحب الصديق والمسافر المنقطع والعبيد والإماء. وتفسير ذلك لأن جزاء الإحسان هو الإحسان فى حال الوالدين ،أو لتقارب العلاقة مثل الأقارب والأرحام والجيران ، أو بسبب الضعف والحاجة للدعم كما فى الأرقاء واليتامى والفقرا ء . ولئن كان القرآن لم يفرد باباً لحقوق الإنسان فإنما ذلك لأنه بالمفهوم القرآنى فالقرآن إنما هو كتاب لحقوق الانسان بالمعنى الاسلامى لتلك الحقوق. عرف الفقهاء الحق بما يثبت في الشرع سواء أكان حقاً لله على الإنسان، أم حقاً للإنسان على غيره. أما أركانه فهي أربعة: 1ـ الشيء الثابت، 2ـ من له الحق، 3ـ من عليه الحق «أي المكلف» فرداً أم جماعة، 4ـ مشروعية الحق، أي النص عليه في الشريعة وعدم منعه.
وهذه الاعتبارات الاصولية للحق، من حيث أركانه ومصاديقه المستوحاة من الشريعة الإسلامية، أعطت لموضوع حقوق الإنسان في الإسلام تميزه. كما أبانت عن مرجعية متكاملة ومختلفة في آن عن المرجعية الغربية. كما أظهرت السبق الإسلامي في تشريع هذا المجال وشمولية منهجه بل تفوقه على أحدث التشريعات المعاصرة. ذلك أن التفصيل الذي ذكرته المرجعية الإسلامية لا وجود له في غيرها. فحق الإنسان الفرد مثلاً تفرع بشكل دقيق من الحق الخاص إلى العام. وكذا حقوق الجماعة، وحقوق الله التي لا ذكر لها في الإعلانات الحقوقية الغربية. وما من حق لله إلا ومن وراءه حكمة تعود بالنفع على الإنسان. بيد أن هذا المفهوم يرتكز أساساً على نظرة الدين المتميزة للوجود الإنساني، في خلقه المتميز، وغائية وجوده. فهو أولاً مخلوق مكرم من طرف خالقه: «ولقد كرمنا بني آدم»«الاسراء/70»، ثانياً، وجود الإنسان كان لمقصود عظيم كريم و لغاية خصه الله سبحانه وتعالى بها، وهي الاستخلاف: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» «البقرة/30». وبالتالي فقضية الخلق المرتبطة بالتكريم والاستخلاف، تعد أرضية أساسية تحدد مفهوم حقوق هذا المخلوق المكرم المسمى الإنسان. فمعنى الكرامة الانسانية هو جوهر وأساس الرؤية الاسلامية لحقوق الإنسان. ان إنسانية الإنسان وكرامته على نفسه وعلى الناس وعلى الملائكة والخلق أجمعين إنما تقاس بنقاء فطرته واستقامته على شريعته.
نواصل
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!