إجتلب الدكتور الترابى على نفسه خصوما متعددين وذلك بمنهجه فى المصارحة والمجابهة فى سوح الأفكار. وقليل من هؤلاء الخصوم من تحلى بالنزاهة العلمية ليفحص صدقية الرجل العلمية والفكرية من خلال رؤية كلية لأفكاره، أو مناقشة علمية لمداخلاته، وإنما كانوا إذا إستمعوا إلى فكرةٍ تستغربها أذهانهم هجموا على الفكرة قبل فحصها يستنكرونها ويخطئونها، ثم عرجوا على صاحبها يسفهون علمه وحلمه، بل ربما ذهب بعضهم إلى تفسيقه وتكفيره بما أعتاد الفقهاء الإختلاف حوله. ولم يكن الدكتور الترابى يعير ما يدور حوله من هرج منبت الصلة بالعلم إلتفاتاً فى حياته ولا أحسبه شقياً به بعد مماته. فلئن كان الظلم ظلمات على الظالمين يوم القيامة فهو محو للسيئات ومنح للحسنات للمظلومين يوم العدل الأكبر.
زواج التراضى:
والمثال التوضيحى لما نقول هو ما أثير من ضجيج حول ما ذهبت الأسافير والصحف إلى تسميته زواج التراضى، وكأنها تستهجن أن يكون الزواج على التراضى، وتفضل أن يكون إكراها لأحد طرفيه.ومن أثاروا المسألة إفترضوا أمراً لم يكن فى حسبان الدكتور الترابى عندما إقترح أنه لا يجب أن يحول حائل دون إمضاء إرادة طرفين عاقلين راشدين كفؤين أن يرتبطا برابطة الزواج. والنص يرد فى سياق التنصيص على الحقوق. وهل من حق أكبر من حق إختيار شريك العمر ،بل ربما شريك الدنيا والآخرة . أو لا يعلم هؤلاء أن أهم عقد يعقده المرء أو المرأة فى الحياة هو عقد التساكن والتعايش والتآلف. وهل يفهم هؤلاء إن كل عقد ينعقد إنما باطلاً إذا لم يقم على التراضى، وجرى عقده على إكراه. أو لا يعلمون أن العقد لا يوصف بأنه عقد ما لم يكن هنالك إيجاب وقبول ،وأن يكون الإيجاب حراً ممن يعرض والقبول حراً ممن يقبل، وأن يتوافق الإيجاب والقبول، ويكون ذلك بقبول كل طرف ما أوجبه الطرف الآخر وإلا كان العقد باطلاً برأى الجمهور.ثم أنه لابد من وجود طرفى العقد أو من أوكلاهما فى مجلس العقد، أكان المجلس فعليا أم حكميا. والذى يوكل هو المتعاقد الأصيل، لا وصيه ولا وليه ما لم يكن مجنوناً أو غير بالغ ولا راشد أو سفيهاً محجوراً عليه. ولاشك عندى أن جماعة ممن يتداخلون فى الجدل القائم إنما يرون المرأة فى حكم هؤلاءالسالف ذكرهم.ولايختلف الجمهور فى كون غياب الرضا وظهور الإكراه يجعل العقد باطلاً، ويقول أبو حنيفة يجعله فاسداً. واختلاف العلماء ليس حول أن أمر زواج المرأة ليس بتصرفها الحر ، بل الإختلاف حول حتمية إشراك الولى على قول المالكية والشافعية والحنابلة، وعدم حتمية ذلك عند الأحناف. ومن اشترطوا الولي إستندوا على الحديث “لا نكاح إلا بولي” قد أخرجه ابن حبان والحاكم وأبو داؤود وصححه الألباني. والحديث الآخر إيما إمرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل رواه بعض أصحاب أحمد وأبو داؤود وصححه الألباني.
ولكن من قالوا بوجوبية وفاق الولى لم يجعلوا أمره ملزماً أو مكرهاً لها، أي لم يجبروها ولكنهم اشترطوا قبول الولي، كما اشترطوا قبولها. يقول ابن تيمية “إذا رضيت المرأة رجلا وكان كفوءا لها وجب على وليها أن يزوجها به، فإن عضلها أو امتنع عن تزويجها زوجها الولى الأبعد منه، أو الحاكم بغير إذنه بإتفاق العلماء” فليس للولى أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه، ولا يعضلها أي يمنعها عن نكاح من ترضاه إذا كان كفوءا وذلك بإتفاق الأئمة جميعاً. وهذا يعني أن إرادتها ماضية في كل الأحوال. اما أبن رشد المالكى فقد أعتبر الأمر من مسائل الخلاف ورجح فيها موقف الأحناف الذين لا يشترطون موافقة الولى بل يعطونه حق الإعتراض فى حال عدم كفاءة الزوج ويسع الزوجة حينئذ طلب نصرة المحكمة.
