وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. أمين حسن عمر

“المتهوم” .. دفاع عن د. الترابى (1) … “د. أمين حسن عمر”

تجىء الذكرى الأولى لوفاة الدكتور وموسم جديد من كيل الإتهامات للدكتور الترابى هذه المرة بعد رحيله، وبمناسبة التعديلات الدستورية التى إقترحها حزبه بناء على مقترحات تقدم بها فى حياته. والترابى كان وما يزال أكثر من تعرض للإتهامات الظالمة والتخرصات التى تصمه بما هو منه براء. كنت أجلس إلى جانب أحد البروفسيرات  فسألنى لماذا يستخدم الترابى هذه اللغة الركيكة فيقول المتهوم ولا يقول المتهم وما لا يعلمه هذا الإستاذ الجامعى أن للدكتور الترابى معجمه الذى يتخيره بدقة للتعبير عن أفكاره فاللغة غير المحكمة لا تعين عن إنتاج أفكار محكمة. قلت لجارى إن ما يسميه لغة ركيكة هى لغة صارمة الإحكام فالفرق بين الكلمة الرائجة التى هى المتهم والمفردة التى إستخدمها الدكتور الترابى هى أن الأولى كلمة لا تتوافق مع معنى أن الشخص برىء حتى تثبت الجريرة التى جرها على نفسه عليه، الفرق بين المتهم والمتهوم أن الأولى تجعل الإتهام صفة للشخص بينما الثانية إسم مفعول تجعله محلا للإتهام لا موصوفا به ولدى الترابى ان التدقيق فى التعبير نوع من إنصاف المتهوم.
الترابى…المتهوم بلا بينة:
لاعجب إن تساق التهم لدعاة التغيير والتجديد فالحفاظ على الأمر الواقع هو دأب الملأ السياسى والعلمى والثقافى والإقتصادى. لذلك فإن كل نبى متهوم بأنه مجنون أو هو ساحر او ماكر. وكل مجدد متهوم بأنه مبتدع مضل وربما خارج عن الملة. لذلك كان الدكتور الترابى المتهوم الأكبر بكل جريرة وكل كبيرة. ذلك لما حدث نفسه أن ينذرها لتغيير حال الأمة الذى لا يسر إلا الحاسد أو الغافل. والترابى داعية للتجديد جرىء قل نظراؤه من حيث الجرأة بالصدع جهرا بالمسكوت عنه. فهو يعلم أن جراح الأمة الغائرة لايرجى لها شفاء إلا بشقها بمبضع نطاسى حذق، وأنه مهما كان الألم فإن عاقبة الأمر هى العافية والمعافاة. لذلك دعا الدكتور الترابى دائما لهذه الجراحات الفكرية والتشريح والتساؤلات التى تقض مضاجع فئام كثير من الصالحين الغافلين أو أولئك الذين همهم الأكبر هو أن ينالوا بين الناس علوا بالمال وبالجاه وبالعلم المدعى، وقد أثارت دعوة د. الترابى لهذه المراجعات العميقة والدقيقة فى الفقه الاسلامى الدارج بين الناس بقصد تجديده وتفعيل أثره فى حياة الناس جدلاً كثيفا حولها. ومرجع الجدال الكثير إلى سوء فهم معنى الدعوة ومغزاها، فقد صورها البعض محاولة لتأصيل الحداثة الغربية بإلباسها لبوسا إسلامياً ورآها أناس آخرون نوعاً من التعالى على التراث الاسلامى فى الفقه وأعتباره تركة بالية لاتصلح للإنتفاع بها فى عصرنا المتسارع الإيقاع، وبينما طمع آخرون من دعاة القطيعة الحداثوية مع التراث أن تشكل وجهاً قابلا للتسويق لتجاوز الفقه القديم وتأسيس فقه جديد على ذات الأسس التى قامت عليها النهضات التشريعية الوضعية فى الغرب. بيد أن كل هذه الرؤى مفارقة لواقع حال دعوة الدكتور الترابى والتى لن يفهمها المرء حق فهمها إلا وقد فهم منطلقات  الدكتور الترابى لإطلاق هذه الدعوة. وأول منطلقات هذه الدعوة هى الحاجة لإحياء أثر الفقه فى حياة المسلمين المعاصرة، فقد تحول الفقه الى علم نظرى تضمه دفات الكتب ويتضاءل أثره يوما بعد يوم فى حياة الناس المعتادة. ولما كان الدكتور الترابى أحد زعماء حركة الدعوة لتجديد بعث الاسلام فى حياة الناس العامة والخاصة أصبحت واحدة من عظائم همومه هى إعادة تفهيم الفقه للعامة والخاصة بالوجه الذى يرآه الناس حلاً عملياً لملابسات حياتهم اليومية الخاصة والعامة. وإعادة تفهيم الفقه لاتعانى معالجة مشكلة اللغة الإصطلاحية الفقهية التى ما عاد يفهمه إلا خاصة الخاصة فحسب بل أيضا تتجشم  عبء إعادة صياغة الخطاب الفقهى ليأخذ بالإعتبار كل مشمولات السياق الإجتماعى والحضارى المعاصر بمعنى أن يخاطب الناس بمفردات الأشياء والأحداث التى يعهدونها فيعرفون مغزاها. وأن ترتب الأولويات فى ذلك الخطاب حسب حاجات الوقت والمحل ومقتضى الحال. وان يكون الفقه قادرا على تقديم الإجابات التى يفهمها العقل المعاصر للإشكالات النظرية وللمشكلات العملية.
