وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

المكتبة الإلكترونية

“البحر وطنا” قصة “مهاجر سوداني”

بعد صراع شديد، وصبر طويل في القاهرة، والخسائر المتوالية ، قررت الهجرة رغم حبي لبلادي، قررت حزم أمتعتي، والسفر عن طريق البحر لأوروبا، وأعلم تماما أنه الخيار الصعب.
أسافر لابحث عن حياة جديدة، حتي أحقق طموحي، فكل محاولاتي باءت بالفشل، التجارة التي كنت أمني النفس فيها بالأرباح الوفيرة أصبحت خسارتها تزداد بسبب الدولار المتصاعد في كل ساعة في بلادي والغلاء الطاحن، وهيمنة التجار، وحتي اختار السفر المأمون عن طريق الطيران احتاج جواز غير جوازي السوداني الذي اصبح أضحوكة بين الجوازات الاخري، فلا توجد دولة يمكنك السفر اليها الأ عبر فيزا، واجراءات عقيمة وبعد كل ذلك يكون الرفض مؤكدا والقبول نادرا.
واخذت الفكرة مني كل مأخذ، وبدأت التحرك والتدبير، بصورة سرية فأنا موقن برفض جميع من لهم بي صلة واستنكارهم لمخاطرها، ويضعون لك الحواجز المقيدة، ولكني قررت وحددت وجهتي، ونفسي تناجي (الموت واحد والرب واحد).
وكانت وجهتي ميدان (العتبة) تجمع السودانيين، فهو مشهور بسماسرة السفر، سبعة أيام قضيتها في التحري والتقصي والمعرفة حتي وجدت ضآلتي، سمسار معروف، وبدات مباشرة في الاتفاق معه علي (2200) دولار تدفع بعد وصولي لإيطاليا، وسلمت المبلغ لأحد الأخوة، تكون أمانة بطرفه، لحين وصولي، ومن ثم اتصل عليه تلفونيا مبشرا، وهو بدوره التاجر المستأمن يسلم الامانة، للسماسرة تنفيذا للاتفاق.
كان كل شئ يسير علي حسب ما خططت له، وعدت للشقة ، وانا أحمل الاماني الطيبات، والمستقبل الذي أمني به نفسي، وقبل ان ارتاح، اتصل بي السمسار، هنالك باخرة مبحرة، لو جاهز اتحرك علي اسكندرية ، كان كل شئ سريعا، وكنت وحدي، وهذا ما كان يخيفيني، وانا أحزم امتعتي وأفكر، هل أخطر بعضا من اهلي؟، وكان عقلي يقول لي لا لا لن يقبلوا، من الأفضل أن افاجأهم، بعد وصولي ايطاليا اخبرهم، وهذا ما اهتديت اليه، لحظات وكنت في داخل القطار المتحرك لاسكندرية .
كان الهدوء يسود بالقطار، والتفكير يمزقني، هل هذا هو الاختيار الصواب؟ كان يجب ان يكون معي بعض الاصدقاء، نزلت من القطار، اتصلت علي اخي الأصغر مباشرة، وبلا مقدمات شرحت له الوضع ولم أعطه فرصة للمناقشة، فقد قضي الأمر بالنسبة لي، رغم رفض أخي للفكرة، وشعرت بنبرة صوته الحزينة وحاول بقدر ما يملك ان يثنيني عن قراري ولكن هيهات، لقد حسمت أمري وأوصيته بديوني جميعا طالبا ومطلوب، وأن يطلب من اسرتي العفو والعافية، واذا وفقني الله فلن أقصر مع اسرتي، والحياة ما هي الا مغامرة، والأمر بمشيئة من عند الله، وشعرت بحشرجه صوته، ثم صوت بكائه، وقبل أن ينطق بكلمة أخرى ليثنيني، انقطع الاتصال، وكنت اعلم أن رصيدي لايكفي لاكثر من سبع دقائق وهي كافية لشرح ما أود شرحه، حاول عدة مرات الاتصال و لم أرد.
