الترابي يعرف أن للفروق بين الرجال والنساء اعتباراً، ولكنه لا يجعل ذلك مسوغاً لمنع أيما امرأة من أن تنجز ما يمكنها إنجازه بدعوى أنها امرأة.
أخذ بعض العلماء من أهل المحافظة وكراهية التجديد على الترابي قوله بجواز تولي الولاية العامة لا يستثنى الولاية الكبرى
أخذوا على الترابى إجازته لتولي القضاء مطلقاً على خلاف رأي الجمهور وهم فقهاء الشافعية وغالب فقهاء المالكية والحنابلة وخالف الأحناف باستثناء قضاء الحدود والقصاص
الترابي لا يتبع سبيل المهرولين لاتباع سبيل أهل الغرب فى تولية النساء المناصب من أجل مساواة النوع، وإنما يدعو إلى النظر للنساء كما ينظر للرجال لتولية ذوي الكفاءة والأمانة بغير تفرقة
كان قدر الدكتور الترابي أن يكثر مناوئوه كما كثر مناصروه ، وهكذا هو شأن النابهين من الناس . وخصوم الترابي لم يبقوا مفردة من مفردات الإساءة إلا صوبوها تجاهه ولا صفة من صفات الذم إلا وصموه بها. ولقد بحثت ونقبت كثيراً لأجد رداً رصيناً مهذباً على ما يقول به الترابي من آراء فلم أجد إلا النزر اليسير. ولا عجب فإن المسلمين في راهن زمانهم هذا قد حسب غالبهم أن التعصب للرأي يغني عن الجدال بالحسنى المأمور به حتى مع الفرعون المتجبر. ولقد آذتني كثيراً الألفاظ النابية على الآذان التي يرد بها علماء دين، أو هكذا يعرفون لدى عوام الناس ، على رأي مجتهد في أمر اجتهادي جعل الله لصاحبه المخطئ أجراً ولو أخطأ الصواب فيتناوله رجال محسبون إلى العلم بلغة لا تمت إلى آداب العلم بحبل هريء واهٍ فلا عجب أن نصير إلى ما صرنا إليه من حال لا يسر بها إلا حاسد أو غافل.
مسائل فقه المرأة
أشد ما اتهم به الدكتور الترابي هو أنه يريد إفساد البلاد والعباد بإفساد نساء البلاد. ولا شك عندي أن قضية الانتصار للمرأة كانت هماً كبيرًا من هموم الدكتور الترابي. فهو أدرك ألا نهضة ولا تقدم في المجتمعات الإسلامية ما لم تتحرر النساء وتتحرك. وآفة القضية في مسألة المرأة هي الرؤية الجنسوية للمرأة عند غالب مشايخ الفتيا. فالمرأة الإنسان تتوارى عن أعينهم خلف المرأة الأنثى. وما علموا أن المرأة الإنسان هي التي أرادها الله سبحانه وتعالى خليفة في الأرض مثل الرجل سواء بسواء واستعمرها في الأرض كما استعمر الرجل سواء بسواء. فالمرأة لم تخلق ملهاة لآدم ولا خدينة لفراشه فحسب ولكنها خلقت شقيقة وشريكة. لكن كثيراً من المشايخ ما ذكرت المرأة إلا أبصروا بها الأنثى التي هي الفتنة التي يتقى شرها، وليس الإنسانة المكرمة التي يرجى خيرها. أما الدكتور الترابي فقد جعل قضيته الأولى إعادة التوازن للمجتمعات المسلمة بإعادة الاعتبار الكامل للمرأة. فهي مثل الرجل سواء بسواء وكما لا يمشي الإنسان بقدمين لا يتساويان لا تسير المجتمعات بنوعين لا يستويان. والمساواة ههنا هي مساواة تفاضل وتكامل لا مساواة تماثل، فلا يوجد في الكون شيئان يتماثلان تماثلاً تاماً فليس كل رجل يماثل سائر الرجال وما كل امرأة تماثل سائر النساء. والتفاضل يعني أن الرجال في الحكم العام يفضلون النساء في أمور واستعدادات ومهارات وأن النساء في الحكم العام يفضلن الرجال في أمور واستعدادات ومهارات، ولكن الميزان لا يرجح لصالح الرجال أو النساء في الجملة لأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليحاسب الرجال والنساء إلى ثواب واحد وعقاب واحد مع ترجيح بعضهم على البعض الآخر.
