خروج تنظيم الدولة من الموصل وربما إخراجه الوشيك من الرقة هل سينهي مشكلة التنظيم؟ أم هل سيصلح الصورة التي خطها في ذاكرة الملايين ؟ وهل ستتلاشى صورة التوحش المرسومة للإسلام التي قدمها الداعشيون عبر الوسائل والوسائط؟ لا شك أن عدم تجاوب الأمة المسلمة مع التنظيم وهو يواجه حملة دولية قاصمة دلالة لا ريب فيها على عزلته، ورفض السواد الأعظم من المسلمين للإسلام الذي يدعي التنظيم أنه هو الإسلام المنشود بينما يقول سواد المسلمين الأعظم إنه الإسلام المرفوض .
صور الإسلام المتكاثرة:
لقد صارت سجالات الراهن وصراعاته السياسية وأزماته الدبلوماسية تدور كلها حول صورة الإسلام المنشود وصورة الإسلام المرفوض.فالإسلام الذي إستبعده الإستقواء الإستعماري من الحياة العامة ومن السياسة لحقب تطاولت يعود بقوة ليكون محوراً للسياسية والدبلوماسية بل الحياة العامة كلها.فما من شأن ولا موقف ولا حدث عام إلا ويؤثر في حيثياته وتداعياته رؤية أطرافه للإسلام.بيد أنه ما من عهد إضطربت فيه المفاهيم عن الرؤية الإسلامية وأرتبكت فيه المواقف مثل زماننا هذا.فالمحسبون على موالاة الفكرة الإسلامية تتجافى أفكار بعضهم عن بعض وتتباعد حتى يكون بعضهم أقرب للمناوئ منه إلى الموالي، والمعارضون للفكرة الإسلامية لا يجدون منطقا لرد منطقها إلا منطقها، ولا سلطة لردع أفعالها إلا سلطتها، فكأن الناس يتفقون على الإسلام ويختلفون على تأويله وتنزيله . وأما هم فطرائق قددا ففيهم الصادق الذي يريد أن يرى هداية الدين واقعا بين الناس، وفيهم الكاره الذي لايريد إلا إثبات أن تعاليم الدين طالحة غير صالحة أو على الأقل نافدة غير نافعة.وفيهم المساير المنافق الذي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولكن إلى ما يراه جالبا للغنم دافعا للغرم.وأنت تنظر فترى كيف تستخدم فتاوى ومؤتمرات المؤسسات الدينية الرسمية بواسطة الدول لتعزيز شرعيتها أو لمواجهة خصومها الإسلاميين. وترى المجموعات العلمانية تتنصل من مسمى العلمانية لتلبس ثوباً جديدا تسميه المدنية بعد أن عزلتها الجماهير بسبب لا دينية طرحها.
أن اللا دينية التي يخشى البعض من إنبعاثها بسبب مظاهر المجاهرة بالإلحاد التي برزت بسبب ثورة وسائط التواصل الإجتماعي لا تشهد تصاعدا بل تشهد تراجعاً حاسماً رغم ظهورها الذي تعاظم بسبب الوسائط الجديدة. فالفكرة الإسلامية أصبحت هي البديل الذي لا مندوحة عنه ولذلك صار التنازع ينحصر بين رؤى وصور متعددة ومتفاوتة للإسلام تكاد تختلف نوعيا عن بعضها البعض . حتى صار بالإمكان تسويق الفاشية المتوحشة باسم الدين وتسويق العلمانية المتجردة من معاني الدين وقيمه باسمه. فكأنه حق للقائل أن يقول (كل الصيد في جوف الفرا) وكل الصراع في ساحة واحدة هي ساحة الإسلام.
