التفاعل هو قانون الحياة الأول وليس الفعل هو قانونها الأول، لأن الفعل لا يكون مؤثراً حتى يكون متفاعلاً . فالأجسام فى حالة الإتزان عندما لا تكون متحركة يساوى فعلها صفراً حسب قانون نيوتن الأول، ولئن كان فعلها يساوى صفرا فهى غير فاعلة ، ولكن الأجسام تتحرك عندما تؤثر عليها قوة محصلة ، وينشأ عنها تسارع ، وبقدر القوة يكون التسارع الذى يكسبه الجسم ، وهذا قانون نيوتن الثانى، فالتفاعل أصل الحركة وأصل الحياة، ولذلك لا يمكن أن يُنسب خيرٌ بالكامل لطرف ما، كما أنه لا يُنسب شرٌ بالكامل لطرف ما. والحالة الطائفية التى تُنهك الجسم فى العالم الإسلامى يتجاذبها طرفان، وقد ركزنا على الحالة الطائفية الشيعية فى مقالنا السابق وههنا سنركز على الحالة الطائفية المواجهة لها التى تمثل رد فعل مكافىء ومعاكس فى الإتجاه.
ما المقصود بالطائفية ؟
الطائفة فى اللغة هى جماعةٌ من الناس يجمعُهُمْ مذهبٌ أَو رأَيٌ يتميزون به بيد أن المعنى فى إشارته يشتمل على معنى التمسك الشديد أو التحيز أو التعصب لجماعة معلومة ، وقد ورد فى القرآن فى سياق الصراع والإقتتال إذ ورد فى سورة الحجرات «وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهما» والطائفة من الطواف والذى هو الدوران حول شىء،والطائفة تدور حول فكرة أو زعيم ولا تكاد ترى غيره، فكل ما هو خارج الدائرة خارج الحسبان. والطائفة التى تدور حول الفكرة المركزية للإسلام ممدوحة لأن الإسلام دعوة مفتوحة على الجميع متسامحة مع الجميع ، فهى الجماعة التى تتمسك بأصل الإسلام عندما يكون ذلك التمسك مستغرباً . وقد إعتاد الناس على التفرقة بين التعصب للقبيلة والتعصب للجماعة التى إجتمعت على طريقة أو مذهب أو زعيم لكنهما صنوان فى تقديس الذات الجمعية المتعصبة وإلغاء الآخر وازدرائه ، فالجامع بينهما هو تقديس الذات وإزدراء الآخر. وكانت الكلمة الشائعة فى التاريخ الإسلامى لما نعرفه اليوم بالطوائف هى كلمة الفرق و«الفرقة» واردة بمعناها الإصطلاحي أيضاً، أي بمعنى الجماعة المتفرّعة من الملّة، منذ حديث «الفرقة الناجية» المشهور، واستعمالها بهذا المعنى متواتر فيما كتب الشهرستانى وابن حزم وغيرهما فيما عرف بكتب الملل والنحل و«كتب الفِرَق». ولا نعلم أن «الطائفة» يرد استعمالها في هذه الكتب المذكورة بذلك المعنى ذاته بيد أن كلمة طائفة وردت فى التاريخ الإسلامى لوصف الصوفية وكانت تطلق على شيوخ التصوّف عبارة «طائفة القوم». و«القوم» هنا قوم الله والمتصوفّة طائفتهم أي جماعتهم. وهذه صفة ظلّوا يصفون بها أنفسهم منذ عهد مبكر ابتداءً من الثالث الهجري كأنهم يريدون بها إبراز تميّزهم عن العامّة من أهل الإسلام. وكانوا يشيرون إلى أنفسهم أو يشار إليهم باسم «الطائفة» معرّفاً بحيث يبدو وكأنه عَلَمٌ عليهم .وكان الشيخ الجنيد يلقب بشيخ الطائفة أى شيخ الصوفية بأسرهم. بيد أن أهل التصوف رغم التعصب الفاشى بينهم بين الطرق والفرق منهم إلا أنهم كانوا أكثر تسامحا من غيرهم، لكن الكلمة بمعناها الذى يصمها بالتعصب ظهرت فى التاريخ الإسلامى مع مصطلح ملوك الطوائف الذى يصف حقبة من تاريخ عصور الإنحدار فى الأندلس فعبارة «ملوك الطوائف»، وهي تشير إلى المعنى المستعمل في السياق الراهن من أحوالنا فملوك تلك الحقب الأندلسية الممتدّة طوال القرن الحادي عشر الميلادي كان كلّ منهم يتولى حُكْمَ جماعة مميّزة بمذهب خاصّ بها في الدين منازعة ومخاصمة لسواها، وهى عهود تميزت بالتمزق والتنازع فما أشبه الليلة بالبارحة.