والمسألة التى تغياها التعديل الدستورى هو التأكيد على إمضاء إرادة المرأة والرجل البالغين الراشدين إن رغبا فى الزواج لا يعضلهما عن ذلك أحد. وأما أن يكون أولياؤها حاضرون وغير معترضين فهو ما يكمُل به الزواج ويجمُل. ومقصد الترابى تحريرى فهولايريد للمرأة أن تجبر على ماتكره أو أن تعضل فلا يتاح له أن تتزوج بمن تحب بلا مسوغ سوى تجبر الأولياء وتعسفهم . فقضية حرية الإرادة قضية مركزية لدى الدكتور الترابى، وحرية الارادة عنده شرط لصحة كل عمل دنيوى وأخروى. وكل عمل نشأ على إكراه فهو باطل. وهو يعلم أن الأمة الخاضعة الخانعة لن تكسب مجداً ولن تنال خيرًا . وأمة قد تفرض الخضوع على نصف مكونها غنما هى أمة ذات إعاقة، وكان هدف الدكتور الدكتور الترابى الدائم هو إزالة كل إعاقة فى سبيل النهضة والتقدم.
حديث الذبابة:
ولئن كان موقف الترابى من تحرير المرأة يقف من وراء تعديلاته المقترحة فإن موقفه من تحرير العقل المسلم هو ما أثار الضجة حول قوله عن حديث الذبابة وقد فصلنا فى مقال سابق منهج الترابى فى عدم إعمال الحديث النبوى إذا خالف دليلاً منقولاً أعلى رتبة أو خالف صريح المعلوم من العلم الثابت. لذلك قال أنه يأخذ برأى الطبيب المؤهل العالم فى شأن التعامل مع سقوط الذباب فى إنائه ولا يأخذ بذلك الحديث الصحيح الإسناد برواية البخارى، لأنه يخالف المعلوم الصريح من العلم الثابت. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إنما يتحدث فى أمور الدنيا من صحة وطب وحرف وومهن بالعلم الدنيوى المعروف فى زمانه وكان صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الصواب أن ثبت له الصواب، وهذه الشؤون لاتدخل فى باب الوحى والتشريع. والترابى يستهدى بمنهج مالك فى تقديم العمل على القول. وهو يصنف هذا الحديث من طائفة الاحاديث التى وإن صح سندها فقد خالف عمل سواد المؤمنين الصادقين منطوقها. والترابى له رأى فيما يسميه البعض الطب النبوى فهو يرى أن الأصوب أن يقال الطب فى زمان النبى أو الطب الذى تحدث به النبى بما علم من أمر الطب فى زمانه. فليس من وظيفة النبى صلى الله عليه وسلم أن يكون طبيباً كما ليس من وظيفته أن يكون مهندساُ أو مختصاً بأمور الزراعة أو الصناعة أو شيئا من ذلك. وقد أوضح النبى صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه فى حديث تأبير النخل. وحديث تأبير النخل روى عن طريق عائشة وأنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله وجابر بن عبدالله ورافع بن خديج رضوان الله عليهم جميعا وخرجه مسلم وأحمد وأبن ماجه وأبويعلى وأبن حبان وأبن خزيمة، ولايمارى أحد فى صحة سنده. و حديث عائشة رواه حماد بن سلمة مقرونا مع حديث أنس بن مالكو. كلهم من طريق حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ أَصْوَاتًا، فَقَالَ : ” مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ ؟ “، قَالُوا: النَّخْلُ يَأْبِرُونَهُ، فَقَالَ: ” لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا لَصَلُحَ ذَلِكَ “، فَأَمْسَكُوا، فَلَمْ يَأْبِرُوا عَامَّتَهُ، فَصَارَ شِيصًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ” كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَشَأْنُكُمْ، وَكَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ “، وفي لفظ مسلم:” فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ، قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُم وأصح الرويات هو ما أورده مسلم في صحيحه (2362) ومن طريقه القاضي عياض في الشفا (2/183-184) وابن