حتي اتصل بي وكيل السمسار المكلف بإيصالي للسفينة المبحرة ووصفت له مكاني، وشكلي، وما هي سوي دقائق وكنا بنقطة اللقاء في محطة (سيدي جابر) البوابة التي تفتح علي مدينة سموحة، كان مصري الجنسية، تبدو من ملامحه شكلية الصعايدة، ويقود حافلة كما نسميها نحن في السودان وهم يطلقون عليه (نصف النقل)، تعرف علي بسرعة، وركبنا سويا وانطلقت السيارة، وانطلق معها تفكيري مرة اخري، لا ادري الي أين يسير بي هو ولا الحياة ؟ ولكنه مشوار طويل، وكانت نصف النقل خالية لا يوجد الا انا وهو، شعرت بالخوف، فهنالك تجار يتاجرون بالأعضاء البشرية، ولكني طردت هذه الفكرة سريعا…
ولكن استبعدت هذا الامر، ساعة والسيارة النصف نقل وهي تخترق الاسفلت، بدون توقف وانا اشاهد المناطق الخلفية لمدينة الاسكندرية ، والملاحات، وكأننا نتوجه، لمطار برج العرب، ولكنه انحرف، واصبحت السيار تخرج من شارع لآخر، حتي وصلنا لمباني مهدمة، تنسمت لفحة من دعاش البحر، وشممت رأئحة المياه فاستبشرت بقرب الشاطئ، وطلب مني انزال راسي، وفعلت، نزل وفتح الباب وطلب مني بسرعة وبهدوء ان أخرج، وأدخل غرفة قديمة وخرجت اعدو بسرعة ودخلت الغرفة الخالية من الشبابيك والأبواب، وعندما وصلت اليها وجدت، مجموعة من الشباب يقبعون في داخل الغرفة يجلسون ارضا في صمت، نهرني بحزم اقعد في الأرض اقعد في الأرض، وجلست ثم سلمت علي الجالسين، فردوا وكانوا خائفين مفزوعين.
حضر احد المصريين، وطلب منا عدم التحرك، بعد ساعة سيبدأون نقلنا لمركب، علينا عدم احداث ضوضاء، او تحرك، كانت الشمس بدأت تغرب، والليل بدأ يحل، جلست بهدوء وتمعنت في الجالسين معي كانوا اكثر من ثلاثين، فيهم جميع الجنسيات، ولكن السودانيين فيهم خمسة او ستة، وذلك من حديثهم الخافت، وحمدت الله اني اخطرت أخي، وتذكرت ان الموبايل كان يجب ان اجعله صامت حتي لا يخلق ضوضاء ففتحه بسرعة، ووجدت الشبكة غير متوفرة، فعرفت اننا بعيدين انقضت الساعة وحضروا اربعة مصريين معهم الذي حضر الينا في اول الامر، وطلبوا منا الاستعداد، كانت الشمس قد غربت تماما، وبدأنا التحرك وهم حولنا بصوت حسيس تجاه البحر، وكانوا يعتمدون علي عيون من اخوانهم المصريين، يتحسسون الطريق وكان الظالم حالكا، حتي وصلنا تل عالي، توقفنا لبرهة حتي تاتي الاشارة علي حسب حديث المصري الذي يسير بجواري، وكان المصريين يرتدون رداء قصير وفنيلة جميعهم، بدأت انفاسي في تصاعد وبدأت احس بالارهاق، وطلبوا منا جميع تجهيز انفسنا فبقية المسافة سنقطعها عدوا”، لم نكن نتحدث كل يحمل في نفسه، الخوف من القبض، عليه، والخوف من الإبحار، وماذا يخبئ لنا القدر؟ حتي اتتنا صفارة الانطلاق، ولم أشعر الا وانا انطلق مع الجميع، واتمعن الارض، حتي لا يصيبني شئ، فالحجار البحرية، متينة، وحادة، ومنذ هبوطنا من التلة شاهدنا البحر، علي بعد الف او اكثر متر، والرمال تغطس بها ارجلنا ونحن نصارع للوصول وكانوا المصريين المرشدين أخف منا واسرع ، وتجد لغتهم الضحلة كالسياط في ظهورنا، احيانا نسمعها واحيانا لا، حتي ظهر لنا القارب ولمست اقدامنا المياه، وكانت ارشاداتهم، الركوب بسرعة وخفة، فأي تاخير يعني القبض علينا وركبت انا بعض سقط كثيرين اثر الموج الذي دفعهم خلفي، وبدا المصريين المرتدين الاردية، يقفذون بكل من لم يستطيع الركوب في ظهر القارب، حتي صعدنا جميع ،واداروا مكنة القارب بسرعة وانطلقنا، وكنا نتزاحم فالقارب لا يسع الا لعشرة، وعند احصائنا اتضح اننا اكثر من ثلاثين، وشق القارب طريقة بعد خمسة دقائق.