الإسلام ماهو :
القرآن يقدم تعريفه للإسلام فيقول ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) فالنبي أمر أن يستسلم للهدى الإلهي في عبادته ونسكه وطرائق حياته وطريقة موته كما أستسلمت للهدى والسنن الإلهي سائر الكائنات والمهديون من المؤمنين، وهو بذلك أول المسلمين من أمته على سنة النبيين من قبله ومنهم آدم الذي خوطب( قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأيتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، فكأنما ترك بالخيار أن تتبع هداي أو تتبع هواك. وهو خطاب للبشرية من بعده إما أن تتبع هواها أو تتبع هداه. وهدى الله هو الاستسلام لسننه الكونية وسننه في الأنفس والآفاق التي يوحيها لرسله من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) والطريقة المحمدية هي الطريقة الإبراهيمية التي أسماها إبراهيم بالإسلام (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) وعلى نهج إبراهيم وعلى الأسم الذي إصطفاه سار الأنبياء من بعده.والقرآن فرق بين الإيمان والإسلام على الرغم أنه لايكون إيمان بغير إسلام ولكن يمكن أن يكون إسلام بغير إيمان (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ويقول ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين ) فالإيمان هو الإيقان بوجود الله ووحدانيته وصفاته وأسمائه وبأنه المحيط علما بكل شىء القادر حكما على كل شىء فإذا أدركنا ذلك ولم ننزل عند علم العليم وحكم الحكيم وآثرنا إتباع الهوى فذلك هو الضلال المبين . ولكن بعض الناس من أمثال أولئكم الأعراب قد ينزل عند حكم الله مضطرا أو منافقا فيكون مسلما غير مؤمن، بل أن المؤمن نفسه قد لا ينزل عند كل أحكام الله في المحيا والممات من قلة فهم أو عجز أو هوى غالب مغالب وهؤلاء المؤمنين خاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله (يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين )والسلم هو الإستسلام للطاعة والدخول في المسالمة لا المعاندة للهدي الإلهي.والمسلمة للهدي الإلهي مسالمة لسنن الأكوان التي فطرت على الإستسلام للمرادات الإلهية وإتباع ومسايرة لسنن الله في الأنفس التي خلقها ويعرف ما يصلح شأنها وما يفسد أمرها، منفردة أو مجتمعة . فالإسلام ليس عبادة ونسكا فحسب كما يرى أو يزعم البعض الذين يريدون تعضيته وتبعيضه، بل هو أعمال محيا وممات يقول صاحب التحرير والتنوير (والمحيا والممات يستعملان مصدرين ميميين ، ويستعملان اسمي زمان ، من حيي ومات ، والمعنيان محتملان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري ، كان المعنى على حذف مضاف تقديره : أعمال المحيا وأعمال الممات ، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبس بها المرء مع حياته ، ومع وقت مماته . وإذ كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات)ويضيف ابن عاشورإن اعمال الحياة كثيرة ومتنوعة وأما أعمال الموت فيجوز أن يكون المشار إليه هو الإستشهاد في سبيل الله أو التشهد عند الموت إشهادا بالوحدانية لله رب العالمين.
الإسلام بين الصفات والوصفات:
الإسلام الموحى به دين واحد اسمه هو اسمه الذي سماه إبراهيم وصفاته ونعوته هي التي وصفه الله بها ،ولكن الناس تختلط عليهم الأمور بين الإسلام الذي هو هدى الله ورسالته وبين الإسلام الذي هو فهمهم لذلك الهدى وتلكم الرسالة. وترتبك الفهوم بين إسلام هو دين الله لخلقه وبين إسلام هو تدين الناس بما يفهمون ويفقهون لربهم. فالقرآن لا يعرف ما يسمى دينا سنيا وآخر شيعيا ولا ما يسمى دينا صوفيا وآخر سلفيا ولا ما يسمى دينا سياسيا وآخر غير سياسي، فالإسلام هداية واحدة شاملة للعبادة والنسك والمحيا والممات. وليست تلكم الأسماء إلا أسماء لمذاهب ولطوائف وفكرويات ولا تعدو ان تكون تفكرا أو تدينا لأفراد أو طوائف . وقد تعذر تلكم الطوائف في إجتهادها ولكنها لا تعذر في تعصبها ،وفي جعلها لرؤاها صراطا مستقيما إلى الحق لا يزيغ عنه إلا الهالك.وغالبا ما يحجب التعصب تلكم النحل والجماعات عن رؤية إتفاق كثير وكبير بينها ،لأنها لاترى إلا الفروق وتعجز عن رؤية الموافقات. والموافقات بين الناس هي الأصل ، والمفارقات هي الإستثناء ، لأن الناس خُلقوا على الفطرة ولأن بينهم مشتركات كثيرة. بيد أن روح التخاصم والتعادي هي التي أعمت الأعين عن رؤية المشتركات بين الناس جميعا بل بين أهل الديانة الواحدة.