حبان في صحيحه، و الطبراني في المعجم الكبير (4424 و( كلهم من طريق النضر بن محمد عن عكرمة بن عمار عن أبو النجاشي عطاء بن صهيب مولى رافع عن رافع بن خديج قَالَ: ” قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ، فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ” وهذا لفظ مسلم وهو الأصح. وقد أنقسم أناس كثر حول أنتم أعلم بأمر دنياكم هذا. ففريق حاولوا تضعيف الحديث وهو ما لايمكن له أثباته، ثم حاولوا أن يجعلوا أمر النخل وحده ,امور قليلة أخرى هى المعنية بالحديث، وليس لهم ذلك فكل إرشاد من النبى صلى الله عليه وسلم على غير وجه التشريع من الوحى أو من إجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصدقه الوحى أو أن يوضح النبى صلى الله عليه وسلم أنه من قبيل التشريع لأمته فهو داخل فى الأمور المتروكة للرأى وإجتهاد أولى النظر والفهم السديد. وطائفة أخرى من ذوى التوجه العلمانى حاولوا أدخال أمور كثيرة تدخل فى الأمور التشريعية والتنظيمية اللى دائرة أمور الدنيا سوقاً للأمة إلى علمانية تعطل أحكام الدين وتعاليمه أن تكون فعالة فى حياة الناس، ومكر أولئك معلوم وقد أورد الأمام النووى قولاً فقال فى شرح الحديث (ذلك على سبيل الرأى لا على سبيل التشريع) أى فى أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع، فأما ما قاله صلى الله عليه وسلم باجتهاده ورآه شرعاً فإنه يجب العمل به، وليس إبار النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله. قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً،( يقصدون قوله فى تأبير النخل ) وإنما كان ظناً كمابينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم) ولم يجاوز رأى الدكتور الترابى فى حديث الذبابة ما قال به الإمام النووى قبل قرون.
الجنة والحور العين:
وأما حديث الترابى عن أمور غيبية يريد أن يصحح الفهم حولها فيعود إلى رغبته فى تحرير العقل المسلم من سلطة الإسرائيليات أو الروايات التى لا تتسق مع مع العقل الصريح وفهم الدكتور الترابى للأخبار التى ترد بها الأحاديث عن الجنة أنها كلها ترغيب وانها على سبيل التقريب. لأن حقائق الآخرة وإن كانت مشابهة لحقائق الدنيا فأنها غير مطابقة لها. وأن مايرد من أخبار فى ذلك السياق فهى أشبه بالكناية عن حقائق أخروية يتعسر أن تحيط بها خواطر البشر. وأما الجنتان فهما جنة للإنس وأخرى للجن ومن دونها جنتان أدنى من ذلك واحدة للإنس وأخرى للجن. ثم أنه يقيس كل أخبار السنة على ماورد بالقرآن فى شأن الجنة والنار. وهو يحب أن يزيح عن هذه الأخبار ما اختلقته أخيلة القصاص أو روجته حكايات أهل الكتاب من أخبار لاتوافق المفهوم الظاهر من سياق القران. فتصوير الجنة وكأنها كسل وخمول وطعام وشراب ولذات وصال ونكاح صورة يناهضها الدكتور الترابى. فحياة الناس السعداء من أهل الجنة ليست شراب وطعام ونكاح لسبعين من الحور العين أو يزيد وإنما هى فوق ذلك وأعلى من ذلك كدح الى الله بطلب المعرفة به ومعرفة أكوانه ومعانى الحياة والوجود طلباً لا ينتهى عند حد ولا يكتمل بتحصيل معيار منه أو مقدار. وتلك هى الحياة الحقيقية وهى كذلك الحياة الحقيقية فى الدنيا مثلما هى الحياة الحقيقية فى الأخرة. هى حياة المعانى والقيم وهى لا تحقق الا بتكشف علوم الغيب تدرجاً كسباً وموهبة من الله رب العالمين لعباده المتقربين إليه بذكر أسمائه وصفاته وذكر نعمه وآلائه. وبتدبرهم فى أقواله وأفعاله ومفعولاته. فهى العلامات والآيات الهادية إليه وحقائقها هى التى تملأ النفس بالحسن والجمال وتزينها بكريم الصفات والخصال.