أوقف السائق القارب وطالبونا بالقروش المصرية التي نحملها، وبصورة حازمة، لم يكن لدينا فرصة للرفض، كان في محفظتي مائة جنيه مصرية اعطيتها له ، والجميع اخرج ما يملكه، وتحرك بنا القارب ربع ساعة حتي ظهر لنا قارب اخر أكبر من الذي كنا فيه، وبنفس السرعة طالبونا الصعود علي القارب الاخر، ونحن نستجيب ، فمصيرنا أصبح في يد اناس آخرين، ونحمدالله أن حياتنا على الله اعتلينا علي ظهر القارب الآخر، وتوجسنا خيفة ان يكون هذا هو المقصود ولكنهم قالوا ، انهم سيتحركون للسفينة التي يجب ان تنقلنا، اطمئن قلبي، وبدات رحلة المسامرة، مع الشباب الذين كانوا معنا في الغرفة، وحصل بيننا تعارف سريع، والقارب يشق طريقه للمجهول، وكانوا يتواصلون مع بعض بالبوصلة والاتصال عبر اجهزة الثريا، وكانت حقيبتي جواري، او بالأصح أجلس عليها، وصوت موتور القارب لا يجعلنا نسمع صوت بعضنا المسامرة الا اذا صرخت، تحركنا اكثر من ساعة وفعلا ظهرت لنا سفينة كبيرة، أكبر من القارب الثاني، ومن شكلها ظننا، اننا سنكون في قمة الراحة عليها، وعندما تبينت معالمها ، اتضح ان عليها ركاب، المهم وصلنا اليها، والتصق القارب الذي كنا نركب فيه، مع السفينة، ووجوه الركاب السابقين تمعن فينا بالنظر، وطلبوا منا القفز للسفينة الكبيرة، وبدانا واحد تلو الاخر، حتي صعدنا عن آخرنا، وكانت ممتلئة عن اخرها عند صعودنا ومعظم ركابها من المصريين، وجلسنا في الارضية، حتي سمعنا صوت القارب الذي ات بنا بدأ يغادر، وشاهدت ركاب السفينة من خلال الاضواء البسيطة ، والجميع صامت ، خائف مرعوب، وهنالك اربعة او خمسة يقفون لينظموا الركاب، ويمنعوهم من الوقوف، والتحرك، وطلبوا من الصف الامامي تحرك والدخول لثلاجة، لم افهم قصدهم ماذا يقصدون بالثلاجة الا بعد اخبرني احد الذين يجلسوني بقربي بان هذه سفن للصيد وبها ثلاجة لتخزين الاسماك، وحتي تتزن المركب يجب ان تكون الثلاجة ممتلئة، وهذا الطلب ليس اختياري، وتنفيذه اذا لم يتم لن تتحرك المركب، فقام جزء كبيرا ودخلو الي الثلاجة وهي غرفة كبيرة تحت المركب، وطلبوا مني الدخول، وتحركت ببطء وعندما وصلت الي بابها، قالوا المسئول من الثلاجة ان العدد اكتمل، واحمد الله انه اكتمل وهذه هي تصاريف القدر.