الإسلام السني والإسلام الشيعي:
لا شك أن الإسلام دين واحد مستنده إلى القرآن وقدوته هي السنة . ولاغرو أن ينسب المتدين تدينه إلى السنة، فسنة النبي هي قدوته وهي منجاته وسبيله إلى الصراط القويم . بيد أن الوصف زائد عن الحاجة فلو قيل الإسلام لعلم السامع أنه الإسلام الذي مرجعيته الكتاب والسنة ،لكن الاسم برز اسما سياسيا لوصف جماعة تسمت باسم أهل السنة والجماعة في مقابل جماعة إختارت أن تتسمى بالشيعة ،لأنها جعلت تشيعها للإمام علي كرم الله وجهه أكبر من قضية سياسية، بل أكبر من قضية شرعية إلى كونها مسألة من مسائل العقيدة. وبذلك تحولت مسألة تشيع جماعة من المسلمين الصادقين لعلي رضي الله عنه في مواجهة متأولين ضده ممن تابع الأمويين أو إنحاز للخوارج إلى قضية من قضايا أصول الدين لا من قضايا السياسة. وكان هذا هو الإنحراف الأكبر الذي تداعت بسببه إنحرافات عديدة في جميع المعسكرات، وفي كافة الإتجاهات .فمن تسموا باسم أهل السنة والجماعة لم يناظروا الشيعة مناظرة أهل السياسة لأهل السياسة بل إنزلقوا لمقاربة الخلاف وكأنه أمر من أمور العقيدة . وكذلك فعلوا مع الخوارج الذين أفتى كثيرون من أهل السنة والجماعة بإخراجهم من الملة على خلاف منهم مع الإمام علي كرم الله وجهه، وهو من إختلفت معه الخوارج وحاربوه ولكنه أبى إلا أن يشهد لهم بالإيمان وبأنهم لم يخرجوا إلا نصرة للدين كما تصوروه.وكلمة خوارج نفسها مفردة إقصاء لهم ، ولكنهم فعلوا الأمر نفسه عندما أسموا أنفسهم أهل الإيمان مرة، وجماعة المؤمنين مرة أخرى.فهكذا تحول الخلاف السياسي إلى أمر إيمان وكفر، بينما لايعدو مهما أشتط أصحابه أن يكون خلافا على السلطة وإستخدامها وفق رؤية وتأويل مخصوصين .ومما يؤسف له أن هذا الأمر ماض إلى يومنا هذا ففي الأسبوع الماضي إصدرت الهيئة الإفتائية بالبيضاء في ليبيا والتابعة للحكومة المحسوبة على اللواء حفتر فتوى مثيرة للجدل بتكفير طائفة مهمة في ليبيا هي طائفة الإباضية .والإباضية طائفة يعدها من يسمون بأهل السنة والجماعة من الخوارج،ولكن المشهود لهم أنهم من أهل الإعتدال في الفقه وفي الرأي . وهم جماعة مقدرة في المغرب وشمال أفريقيا وجماعة غالبة في دولة عمان. وأما الشيعة فكما يؤمن من يسمون بالخوارج أنهم أهل الإيمان، يؤمن الشيعة أن التشيع هو الإسلام وما بعده ضلال عن الاسلام . ويزعمون أن المذهب الشيعي لم يبرز بعد الخلاف مع طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعا وأنما هو أصل من أصول الإسلام . ويرون أن المسلم الحق يجب أن يتشيع ويوالي علي بن أبي طالب،ومن لم يواله في الماضي والحاضر ليس بالمسلم الصالح عند أهل الإعتدال منهم وليس بالمسلم عند أهل التشدد وبالتالي فإن