كانت هذه هي الفكرة الواضحة الساطعة التي أراد الترابي أن تبصر بها كل الأعين العاشية. فنهضة المرأة عنده هو الواجب الذي لا يتم واجب النهوض الإسلامي إلا به. والمرأة لدى الترابي كاملة الاستعداد العقلي والنفسي ولم يفهم أبداً أن النساء ناقصات عقل أو دين رغم الحديث الذي لا يمكن أن يفهمه من يفهم تعاليم الإسلام حول المرأة وإنصافه لها إلا أنه من باب ممازحة الرسول صلى الله عليه وسلم لنساء خرجن من بعد الاستماع لخطبته صلى الله عليه وسلم في عيد فطر أو أضحى كما روى الراوي وإلا فلم يؤخذ من الحديث هذا الجزء ويترك قوله إنهن أغلب لذي لب (ما رأيت من ناقاصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)، لإن كان نقصان عقلهن لم يمنعهن من أن يغلبن ذا اللب مما يعني أن ذا اللب الذكر هو أدنى رتبة في موازين العقل، وأما الشهادة وترك الصلاة فأمور لا تحاسب عليها المرأة ولا تنقص من كمالها شيئاً بصفتها امرأة، فكمالها فيما فرض عليها لا ما رفع عنها ولا يمكن أن يفهم الحديث إلا من باب المزاح فمعناه يخالف المعاني المضطردة في القرآن وفي الأحاديث التي تعلوه رتبة ووجوده في البخاري لم يجعله يسلم من اضطراب في المتن لشك الراوي بين عيد فطر وأضحى، وهي أمارة على نسيان والنسيان أحد قوادح الحديث، لكننا لسنا في حاجة للقول بضعف الحديث إن فهمناه كما أسلفنا، وإلا كان حديثاً غريباً، ولكن هذه الغرابة التي توقف كل حديث غريب لم توقف المتربصين بالنساء أن يتخذوه شعارًا ودليلاً ومسوغاً لتحاملهم على النساء.
الدكتور الترابي يعرف أن للفروق بين الرجال والنساء اعتباراً، ولكنه لا يجعل ذلك مسوغًا لمنع ايما أمرأة من أن تنجز ما يمكنها انجازه بدعوى أنها امرأة . وكم من عمل يمهر فيه الرجال في المعتاد تفوقت امرأة عليهم في ميدانهم، وكم من عمل تمهر فيه النساء في المعتاد تفوق عليهن فيه رجل في مضمارهن . إن الناس رجالاً ونساء يجب أن يحاسبوا بكسوبهم وكسوبهن لا بصورة نمطية لما يجب أن يقوم به رجل وما تقوم به امرأة ما لم يكن ذلك الأمر من المحرمات بلا جدل ولا مراء.