عدت وجلست، وكانت الساعة تتجاوز الثامنة او التاسعة ليلا، لقد فقدت الزمن منذ قررت السفر، وبدات افكاري تعود كان يجب ان أتصل باسرتي فردا فردا، واعافيهم فهذه الرحلة، ليس كما توقعت، ولم اتعظ بما سرده لي صديقي (غالب)، وقطع تفكيري الشباب الذين كانوا معنا منذ الغرفة المهجورة، وتجازبنا الحديث من جديد، والحمدلله كانوا قمة الايمان، وكانت الساعة تتحرك ببطء وكأن الزمن لا يسير، والسفينة المزدحمة تسير بهدوء، فسالت احد المنظمين للركاب عن سبب سيرها ببطء فقال لي ان هنالك خمسين راكب سوف تحضرهم احد الزوارق، لتكملة العدد، وكان هذا الامر مفاجئ لي، وللذين يستمعون لحديثه، وعمت الفوضي رافضين لهذا الامر فالسفينة صغيرة، والعدد الذي شاهدته لا يقل عن (350) شخص غير الاطفال، بدا الطاقم يقنعنا بان هذا الامر مصدره المعلم الكبير والخمسين شخص لا ياخذون حيز كبير، وهم حاليا قريبين جدا، ولا يمكن ارجاعهم ليتعرضوا للقبض، وقبلنا صاغرين، كانت الساعة تجاوزت الثانية عشر ليلا، وتوقف، صوت موتور السفينة، وشعرت باصطدام القارب الذي احضر الخمسين المذكورين، وبداوا يصعدون علي ظهر السفينة، وفوجئت كما تفاجأ جميع من في السفينة ان العدد كثير وتجاوز المائة، وعم الهجرج والمرج، بل كانوا (170) شخص، واصبح الجلوس صعب، والجميع يزجر ويصرخ ويئن، لم يهتموا بنا بل انسحب القارب، بسرعة ونحن في صراع شديد بين الجالس والواقف، لم اتحمل هذا الوضع وبدات اصرخ لاحد المنظمين، ولكن صوت الموتور بدا يطغي علي اصواتنا وتحركت السفينة علي عجل، هل يمكننا الصبر لايام علي هذا الوضع؟ فالرحلة اقلها خمسة ايام، ويمكن ان تكون عشرة، كما ان القابعين في الثلاجة بداوا يتضايقون من هتزاز السفينة وحركتها الغريبة ..
كان جميع من على متن السفينة لا يستطيع أن يتنفس ناهيك عمن يتحرك، وحاولوا تصبيرنا بالكلمات الطيبة، ويحفزونا علي التحمل، لم أهتم بهم ووجدت نفسي قريبا” من نهاية السفينة فأعتليت الدرابزين، وتمسكت به جيدا”، وكان الوضع حقيقة صعبا” بكل المقاييس، ومن الأعلي وجدت نفسي أشاهد معظم الموجودين في السفينة الصغيرة، وكانت بها كمية كبيرة من الأسر المصرية والأطفال، رغم الليل الحالك، والأعداد من الأجناس الآخري في وسطهم يشكلون شيئا غريبا”، انفاس، وزفرات، وضحكات، وصراعات، بعيدا” عن العرق، واللون، ولكن من أجل مكان صغير يجلب الراحة، وتستنشق نسمة هواء، وتمنع الحركة، ولا تسمع الأ صوت هدير الماكينة، التي تبعث اليك بعض الدفء، وهي تكابد وتصارع التيار في شق الأمواج، وتصرخ بأعلي صوتها من جراء الحمولة الزائدة .
