مطلع التسعينيات أقام الأخ الدكتور زهير حسن بابكر مدير دار النشر بجامعة الخرطوم حينئذٍ، زواجاً وسيماً بهيلتون امتلأ بكل جميل من الناس والورود والأشياء، وكانت ليلة من الليالي الحسان.. ولأن لكل مجلس وحشة فقد دخلت والمكان كثيف «بالمخلوق» والأعين، فأصبحت عيني تبحث عن مرفأ وبطاقتي تبحث عن مقعد بعد أن أدّت واجب التهنئة للعريس النجم والعروسة المليحة، وإذا بصوت دافئ ورخيم يشق الصفوف في همس وتؤدة «هنا يا حبيب القسا».. والعبارة أمدرمانية قحّة، وهي عند أهلها كالشفرة. كان الصوت للبروفيسر الراحل علي المك عليه الرحمة. جلست إليه فرحاً، وكان الرجل لا يبحث عنّي ولكنه كان يبحث عن مستمع ومناكف مثلي.. أي باختصار كان يبحث عن مسرح صغير داخل هذا المسرح الكبير فوجدني ووجدته. القضية التي كانت تشغله يومها.. أغنية خفيفة ساذجة الكلمات حارة الإيقاع ابتدر بها أصحاب الطرب المغنى، واندلق صوته العذب المعبّر هادراً وهامساً في آن واحد.. «بتعرف يا حسين خوجلي أول شاعرة ابتدرت غنا البنات منو؟»..
صمتُّ لبرهة وأجبت: والله يا علي الموضوع دا أنا ما فكّرت فيهو قبل كده؟ فأجاب ساخراً: يا ولد بلا فلسفة معاك قول ما عارف وبس.. شنو قصة ما فكرت فيهو قبل كده دي.. يا عارف يا ما عارف؟
واستغرق في ضحكة مجلجلة كسرت اهتمام الاحتفال بالليلة السعيدة..
قلت له: علي باللّهِ بهداوة!! الناس انتبهت.
التفت يمنةً ويسرة وقال: سيبك ديل كلهم يا من تلاميذي يا من تلميذاتي يا معجبين وأنا ضارب طناش؟ واندفق من جديد في ضحكة فرحة لا مبالية..
أطرق في حزن وأنشد:
اختلست ريحانتي من يدي
أبكي عليها آخر الأبدِ كانت هي الأنس إذا استوحشت نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كان بها مرتعي
ومنهلاً كان بها موردي
«فاكملتها معه»:
كانت يدي كان بها قوتي
فاختلس الدهر يدي من يدي
فعلّق ساخراً: كمان دي برضو حافظة؟!!… خلينا ليكم السياسة مداقْرِننا في الأدب؟! أنا دي أديتها بدري للكُحلي»، وكان يعني أبو داؤود وقلت ليه دا بكاء وشعر المأمون الخليفة علي حبيبته جويرية الراحلة.. عمل منها عبد العزيز مدخل لأجراس المعبد ما كان بغنّيها يا حسين كان ببكيها عديل وأوعى تقول لي داير منها تسجيل.. دي إلياذة.. وما عندك طريقة؛ دي لا عند عثمان النذير ولا عند حسن أبشر الطيب ولا عند منصور بارودي ولا عند الجن الأحمر، دي عند العبد لله وانتهينا..
– بالله يا حسين قلت لي ما فكرت في أول منشد لغنا البنات؟! ويضحك مرة أخرى في تلذُّذ..
طيب بالله انتبه دي محاضرة مضغوطة في الأدب العربي على هامش فرح زهير.. عن إذنك «يا كابتن» ناخد لينا أجر في صحافيي آخر الزمن ديل إمكن إتواضعوا واتذكروا القاعدة الذهبية.. من علّمك حرفاً صرت له عبداً.