المرأة الولاية الكبرى:
أخذ بعض العلماء من أهل المحافظة وكراهية التجديد على الترابى قوله بجواز تولي الولاية الولايات العامة لا يستثني الولاية الكبرى. وقوله مرتكز على فهمه أن للمرأة أن تولى أيما منصب طالما توفرت فيها شروطه، وكانت كفتها هي الراجحة. وأما من يناهض هذا الرأي فعليه الإتيان بالدليل، فالأصل في الأشياء الإباحة وفي الأفعال الحل، ومن أراد أن يحرم أو يمنع عليه الإتيان بالدليل. وحق المرأة في الشراكة في الشأن العام لا يماري فيه أحد فهي راعية ومرعية وهي مسوؤلة ومساءل عنها. وأما اتجاه البعض لجعلها مسوؤلية الذكور ولا مسوؤلية لها فيخالف الظاهر المضطرد من الشرع والمعروف المفطور من طبيعة الأشياء، فكل الناس راع ومسوؤل أمام الله والناس عن رعيته ومسوؤليته. والحديث أن لكل أمرأة ولي وهي لا تتولى شأن أحد أكان ذلك الأحد نفسها أو أهل بيتها أو بعض الشأن العام مردود لافتقاره للدليل ولمخالفته الأصل المعلوم والعرف المعروف. فما الولاية إلا التصرف في الشأن الخاص أو العام وهي بتعريف الفقهاء (هي سلطة يملك صاحبها التصرف في الشوؤن الخاصة به أو بغيره مثل الولاية على الصغار أو الأموال أو الأوقاف أو الولاية على الأمصار وهي تعطيه الحق على إنشاء العقود والتصرفات نافذة من غير توقف ولا حاجة لإذن من أحد) وأما الولاية العامة فهي (السلطة الملزمة في شأن من شوؤن الجماعة مثل ولاية الحكم أو ولاية القضاء وهي تمنح سلطة الفصل في الأمور وتنفيذ الأحكام والهيمنة على القائمين بالتنفيذ)، والولايات إما أصلية أو بالوكالة أو النيابة . والأصلية أن يتولى الشخص عقداً أو تصرفاً بنفسه لنفسه وأما النيابة أن يتولى الشخص أمور غيره . وهي غالبها اختيارية إلا أن تكون وصاية على صغير أو سفيه أو مجنون. وبعض الفقهاء يكادون يجعلون المرأة في حكم هؤلاء على رغم من نصوص الشرع القطعية في إثبات ولاية المرأة على نفسها ومالها وأهل بيتها وعلى ما استرعيت إياه . والقرآن جعل مسوؤلية المرأة والرجل سواء بسواء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون ألله)، فأمور الطاعات كلها يتوالى المؤمنون على إنفاذها رجالاً ونساء . وأمور الطاعات تشمل جميع شوؤن الصلاح والإصلاح في الحياة. وأما ما يسميه الفقهاء الولاية الكبرى فهي بتعريف ابن خلدون (حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها)، واعتاد الفقهاء أن يعروفوها بأنها رئاسة عامة في شأن الدين والدنيا وخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإمامة لأمته. ولا شك أن واقع الحال حال الأمة والدار لم يعد يوافق هذا التعريف بل أصبحت الولاية الكبرى هي رئاسة عامة في قطر من أقطار المسلمين. وهي لم تعد ولاية عامة على كل الأمور بعد إعمال مبدأ الفصل بين السلطات وأحياناً إعطاء أمر ممارسة السيادة للبرلمان . وجمهور الفقهاء منعوا ولاية المرأة لهذا المنصب الذي هو الخلافة الكبرى التي لم تعد موجودة، ولكن المنع هذا وجد من خالفه من المتقدمين وإن قل عددهم، فإن ذلك لا يبطل حجتهم فلا تبطل إلا بدليل وبرهان . وحجج المانعين تتلخص في الاحتجاج بآية القوامة (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)، وآية وللرجال عليهن درجة (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)، وآية (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) . ثم حديث أبي بكرة (ما أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة) في شأن تولية ابنة كسرى على الجيوش والملك. وأما الآيات فتقرأ ي سياقها وهي قوامة وولاية ودرجة في إدارة الأسرة على التراضي والتشاور. ولا يجب أن تخرج من سياقها إلى الشأن العام إلا بدليل مستقل. أما حديث أبي بكرة فقد توقف أمامه متوقفون ، لأنه ورد في سياق الجدل حول خروج أم المؤمنين عائشة على رأس حملة الجمل، ولكن أبا بكرة صحابي والصحابة كلهم عدول بيد أن الرواية لا تعدو أن تكون خبراً لا حكماً وهو خبر مقيد بحادثة محددة هي تولية ابنة كسرى شأن الملك إبان الحرب مع الروم ويقابله خبر قرآنى عن امرأة أفلحت في تجنيب قومها الحرب والهلاك وساقتهم بحكمتها ورشدها للإيمان مع النبي سليمان لله رب العالمين ومعلوم أن الأخبار لا تفيد العمل بل تفيد التصديق وأنها لكي تفيد العمل لابد من دليل مستقل يوجب العمل . بيد أن الدكتور الترابي لا يتبع سبيل المهرولين لاتباع سبيل أهل الغرب في تولية النساء المناصب من أجل مساواة النوع وإنما يدعو إلى النظر للنساء كما ينظر للرجال لتولية ذوي الكفاءة والأمانة بغير تفرقة بسبب النوع أو اللون أو الطبقة الاجتماعية. وقد سبق علماء من الأحناف إلى هذا الرأي وسبق إليه الإمام الطبري بإفادة ابن رشد المالكي.