كل ذلك يدور وحينها كنت في قمة الإرهاق، إن العدد الذي أراه لهؤلاء اللاجيئين يتجاوز الخمسمائة، اذا احصينا الطاقم والأطفال ، كيف يتحمل هؤلاء هذه الرحلة الطويلة ؟؟ وانا مسترسل في افكاري، شعرت بان الذين يجلسون جواري، يكادوا يكسرون أضلعي وانا في جالس في زينة السفينة أو نهايتها، واحاول ان أصبر واتحمل، وقلت مناجيا” نفسي : الحمدلله أنني اخبرت اخي بسفري، واذا قدر لي النجاة، فلابد أن أذبح شكرا” لله.
كانت الساعة تتجاوز الثانية صباحا”، عندما شعرت بألم في بطني وتذكرت انني لم أكل شيئا عدا وجبة الفطور، وقليلا” من التصبيرات، ومنيت النفس بأن يصبح الصباح ربما يكون هنالك وجبة في هذه السفينة الكئيبة، الزمن يمر، والجميع يحاول أن يجد مكانا يتسع ليمد رجليه ، والصراخ بدأ يتعالي ليتفوق علي صوت الماكينة، والكل ضائق لايمكن أن يصبر الناس علي هذه الرحلة الصعبة المملة، والصراخ يزداد علوا”، يبدو أنه من داخل الثلاجة، يحاولون الخروج والمسئولين من سلامة السفينة رفضوا، فلا يوجد مكان لهم علي ظهر المكان، وأذكر انه في اللحظة التي طلبوا مني الدخول اليها كانت رائحة كريهة تنبعث منها، ويسودها ظلام دامس مخيف، كما أنها ضيقة جدا” والعدد الذي بداخلها يتجاوز المائة كما قال المسئول عنها.
بدأت خيوط الليل ترحل وبدأ خيوط النهار تتسرب رويدا رويدا ، وعقارب الساعة تشير الي الرابعة صباحا، والصراع يشتد أمام باب الثلاجة، والجميع يحاول يجد له مكان يتمدد فيه فقد يبست الأرجل من طول الوقوف، وتسمرت الايدي من التشبث بالسفينة، والمسئولين من تنظيم يتشابكون بالأيدي، وبعضهم يحمل قطع خشبية في يده، مانعا” الناس من الوقوف، ولكن الجميع ثار ووقف، فقد تخدرت الأطراف، والصراع اشتد علي آخره.
إيقنت في تلك اللحظة انه الهلاك لا محالة، ورايت في تلك اللحظة ان الكمية الموجودة داخل هذه السفينة اكثر من الاربعمائة وخمسين واذا اضفنا لهم القابعين في الثلاجة سيكون عددهم اكثر من الخمسمائة وخمسين شخصا”.
وانا في المؤخرة شعرت بالمركب تتمايل بصورة مخيفة، والجميع بدأ يصرخ بين مكبر، ومستغفر، كانت الساعة تشير الي الخامسة ونصف اخرجت الموبايل تاكدت من الزمن بسرعة وأغلقته، وادخلته في جيبي، والجميع يصرخ والطاقم يحاول ان يهدئ الركاب، ولكن هيهات، فقد كان القابعين في الثلاجة بداوا يصارعون للخروج، والسفينة تتمايل، وكلما مالت لجهة تحرك الركاب للجهة الاخري، خوفا” من انقلاب السفينة، وهذا ما حدث، لم أشعر سوي بانها تميل حتي بدات المياه تصطدم بجسمي، واضواء وأشخاص، لحظات لا استطيع ان أشرحها، واصوات تعلو وتعلو،
كل شئ اصبح قاتم، لقد انقلبت السفينة …