طبعاً الكابتن دي إنت بتعرفها؟ أخطر سودانية بتقرأ القصيدة المقفّاة.. وعندها حجّة في الحديث والعلاقات العامة وفي هندسة النفوس، وأنا قلت قبل كده لبنات الجامعة ما تتعبوا وتودّروا فلوس أبواتكم لبس الكابتن دا مش مجرد قماش دا استايل! ويضحك «علي» كأنما كان يتلذّذ بمدحه وقدحه للناس.. الكابتن دي زميلتي وأختي الصغيرة وصديقة أولادي وبيتي وفارسة في الميدان، أنا بقول أختي الصغيرة دي من باب التنازلات لكن نحن أولاد حفرة واحدة، فترد الأستاذة «الكابتن» في أدب: أنا والله لولا إنو المقاطعة ما ظريفة كنت دايرة اعترض علي أختك الصغيرة.. دي من الأصل!!
صرخ المك في صخب: والله يا هو الفضل دايرة تقولي بتّي ولا شنو؟ نحن أولاد أم درمان شهاداتنا أصلية وميلاد قايلانا زي عرب الجزيرة ديل الجايين من القلقالة والشرفة وأم شانق والسيال؟!..
– علي المك يا اخي نحن جايين نستمتع بالمناسبة ونسمع قصة غنا البنات تقوم تهاجمنا وتسخر من الجزيرة؟
– لكن بالله شوف الحبوبة دي الدايرة تبقى بتّي آخر الزمن..
– طيب يا جماعة المسامح الله بريده.. وانا مسامح..
إنت عارف يا حسين إنو عمر الفاروق كانت له حملات تفتيش ليلية منضبطة مش زي بتاعة نميري بتاعكم دا ولا زي كشات الانقاذ الكرّهتنا سهر الشوق والعيون الجميلة. المهم «أبو عاصم» «وكان يعني سيدنا عمر والد عاصم وعبدالله»، سمع المتمنية وهي تنشد ليلاً:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج
تنمّيه أعراق صدقٍ حين تنسبه
أخي وفاء عن المكروب فرّاج
بالله يا حسين شوف البت دي فنانة كيف؟! فقلت مقاطعاً: فنانة شنو يا علي يا اخي دي بتتمنّى في كاس خمر لتشربها..
ما هو دا سبب خلافنا معاكم يا حسين.. الخمر صحي حرام.. لكن النَص دا ما لازم تضعوه في سياقو الخمر دي ما كانت سلوك اجتماعي عربي. إنت يا حسين ما عرفت لما التحريم المتدرج قطع بالحرمة ملأت الخمور شوارع المدينة؟.. عليّ اليمين يا حسين قالوا الريحة كانت ضاربة سنة… وجلجلت الضحكة إياها من جديد: بعدين البت دي ما منحرفة يا حسين؛ البت دي مُحبّة يا اخي.. دي لو ما مُحبة كانت بتقول..
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل
سهل المحيا كريم غير ملجاج
تنمّيه أعراق صدق حين تنسبه
أخي وفاء عن المكروب فراج
ورّيني يا حسين صفة واحدة حسيّة في الشعر دا؟.. دي بت بتتكلم عن سجايا عند ولد ود قبايل.. والخمر هنا رمز فنّي ابتداري.
تقوموا تحلقوا ليه على الزيرو تلقوهو علي الزيرو ابّهى تقوموا تنفوهوا الى صحراء البصرة..
يا بروف يا اخي إنت جنيت؟!.. ديل ما نحن. دا عمر بن الخطاب؟
صمت قليلاً.. لا أنا الحقيقة مع احترامي لسيدي الفاروق واجتهاداته لكن بفتكر إنو الاجتهاد دا ظاهري جداً!!..
قلت له: ولكن كان لسيدي عمر رضي الله عنه إجتهاده الرصين وتبريره وحجّته حين قال: لا أرى معي بالمدينة رجلاً تهتف به العواتق في خدورهن».. هرب وقال: أنا والله يا حسين عاجبني الوصف بتاع ثمرات الأوراق جداً: «فلما أخذ شعره خرج من عنده وجنتان كأنهما شقّتا قمر. فقال له اعتم فالزمه العمامة فافتتن النساء بعينيه»..