وأما الحور العين واللائى يشار إليهن وكأنهن وسائل إمتاع للرجال ما هن عند الترابى إلا نساء الدنيا المؤمنات الصالحات اللائى سوف ينشأهن الله إنشاء جديداً فيجعلهن عربا أترابا ليكن رفقة لأصحاب اليمين ويكون أصحاب اليمين لهن رفقة, وبعض هؤلاء هم أزواجهن فى الدنيا إن كتب الله لهم وذريتهم إجتماعا فى الجنة. واًالترابى لا يستبعد أن يخلق الله خلقاً جديداً فى الجنة من الناس. سواءً كن أناثاً يكن حورا عيناً او رجالاً يكونون خير أزواج للمؤمنات الصالحات من أهل الجنة. لكن الذى يعنيه أكثر أن يفهم أهل الإيمان أن النساء شقائق الرجال فى الجنة كما هن شقائق الرجال فى الدنيا. وهن يتمتعن بكل ما يتمتع به الرجال فى الجنة من شراب وطعام ونكاح. ولئن ورد فى حديث المعراج أن غالب أهل النار من النساء فإن الترابى يقول أن الحديث إنما ورد فى سياق الوعظ والترهيب ولكن تمام حقيقته التى يغفل عنها أهل التمييز ضد المرأة والتحيز إلى الذكور أن غالب أهل الجنة من النساء أيضاً . فلئن كانوا يتحدثون عن سبعين حورية لكل رجل فكيف يجعل ذلك عدد النساء فى الجنة ؟ ولا يعلم أحد من البشر كم من نساء أهل الارض يدخلن الجنة، فينشأهن الله النشأة الآخرة . وكم من الحور العين يُخلقن فيها خلقاً جديداً. وتمام هذه الحقيقة أن غالب أهل الدنيا على أختلاف العصور هن من النساء. فقد شاءت حكمة الله ورحمته أن يكون ذلك كذلك حتى تستمر الحياة، فنقص النساء أو نقص خصوبتهن ينقص تكاثر الناس على الارض ونقص الرجال أو نقص خصوبة الرجال ليس له ذات الأثر على تكاثر الناس فى هذه الحياة الدنيا فإذا صح أن النساء فى الدنيا أكثر من الرجال فلا عجب أن يكن أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة.
عذاب الأجساد فى القبر:
حديث الدكتور الترابى عن إنتفاء العذاب الحسى فى القبر والذى أثار غضباً ولغطاً وذهب بعض أهل التشدد إلى تكفيره بسببه يقتضينا وقفة لتبينه ونوضح أولاً أن غالب أهل العلم يعلمون أنه لايُكفر أحد بالمجادلة فى أخبار وردت بآحاديث الآحاد فى أمور الغيب الفرعية. لأنها مهما صحت لدى من يصححها فإنها لا تفيد اليقين. إما لأن إسنادها لايقطع الظن تماما لانها ليست من المتواتر أو المشهور، أو لأن متنها ليس من باب النص الذى لا يحتمل تعدد التأويلات. وأما تحفظ الترابى على تلكم النصوص فلأنه يرجح عليها العلم الثابت والمعلوم لديه والمفهوم من ظاهر القرآن. وظاهر القرآن عنده لا يعضد فكرة العذاب الحسى فى القبر، فإفتراض العذاب الحسى يقتضى إفتراض بقاء الجسد وحواسه فى القبر سليمة قادرة على الأحساس. ولكن الإنسان عندما يصير إلى قبره يحيا حياة الروح لا حياة الجسد. فهو ميت فاقد للإحساس، وقد يرم جسده فييصيح رميماً فلا يُتصور أن يبقى منه جلد يحس ليعذب عذاباً حسياً. ولئن كان أهل النار تبدل جلودهم ليذوقوا العذاب فلم يتحدث أحد أن أهل القبور تبدل جلودهم أو تبدل حواسهم ليذوقوا العذاب الحسى فى قبورهم. وقد فشا فى العالم مؤخرا حرق الرفات فهل هذه طريقة للنجاة من عذاب القبر وكيف يكون عذاب ولا قبر ولا مقبور؟
والترابى يؤول الآية فى عذاب آل فرعون (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(71) سورة غافر آية رقم (46 ) بأن ما يعرض على النار هى أرواح آل فرعون. وقوله يوافق قول القرطبى الذى رجح العذاب المعنوى إذ يقول: (الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر)(72) وكذلك تفسير الالإمام الطبرى للآية يؤكد أنه عذاب أرواح لا عذاب أجساد يقول القول فى تأويل قوله تعالى «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»(73)، يقول تعالى مبيناً عن سوء العذاب الذى حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون، ذلك الذى حاق بهم من سوء عذاب الله النار يعرضون عليها أنهم لما هلكوا وأغرقهم الله جعلت أرواحهم فى أجواف طير سود فهى تعرض على النار كل يوم مرتين غدواً وعشياً إلى أن تقوم الساعة، وذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال ثنا عبدالرحمن قال ثنا سفيان عن أبى قيس عن الهذيل بن شرحبيل قال: أرواح آل فرعون فى أجواف طير سود تغدو وتروح على النار، وذلك عرضها.) (74) حدثنا محمد قال ثنا أحمد قال ثنا أسباط عن السدى قال: بلغنى أن أرواح قوم فرعون فى أجواف طير سود تعرض على النار غدواً وعشياً حتى تقوم