لقد كانت كل المؤشرات تشير الي حدوث ما أخشاه فقد إنقلبت السفينة، وخفت ان يسقط شئ على راسي فغطست وانا أسبح محاولا” الإبتعاد، ولكني كنت أصطدم بالأرجل والاقدام، والرؤوس، والكل يحاول الخروج من تحت هذه السفينة، وقلت مناجيا” نفسي: أحمد الله مرة واخري اني كنت اجلس في نهاية السفينة، فقذفتني المياه خارجا” بعد دقيقتين وانا تحت السفينة، فسحبت نفس طويل وخرجت وطفا جسمي خارجا، وازداد الصراخ، وملأ صداه اركان البحر، وكأن العالم كله صراخ في هذه اللحظة، وعيوني تتجول في هذا المنظر الغريب الذي يتشابه مع أفلام الرعب الذي شاهدته، وانامشدوها أراقب مايجري، الا وشعرت باحد الأخوة يسحبني الي تحت المياه حاولت جاهدا التخلص منه، كان ممسكا” بي بقوة ولعلها مسكة الخوف، حاولت إنتزاع يديه من ظهري، ولكنها كانت شبيهة بآلة فغطست بعيدا” تحت المياه ، فأطلق قبضته، وسبحت بعيدا عن الجميع الكل يصارع والكل يصرخ، حتي وقفت علي بعد مائة متر ، وكانت أنفاسي تكاد تتوقف، وشاهدت الجميع يصارع للصمود ، حتي الذي لا يجيد السباحة يضرب المياه بيديه، من أجل الحياة، والسفينة بدأت ترحل ببطء نحو القاع وتختفي، رغم ان هنالك اشخاص كانوا يتمسكون بأطرافها، والذين يجيدون السباحة يدورون من حولها، لايجاد شيئا يتمسكون به.
شعرت في تلك اللحظة بالوهن والضعف، وحمدت الله مرات، ومرات اني أجيد السباحة، حتي هذه اللحظة، وأنا علي قيد الحياة واشاهد الذين لا يجيدون السباحة، يختفون في عمق المحيط بعد رحلة معاناة واجتهاد، من أجل النجاة، والذي تحاول تساعده سيغرقك معه، واسوأ ما شاهدته في سبيل البقاء، ان الذين لديهم سترات يهاجمهم الركاب لانتزاعها منهم، فلا يوجد خوف وخجل من الموت.
حينها شاهدت تلك المرأة السودانية، التي عرفتها من ملامحها وتفاصيلها يهاجمها بعض الأشخاص، لينزعوا منها السترة، فيتصدى لهم شاب، ويمنعهم ويسحبها بعيدا عنهم، ويصلح لها السترة التي تمزق جزء منها.
وبدأ الاخوة المصريين في التكبير والتهليل، وجزء آخر يبكي ويصرخ، وحقيقة لم يكن هنالك أمل فقد جلت ببصري في كل الاتجاهات، ولم اشاهد شئ سوي الفضاء، والماء المتسع فنطقت الشهادتين، وايقنتة أن الأجل قد حان، وسألت الله أن يغفر لي، واعدت النظر للجموع التي تسبح من حولي فوجدت افراد الطاقم بعيدين يسبحون علي ظهورهم، وتزكرت انا سباحة الظهر تقلل المجهود، فسبحت بظهري، وكانت هي الأفضل، ويصل الي سمعي أصوات الصراخ، والتهليل، وبين الفينة والآخرى أسمع صراخا “مميزا”مختلفا” بوتيرة، يوحي بغرق شخص جديد، فابتعد منهم لعلي اجد شيئا أتمسك به، وكانت هنالك بعض الاخشاب في السفينة تمسك بها بعض الذين لا يجيدون السباحة، والبعض الآخر يرتدي سترات النجاة وكلنا موزعين في دائرة ضخمة كلنا يخاف من الآخر ان يمسك به ، وكلما تمعنت فيمن حولي يخالجني الخوف، فالعدد الذي صار موجودا” يمكنني أن أحصيه بعيني، وعده على أصابع اليد.
أين كل هؤلاء الذين كانوا معنا في السفينة ؟؟؟ وحينها جال في خاطري دعاء سيدنا يونس عليه السلام وهو ببطن الحوت: (لاالله الا أنت،سبحانك أني كنت من الظالمين)…
كانت السباحة سهلة نوعا ما لكن الخوف، والجوع والهلع، وصراخ الأشخاص حولي، واختفاء شخص بين الفينة والفينة في عمق المحيط كفيل بادخال الرعب والخوف، نقاتل بكل ما اوتينا من اجل البقاء ، تبلدت كل احاسيسنا، حتي صرنا لا نعرف الوقت والزمن، وكلما نشعر بالارهاق والتعب ، نتمسك بخيط الأمل.