التشيع هو ركن من أركان الإسلام ويستدلون بأدلة من الأحاديث وثقوها هم ولم يوثقها الفريق الآخر، ومنها زعمهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه في تفسير أولئك هم خير البرية قوله خير البرية (أنت يا علي وشيعتك ) وإستدلالهم أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم ( من كنت مولاه فعلي مولاه آلهم والِ من ولاه وعاد من عاداه ) ثم أسقطت هذه النصوص على الخلاف السياسي الذي نجم وأشتجر على معركتيي الجمل وصفين مع طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم وأرضاهم من جهة، ومع الإمام علي كرم الله وجهه من الجهة الأخرى، وبين معاوية وأصحابه وبين الإمام على ومن شايعه في صفين ثم معركة النهروان مع الخوارج. وأستعر الخلاف وتحول إلى ملحمة مأساوية بعد مقتل الإما م الحسين رضي الله عنه وتشريد أهل بيته، فازداد إلتفاف الشيعة حول أهل البيت وعلى رأسهم الأمام علي بن الحسين السجاد التقي الورع الذي نال توقير ومحبة المسلمين جميعا.وقد زاد في ولاء بعض الشيعة من فارس للإمام السجاد ما يقال إن أمه هي بنت كسرى التي أهداها سيدنا عمر رضي الله عنه للإمام الحسين بعد فتح فارس. الأمر الذي عمق ولاء أهل فارس لأهل البيت، وقال قائلهم إن ألامام علي السجاد قد جمع مجد العرب وعزهم إلى مجد فارس وعزها.ولاشك أن البعد القومي الفارسي قد ترك أثارا كثيرة على تطور المذهب الشيعي ، خاصة بعد بروز الدولة الصفوية وصراعها مع الدولة العثمانية، وسعي كل واحدة من الدولتين لإكتساب الشرعية من خلال بسط سلطانها على أرض الحرمين ومن خلال شرعية الخلافة عند أهل السنة وشرعية أهل البيت عند الشيعة.وعندما أستولى الإستعمار والنفوذ الأجنبي على المنطقة سعى لإخفات صوت الدين بكل مذاهبه وحاول فرض العلمانية من خلال زعماء من أمثال كمال أتاتورك وبهلوي وأمان الله. ولكن بخفوت أثر النفوذ الأجنبي عاد للدين نفوذه على الحياة العامة، وبخاصة بعد الثورة في إيران. وعادت المقاصد المذهبية تتداخل مع المقاصد القومية كما فعلت عبر التاريخ.وهكذا تتداخل عوامل سياسية وأخرى قومية لا لتقوي رابطة المسلمين بل لتعزز الإنقسام إلى فرق ونحل لا تزال تدور بينها الحروب الضروس.فعندما ينظر المرء فيرى كيف أثرت خلافات السياسة قبل قرون عديدة في إنقسامات الراهن الماثل وحروبه الطاحنة تتملكه الحيرة ويكاد يذهب بلبه الإستغراب.ورغم الإصطفاف الطائفي اليوم والذي تستباح به الدماء ويقتل فيه الأبرياء على الهوية فإن المطامح السياسية والمقاصد الدنيوية لا الدينية التي يدار من أجلها الصراع لا تخفى على كثير من أهل الملاحظة والفهم .
نواصل
د. أمين حسن عمر
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!