الساعة(75). قد صحت أحاديث عن عذاب فى القبر منها ما رواه البخاري في كتاب الجنائز “باب الجريدة على القبر”. عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ. فَقَالَ: أَمَا إِنّهُمَا لَيُعَذّبَانِ، وَمَا يُعَذّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنّمِيمَةِ، ثُمّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمّ غَرَزَ فِي كُلّ قَبْرٍ وَاحِدَةٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَعَلّهُ يُخَفّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا أى تيبس الجريدتان. ومنها ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الأذان “باب الدعاء قبل السلام”، عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو في صَلاَتِهِ: “اللّهُمّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ… الحديث. وأما حديث (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر الناس) فحديث ضعيف قال عنه الترمذى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) ومن الاحاديث الصحيحة ما يروى عن أبى هريرة قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعو «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المسيح الدجال» (رواه البخارى ومسلم) فنلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عطف فى دعائه عذاب النار على عذاب القبر والعطف يقتضى المغايرة، بمعنى أن عذاب القبر غير عذاب النار فى الآخرة. وعن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا «اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ونعوذ بك من عذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (رواه مسلم) وكلها لا تفيد عذاباً حسياً فى القبر. والترابى لايُنكر عذاب غير حسى أو ينكرحياة الارواح فى البرذخ فهى ثابتة بنص القرآن. وأرواح الشهداء فى حواصل طير خضر فى الجنة، والقرآن يحكى عن تخاطبهم وأستبشارهم بمن هم خلفهم ألا خوف عليهم ولا خوف يحزنون . وأرواح الكفار تتعذب بآلام النفس والروح وعذاب القلق والخوف فى إنتظار المصير المظلم الذى تبشر به فى حياة البرذخ .
ونزعة الترابى التى تخاصم الخرافة والاسطورة فى الأخبار المتعلقة بمصائر الخلق ومخالفة تلكم الخرافات للمعلوم من ظاهر القرآن أو الثابت من حقائق العلم هى التى أجاءته الى ركوب هذا المركب الصعب، الذى لا شك أنه كان يتوقع أن يثير عليه ثائرة خلق كثير، خاصة وأن تناقل الأقوال لا يجرى مع التدقيق والتحرى فى منطوقها ومقصودها. وإلا فان الحديث حديثه لم يكن حول نفى مطلق العذاب وإنما نفى العذاب الحسى الذى يراه الترابى لا يتوافق من المعلوم الثابت من حقائق العلم. وحديثه عن عذاب القبر شبيه بأحاديثه عن قيامة المسيح التى يقول فيها أن نص القرآن يفيد بوفاة عيسى عليه السلام وفكرة القيامة هى من كلام أهل الكتاب الذى ليس له شاهد من إفادات القرآن. وكذلك حديثه عن المهدى المنتظر الذى ينتظره الشيعة وبعض أهل السنة، والذى يرى فكرته نوعا من الالتفاف حول فكرة ختم النبؤة. وذلك بالحديث عن معصوم ملهم يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا وكأن إستعادة العدل والإنصاف لا تنال إلا بمبعث شبه رسول يطلقون عليه أسم المهدى المنتظر. ومنهج الترابى الذى قد يشتط فيه أحيانا هو منهج التمسك بصريح الحقائق العلمية وترجيحها على أحاديث أحآد لا تفيد اليقين لديه فى أمور الأخبار والنبؤات. وبعض تلكم الاحاديث أقل من ذلك رتبة وأغمض معنى. وهو فى ذلك لم يأت بما يأت به الأولون. ففئام كثير من أهل العلم توقفوا عند بعض الاحاديث لغرابتها بمخالفتها لدليل قرآنى أو سنى أعلى رتبة، أو لانها خالفت صريح المعقول فعلقوها للتأكد من سندها ومتنها. وبعض تلك المعلقات ربما تُعلق إلى يوم القيامة ما لم يُرفع التعارض بينها وبين أدلة النقل الصحيح أو العقل الصريح . ولربما يجوز لمن يأبى رأى الترابى حول هذه المسائل أن يخطئه، أما أن ينُكر عليه أن يتحدث بما يراه صحيحا بما ترجح له من أدلة النقل والعقل فليس له ذلك. ولكن كثيرا من الناس لا يحبون ولا يصدقون من الخبر أو العلم الا معتادهم وأقدار أهل التجديد مثل أقدار الأنبياء وهى أن يروا غرباء حتى يأنس الناس لما يقولون ولو بعد حين.
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!