لا ندري كم سبحنا في هذه المياه التي لايوجد لها نهاية ، ولا نعلم اي من الاسماك المفترسة التي من الممكن ان نكون وجبتها القادمة، وعندما يراودنا هذا الاحساس تسري في جسدنا الرعشة، أحساس غريب يحمل مجموعة مشاعر المختلطة، الخوف والضعف، والامل، والترقب، ويبقي هنالك امل طالما هنالك رب يحميني، ويبقي الاستغفار، والدعوات الصادقة مربوطة بالتذلل للواحد القهار الأحد الصمد، هي الملاذ والمرتضي.
لا ادري كم سبحنا، وكم من السنوات الطوال قبعنا، في هذا البحر الخضم، ولكني شعرت بالجميع يصرخ ويهتف وكان هنالك شيئا بعيدا” يدنو انه قارب، يظهر كبقعة او سراب، ربما يكون مجرد شيئا يداعب عيوني من أثر الارهاق والتعب، لا انه قارب، وبدا الجميع يصرخ ويلوح، حتي اصبحنا نشاهده عيانا بيانا، يلوح في مرمي عيناي، ولا ولكنه فجاءة غير اتجاهه وغير مساره ، وبدأ يعود من حيث أتى، فصار الجميع يصرخون ويبكون، بحرقة، حتي إختفي من الأفق، وحدثت نفسي: لابد انه لم يشاهدنا، أو خاف من الشرطة المصرية، حتى لايتهم أنه من المهربين، ففضل عدم اقحام نفسه في مشكلة، لم يبقى لي شئ سوي انا أقول اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله لمرات ومرات وأغمضت عيني، مستسلما لمصيري المحتوم.
لقد توسطت الشمس كبد السماء، وهذا يدل ان الساعة تجاوزت الثانية عشر، او انني أهذي، حاولت أن أشغل نفسي بمن حولي واتابعهم لعل وعسي ان يظهر شيئا جديدا”، ولكنهم اصبحوا قلة، وسبحان الله ذاك هو الشاب الذي أنقذ المرأة السودانية، يسبح جوارها لم ييأس، وهي ترتدي السترة ومجموعة من المصريين، يسبحون بالجانب الآخر، وهنالك نسوة ثلاثة متمسكات ببقايا اخشاب السفينة وفي الجانب الآخر سودانيين ايضا يسبحون بعيدا” عن الجميع، والكل متمسك بالحياة، ولا أمل، في شئ يظهر، كان الأخوة المصريين يكبرون، ويهللون، والسودانيين صامتين، كل يعبد ويدعو ربه علي هواه وفطرته، في تلك اللجظات العصيبة.
رقدت علي ظهري مواصلا السباحة متمسكا بعدم الابتعاد منهم، الا بقدر كافي، يجعلني، اشاهدهم ويشاهدوني، حتي شعرت بصرخات من جديد، وايقنت بغرق مجموعة تعبت من السباحة، ولكني تبينت صوت ماكينة ضخمة، نعم أنه صوت ماكينة، حتي أن جسمي بدأ يرتجف، أنه قارب صيد ضخم، وصرخ الجميع الله اكبر، الله اكبر الله اكبر.
وبرزت وجوه أشخاص، كانت تقف علي جوانب القارب لتقذف لنا الحبال، وتدافع الجميع نحو القارب، ولم أشعر بنفسي الا وانا اسقط داخل القارب، وكنت محتاجا” بشدة أن أبكي، بكل ما أوتيت من قوة، فرفضت دموعي أن تنزل، وكأن قلبي تحجر من هول ما رأيت.