مصطلح أهل السنة متى ظهر؟
عندما كانت الأمة واحدة كان من البداهة أن جميع أفرادها يستقيمون على الكتاب والسنة فهم أهل القرآن وهم أهل السنة، ولكن عندما إفترقت بالسياسة وبالفلسفة والكلام فرقاً متعددة تنازعت فرقها على الإستثار بما يجب أن يكون شأناً للجميع ، تنازعوا على السنة وعلى حب أهل البيت ثم تحولت التأويلات والإجتهادات المتنوعة المتفرقة إلى تعريفات صارمة لما يعنى هؤلاء بالسنة، وما يعنى أولئك بالعترة النبوية.ولا شك أنه لا سبيل لنجاة مسلم إلا بإتباع الكتاب والتمسك بالسنة.والتمسك بالسنة يعنى التمسك بهدى النبى صلى الله عليه وسلم وبقدوته، بيد أن الفرق لم تختلف على ذلك وإنما اختلفت على تأويل المتشابه من آي الكتاب ومن السنة فقال قائلهم:
إنا قتلناكم على تنزيله / واليوم نقتلكم على تأويله
وحرب تأويل المتشابه هى الحرب الدائرة رحاها إلى يومنا هذا،والتاريخ يشهد أن الطوائف المختلفة بتأويلاتها المتعددة قد تكاثرت بعد الفتنة الكبرى ، التى مثلت أول اقتتال إسلامي- إسلامي بعد إغتيال عثمان رضى الله عنه، الذى كان أول شهداء الرأى فى التاريخ الإسلامى ،ثم معركة الجمل ومعركة صفين ومعركة النهروان، ثم تواصلت المعارك حتى معركة الموصل والرقة وحرب الشام واليمن. ومما لاشك فيه أن الآراء تتداخل معها الأهواء ، وأن التأويلات لا تخلو دائما من التمنيات والتشهيات ، و أن هذه التعددية الطائفية استغلّت أسوأ استغلال لدى كل فريق سياسي لدى هذه الفرقة أو تلكم الأخرى أو هذه الامارة أو تلكم الأخرى أو هذه الدولة أو تلكم الأخرى. ولم يكن شأن الجميع معرفة التنوع وإحترام الإجتهادات والتوسع فى الإعذار وبذل العتبى للمخالفين ، بل صارت إلى تعدد لا تنوع وإلى تباين لا إلى تفاعل ، وهذه التأويلات المتنوعة الذى إحترمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى حياته لم تحتملها فرق أمته بعد مماته . وكان يمكن للتنوع الفكرى أن يثرى المجتمعات المسلمة ويساهم في انفتاحها وتطورها، إلا أنها آضت بالمجتمعات إلى حالة من انعدام الاستقرار شكلت فرصة لخصوم الدين والعقيدة للولوج من خلالها لتوسيع الفتق وتفتتيت المفتت وتمزيق الممزق لتكريس حالة الضعف والمهانة ، فلم يخرج المسلمون من الأندلس ولم يفتنوا فيه عن دينهم إلا بتفشى الطائفية المقيتة . ولم يأت الإستعمار ولم يطل مكثُه إلا بإستخدامه للطائفية البئيسة ، ولم يمتحن العالم الإسلامى بأهل الإستبداد إلا بإستخدام الطائفية،والتى يستخدمها المستبدّون لإستدامة خوف المجتمعات من بعضها البعض، ولبثّ الكراهية بين شعوب الأمة الواحدة، فذلك وحده ما يضمن استمرار حالة ضرورة الإستسلام لأهون الشرين، شر الفوضى و شر الإستبداد.أما مصطلح أهل السنة والجماعة فمرجعه إلى أيام الفتنة بين علي ومعاوية . والمصطلح منسوب لابن عباس رضى الله عنه الذى ناصر علياً كرم الله وجهه وظل أبناؤه من بعده على ولائهم لأهل البيت حتى سقطت دولة بنى أمية. و يزعم الزاعمون أن عبدالله بن عباس قال فى تأويل «يوم تبيض وجوه وتسود وجوه» آل عمران106
«حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة»،
ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره. وقصد أهل الإصطلاح أن يقولوا ان ما يميز فريقهم هو تمسكهم بطريقة النبى صلى الله عليه وسلم فى العلم والعمل وتمسكهم بجماعة المسلمين فهم لم يخرجوا بغاة عليها كما خرج الخوارج على سيدنا علي كرم الله وجهه أو كما يقول أصحاب معاوية رضى الله عنه، أن أصحاب علي كرم الله وجهه بغاة على الشرعية ، أو كما يقول أصحاب علي كرم الله وجهه أن أصحاب معاوية رضى الله عنه هم البغاة الخوارج على الشرعية. وهذه المنازعة على الشرعية وعلى الحق والإستحقاق جعلت كل فريق يزعم أنه هو الطائفة القائمة على الحق لا يضرها من خذلها، إيماء لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله» وكل يزعم أن فريقه هم تلكم الطائفة . ولايخلو الحديث وإن كان صحيحا « فقد رواه الشيخان» من إستغلال لمعناه من هذا الطرف أو الطرف الآخر . و قد رُوى بروايات متنوعة إلا انه فى الصحيحين من رواية معاوية رضى الله عنه . ومعاوية رضى الله عنه غير متهم بكذب فيما روى ولكن إيراد الحديث فى معرض النزاع الماثل هو الأمر الذى عليه النزاع . فالروايات الأخرى تجعل فهم الحديث إنما يتصل بحادثة محددة فى مكان محدد فى زمان محدد . وهو ليس قطعا زمان الفتنة بين معاوية رضى الله عنه وبين على كرم الله وجهه.
و الحديث ورد فى سياقات متعددة وقد ورد في مسند الإمام أحمد فقد ذكر أنه قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: «وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدِهِ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنِ السَّيْبَانِيِّ- وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ». وللحديث شاهد من حديث مُرَّة بن كعب البهزي، رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ». قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: «بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ». أخرجـه الطبراني ومن حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزَالُ عِصابَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ علَى أبوابِ دِمَشْقَ ومَا حَوْلَهُ، وعلَى أبوابِ بيتِ المَقْدِسِ ومَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُم خِذْلانُ مَن خذَلهم، ظَاهِرِين علَى الحَقِّ إلى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ». أخرجه أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، وابن عدي في الكامل
وأصل الحديث في الصحيحين دون قوله: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ». من حديث الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ». البخاري، ومسلم
وأخرجه الشيخان من حديث معاوية، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ». قَالَ عُمَيْرٌ: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. البخاري ومسلم.ربما أنه ما من حديث إستخدمه المتنازعون المتخاصمون من أهل الطوائف وأهل الكلام مثلما استخدم هذا الحديث والذى هو أقرب لنبؤة نبؤات النبى صلى الله عليه وسلم تنبى بحال جماعة تقاتل دفاعاً عن بيت المقدس دون كبير نصرة، وربما بخذلان كبير من سائر الأمة فهل نحن بعداء من ذلكم الحال أم أنه قد إقترب ذلك الأوان بسبب الخصومات الطائفية؟؟
نواصل
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!