وكانت مرافعته: ما ذنبي؟ وقال له عمر: لا تساكنني في بلدة أنا فيها. ثم سيّره إلى البصرة وحين صارت القضية قضية الساعة أطلقت المتمنية أبياتها الأخرى متشفّعة:
قل للإمام الذي تخشى بوادره
مالي وللخمر أو نصر بن حجاجِ
لا تجعل الظن حقاً أن تبيّنه
إن السبيل سبيل الخائف الراجي
إن الهوي زُمّ بالتقوى فتحبسه
حتى يُقرُّ بإلجام وإسراجِ
فلما قرأت الأبيات على عمر بكى وقال: «الحمد لله الذي زمّ الهوي بالتقوى».
وصاح علي المك بعد أن قرأت عليه الأبيات: تعرف يا ود خوجلي؛ الفاروق بكى هنا ليه؟ قلت: بكى لجمال صدق العبارة «الذي زمّ الهوي بالتقوى» فقال: دا الظاهر يا ظاهري، لكن الأصل إنه عمر بن الخطاب ذاتو كان حنين ودميعاتو قريبة.. إنت يا حسين قايل الدموع دي بتجي بالساهل؟!
وفي معلومة مهمة يا خونا العامل فيها صحفي وفقيه وشاعر ومؤرخ لازم تعرف إنو سيدنا عمر كان شاعر والمتمنية كانت شاعرة ونصر بن حجاج ذاتو كان شاعر «يعني اولاد قبيلة إبداعية».
وأضاف: في موقف تاني خطير يعبّر عن «حقوق الإنسان»، وتلفّت هامساً: كمان إقوم إجونا بتوع الأشباح ديل يقصّروا أجلنا..
لكن إنت يا علي العملوه أصحابك في الانقاذيين والانقاذ شوية؟
يا حسين يا اخوي بالله سيبنا من سيرة الحرابة والسياسة دي.. وأضاف قائلاً: أم نصر بن حجاج يوم حاصرت الخليفة في الشارع العام وقالت بحجّة بارعة ما في زول اعترضها.. ما في أمن.. ما في كجر.. وما في بوليس سري، عديل قالتا ليهو:
قالت: يا أمير المؤمنين والله لأقفن أنا وأنت بين يدي الله تعالى وليحاسبنّك الله أيَبيتّن عبدالله وعاصم إلى جنبك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية؟
– كلام زي الرصاص يا حسين.. إنتو ما تنكروا؟
وإنت طبعاً عارف رد الخليفة:
«إن ابنيَّ لم تهتف بهما العواتق في خدورهن..»
تعرف يا حسين.. أنا مرة كلّمت بالقصة دي الهادي نصر الدين ظريف ود نوباوي.. ضحِك ضحِك داير إموت، وقال لي: نحن ما عندنا اعتراض علي قرارات سيدنا عمر لكن برضو كان ينفي« الشينين» لأنو الضرر والاذية من ديل أبلغ وأخطر..
وضجَّ البروفيسربالضحك حتى توقفت وتسمّرت أعين الصفوف الأخيرة علينا.. واستمر علي المك يحكي في درسه الدرامي قائلاً: لكن عجبتني رسالة نصر بن حجاج التي أرسلها من البصرة للخليفة.. الود دا يا حسين فنان وظريف لكن انتو ما سمعتوا كلامي دا.. تعرف قال جدل خطير ومؤثر.. نصر بن حجاج يا حسين «أريتو ود السرور والعظمة»، وقرأ أبياته بطريقة حالمة:
لعمري لئن سيّرْتَني أو حرمتني
وما نلتَ من عرضي عليك حرامُ
فأصبحتُ منفيّاً على غير ريبةٍ
وقد كان لي بالمكّتين مقامُ
لئن غنّت الزلفاء يوماً بمُنية
وبعض أمانيّ النساء غرامُ
ظننتَ بي الظنَّ الذي ليس بعده
بقاءٌ ومالي جرمة فأُلامُ
فيمنعني مما تقول تكرُّمي
وآباء صدقٍ سالفون كرامُ
ويمنعها مما تقول صَلاتُها
وحال لها في قومها وصيامُ
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي
قد جبّ منّي كاهل وسنامُ..