المرأة وولاية القضاء
وأخذوا على الدكتور الترابي إجازته لتولي القضاء مطلقاً على خلاف رأي الجمهوروهم فقهاء الشافعية وغالب فقهاء المالكية والحنابلة وخالف الأحناف باستثناء قضاء الحدود والقصاص. واستدل الفقهاء إلى جانب حديث ما أفلح قوم بأحاديث تثير الاستغراب مثل استدلالهم بحديث يا أبا ذر أني أراك ضعيفاً، فقطعوا أن النساء ضعيفات ولذا لا يجب أن يتولين القضاء وهي حجة داحضة فلئن كان أبا ذر ضعيفاً لا يحتمل الولاية وهو رجل، أفلا يعني أنه يجوز أن توجد أمرأة قوية بين النساء مثلما وجد رجل ضعيف لا يحتمل الولاية بين الرجال، بل الاستدلال هو الضعيف ولم يكن أبو ذر ضعيفاً بل كان قوياً على الحق، ولكنه كان غير مؤهل للولاية لضعف تحقق شروطها فيه، وهذا ما عناه الحديث بالضعف، فالأمر يتعلق بتحقق الشروط في الشخص المرشح للولاية. واستدلوا كذلك بحديث أن المرأة ناقصة عقل ودين، وقد رددنا على هذه الشبهة في مقامها. وخالف الأحناف أصحاب المذاهب فلم يشترطوا الذكورة لتولي القضاء ، قال ابن نُجيم في سياق ذكر شروط القضاة: “وفي الحاكم: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والسمع، والبصر، والنطق، والسلامة عن حد القذف… لا الذكورة، والاجتهاد”، وقال ابن عابدين في شرحه لقول صاحب الدر المختار: “وأهله -أي القضاء- أهل الشهادة: أي أدائها على المسلمين”. قال: “وحاصله أن شروط الشهادة من الإسلام، والبلوغ، والحرية، وعدم العمى، والحد في قذف؛ شروط لصحة توليته، وصحة حكمه بعدها”. فلم يذكر الذكورة من شروط الشهادة، ولا من شروط تولي القضاء. وقال في الهداية: “ويجوز قضاء المرأة في كل شيء، إلا في الحدود والقصاص اعتباراً بشهادتها فيهما”، وقال محمد بن عبد الواحد السيواسي: “ويجوز قضاء المرأة في كل شيء، إلا في الحدود، والقصاص، وقال الأئمة الثلاثة: لا يجوز”. وقال ابن رشد الحفيد المالكي: “وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال”. وأما دليل المجيزين، فهو قياس قضائها على شهادتها، فإذا كانت شهادتها جائزة، فكذا قضاؤها إلا في الحدود، والقصاص، فإن قضاءها فيهما لا يجوز بحسب الأحناف؛ لعدم جواز شهادتها فيهما. قال السيواسي: “وجه جواز قضائها هو أن القضاء من باب الولاية كالشهادة، والمرأة من أهل الشهادة، فتكون من أهل الولاية”، وقال ابن رشد مستدلاً لهم: “ومن أجاز حكمها في الأموال، فتشبيهاً بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذاً في كل شيء (وهو الطبري)، قال: إن الأصل هو أنَّ كل من يتأتى منه الفصل بين الناس، فحكمه جائز.
نواصل
error: Content is protected !!