فرفعت رأسي لأشاهد البقية الباقية، وهم يصعدون الواحد تلو الاخر، ولم أجد فيهم الستة الذين كانوا معي في المخزن وفي الزورق، ولم اجد سوي ذلك الشاب الذي أنقذ الفتاة ، التي عرفتها بعد ذلك انها محامية تجاوز عمرها العقد الرابع، والشاب الذي انقذها من منطقة أمدرمان، وانا اتابع الجميع بعيوني، ولا استطيع حراكا”.
تم انتشالنا من البحر في الساعة (12:30) ظهرا، سبحنا سبعة ساعات متواصلة، لم نعلم بالزمن ولو كنا نعلم لغرقنا جميعا، وانقذتنا مراكب الصيادين، قالوا انهم أرسلوا ثلاثة اشارات انقاذ للبحرية المصرية ولم تستجيب.
تحركنا عائدين في اتجاه نقطة انطلاقنا، ونحن لا ندري أنفرح بنجاتنا ، أم نحزن علي الذين ضاعت امانيهم امامنا، والتهمهم البحر ولكنها تبقي ارادة المولي، فكان مصيرهم وسط الأمواج غرقى.
تم تسليمنا للبحرية المصرية مباشرة، التي سلمتنا بدورها لقسم الرشيد بالاسكندرية.
كانت محصلتنا النهائية (154) ناجي من اكثر من (500) شخص، اربعة نساء، من ضمنهم المحامية السودانية، واثنان من الارتريات، وصومالية، و(110) من الاخوة المصرية ، و(26) شخصا من السودانيين ، (14) شخصا من الجنسيات الأخري.
وانا الآن (بسجن الرشيد) وجميع من حولي نيام، يغطون في النوم، بينما لايلامس النعاس جفوني، والحقيقة تقال حتي الآن يبدو لي أن ماحدث لنا هو مجرد حلم، أم هو حقيقة ؟؟؟ لا ادري، وحتي المنظمات التي حضرت كان معها اطباء نفسيين للكشف علينا، فهنالك دائما، قوة تحمل لكل انسان، ويبدوا اننا كنا علي حافة الانهيار النفسي، طالبت المنظمات بعدم عودة اللاجيئين الناجيين، ولكن هنالك قوانين مقيدة.
واخيرا” أحمد الله واشكره واتوب اليه، وأحمد الله انني كنت لوحدي ، فهذا السوداني الذي انقذ المحامية فقد خاله، وابن خاله في هذه السفينة، وهو ممدد بجواري، يئن كما تئن الشاة المذبوحة.
اسأل الله للذين استشهدوا أن يتقبلهم الله من بحره الي جناته …
واشكرك جزيلا اخي (غالب) للاصغاء لي صديقك (محمد عزالدين).
(هذه هي جزء من تفاصيل السفينة الاخيرة التي غرقت في منطقة العريش علي الشواطئ المصريه).
نسال الله لشهدائها جنة عرضها السموات والارض.
النهاية…

3 thoughts on ““البحر وطنا” قصة “مهاجر سوداني”

  • محمد الخضر يوسف

    محمد عزالدين ،
    الرجل المناضل والمكافح جدا حمدلله علي سلامتك وحمدلله انك ما زلت بخير
    انها مشيئه الله ، ربنا كاتب ليك انك تسافر وتشوف الموت بعينيك .
    ربنا يحفظك اخي الحبيب اينما كنت .

    Reply
  • الخليفه شوقي الخليفه

    الحمد لله علي سلامتك وربناا اهنييك في دنيتك وان شاء الله تنفتح علييك ابووب الدنيااا بي خيرااا يا اخوووي ♥

    Reply
  • محجوب عمر عبدالله ( جوبا)

    ياخي محمد الحمدالله على كل شيء ربنا كتب ليك عمر جديد
    َ ربنا يمتعك بالصحة والعافية يحقق كل امنيك
    لك التحيات
    محجوب عمر ( جوبا)

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!