وقرأها علي المك ثانية بتأثُّر
ولحظت أنه أدمع خلسة!! فنزل على الجلسة صمت مفاجئ ومخيف.. وواصل قائلاً: تمنيت من حبّي للفاروق بعد هذه المرافعة لو أطلق سراحه ولكنه لم يفعل.. ومسح أدمعه بمنديل أزرق شفيف..
قلت ممازحاً لأقطع رهبة الدمع: هل هو حبّك لعمر أم حبّك لنصر بن حجاج؟ ابتسم وقال: مسألة احترام الرأي الآخر مهمة يا حسين والتقديرات..
قلت له: لكن يا علي.. إنت عارف أن الفاروق رضي الله عنه قرر من ناحية مبدئية وكل هذه الأحداث اللاحقة من اعتذار البنت وشكوى أمه وترجّيه بالعودة كانت في الحسبان..؟ ولا تنسى يا بروف أن سيدنا عمر طبق عليه فلسفة البدائل الاجتماعية؛ أقطعه داراً بالبصرة ومحلاً بالسوق. فضحك البروف: يعني يا حسين بنات البصرة ديل ما بشوفَن؟!!
وضحكنا طويلاً لإلتفاتته الموحية.. – لكن يا حسين إنت ما عارف نهاية القصة التي رواها ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأثر – أيوه كلهم بنعرفهم ابن الجوزي.. ابن القيم والشوكاني والصنعاني، عشان ما تفتكروا إنو التراث دا حكر على السلفيين وحدهم.
قال ابن الجوزي: «فلما مات عمر ركب نصر راحلته وتوجه نحو المدينة» وضحك علي المك في فرح يشابه فرح الأطفال:
دا يا حسين لا استنى تعيين الخليفة الجديد ولا إلغاء القوانين الاستثنائية ولا مكاتبة المركز للإقليم.. ولا وضع الدستور الجديد في «الغازيتة» ولا نشرة تلاتة «نشرة تلاتة كان نميري يصدر فيها قراراته المهمة»..
< تتصوّر يا حسين طوالي دوّر والي البصرة ما ودّعوا..
يا حسين.. أنا ياما قلت العشاق والشعراء والظرفاء والفنانين ما دايرين إذن ولا دايرين قوانين لكن إنتو بتسمعوا.. علي كيفكم ما المكتولة ما بتسمع الصايحة.. «فاصل من الضحك».
طيب يا علي.. غنا البنات وينو؟
إنت يا حسين مالك ما كنت لماح
ما من اليوم داك البصموا فيهو اسم نصر بن الحجاج دور التمتم في بلاد السودان يا والدة خلّيني الكباشي راجيني – ووين يا ناس وينو السر عباس وينو والبلال والدقلاش والمشلخ تي وحمادة دا، وتلفّت يمنةً ويسرة «ما يقوم كمان ختمي متهور إسمعني!» وضحك مجلجلاً من جديد: بالله يا حسين مش دي قراية جديدة للتراث.. وانا عليّ الطلاق لو ما قراركم الحاقد دا بإيقاف بيوت اللعبة الساعة حداشر كنت سلّمتك التاريخ الإسلامي دا من السقيفة لحدّة ما انقدّت محل رهيفة.. ونهضنا وتناثر الناس وحفلة العرس انقضت… وبقى في الوجدان بقية عطر وأعين فاترة ونجيمات ساهرة وذكريات وسلامات السودانيين الوسيمة عند الوداع. وبقي فينا علي المك بكل ما فيه من قلق السوداني ونُبله وتمرُّده ومواهبه. وبقيت الحكاية التي تحتاج لتدبُّر بكل ما في أحشائها من سياسة وفكر ومؤانسة واجتماع ومعايشة وفلسفة وفقه واجتهاد..
وأخيراً هل عرفتم أعزائي القراء متى ستصدر الخرطوم فُرمانها الجديد، ومتى سيركب فُلان راحلته نحو المدينة.
error: Content is protected !!