يقول الدكتور الترابى (أن الأصول الوضعية إنما تتغذي من المادة الاجتهادية التي ينبغي أن تتوافر بين يدي  شوري المسلمين علي أمرهم العام بل أن الاجتهاد الفقهي ربما كان شرطا سابقا لتأسيس تلك الأصول لأن الدعوة إلى إقامة نظام إسلامي في الحياة العامة يتوقف نجاحها إلى حد ما علي عرض مشروعات فقهية وافية يطمئن بها جمهور المسلمين إلى حق دينه وجدواه العملية فتتجه أرادته الغلابة إلي الالتزام بأحكام الشرع تطبيقا في شئونهم الخاصة ثم إلي تأسيس النظام الإسلامي علي صعيد الدولة بعد أن كانت تشوش عليهم الريب والشبهات وتقعده غفلة الجهل وحيرته) فمعنى تجديد الفقه لدى الترابى هو ذات معنى بعث الاسلام من جديد فى حياة المسلمين التى أبعدت النجعة عنه فى غالب تفاصيل تلك الحياة الخاصة والعامة. ولينظر الناظر الى مطعمه وملبسه ومسكنه ومعاشه ومكاسبه وتعاملاته ولينظر الى ماتحمله عليه الدولة من إختيارات وسياسات وليحكم من بعد ذلك إلى اى مدى هو قريب أم بعيد من الحياة الإسلامية الحقة؟ ومن أعتقد أن ذلك سوف يتغير لو تركنا كل  أمر محدث ورجعنا الى الفهم القديم لطرائق الحياة بزعم أنه الطريقة الاسلامية فسوف ينصرف جمهور المسلمين عن ذلك بسبب المشقات التى سوف يدخلهم فيها ذلك الضرب من التفكير. ولعل الله أراد لنا أن نرى صوراً منه فى مايسمى بدولة الخلافة الآن فى العراق وفى الشام وكيف أدى قصور الفهم إلى سلوك سبيل عسير على الناس أن يتبعوه ثم ساقهم الى عنف وتوحش مخالف لجوهر الطريقة الاسلامية التى هى الرحمة والرأفة والرفق. وقد ولد الترابي وعاش في عصر ضعف وإستضعاف الأمة الإسلامية بعد أن كانت ولقرون تعد على الأصابع هي الأمة الغالبة. وقد آمن الترابي أن ما وقع على الامة من عدوان وإستضعاف هو نتاج كسب اياديها بعد أن تراجعت الفكرة وخارت الهمة، وانحلت الروابط. وسبب ذلك كله عند الدكتور الترابي هو التباعد عن الفكرة المركزية فكرة التوحيد. فالتوحيد هو استجاشة فكر الإنسان ليكون في حالة نشاط فكري مستمر وذلك هو الاجتهاد.
والتوحيد هو استجاشة إرادة الإنسان ليكون في حالة وعي مستمر يحفز مشيئته على الاستقامة على الفكرة . ومجابهة الركون للكسل المستعاذ منه، وللدعة والترف والسرف، وتلكم هي المجاهدة. والتوحيد هو استجاشة همة النفس لتتوحد النفوس جميعاً على همة واحدة هي الدعوة للإرتقاء بالأنفس والجماعات إلى مقام الإنسانية القائدة والشاهدة على الأمم و ذلكم هو الجهاد.
ولذلك نقول لمن لم يفهم لماذا يثير الترابى كل هذه الأعاصير الفكرية والكلامية، إن ما تسمونه أعاصير هى الرياح التى تحمل الغيوث التى سوف تسقى الأرض وتنبت الزرع وبها يزهو الحرث ويكثر النسل. أن أفكار الترابى ليست تهويمات منبتة عن ما يريده للأمة من نهضة وتقدم وإنطلاق.
الغارة على الترابىء منشؤها سوء الفهم:
والهجوم والتهجم على الدكتور الترابى منشأ غالبه من سوء الفهم وغير قليل من سوء النية والطوية ولكن خطابنا يتوجه لمن أساءوا الفهم أما من أساءوا النية فموعدهم يوم تبلى فيه السرائر. وعندما نتحدث عن الفهم فنحن نتحدث عن الفقه لأن الفقه هو الفهم العميق الدقيق لحقائق الأمور والأشياء. والفقه لدى الترابي هو الفهم. وأول ذلك فهم الإنسان لما هو عليه من حال وأوضاع متغيرة ومتحولة ومتبدلة، لأن النظر في الحال هو إبتدأ الأمر. وهو الوعي الذي هو مقابل الغيبة والغيبوبة. وهو المعاش مقابل السبات، وهو الصحوة مقابل الغفوة. فغير العاقل ما هو بمكلف بشيء من تكاليف الدنيا أو الآخرة. فلحظة الوعي هي مبتدأ لحظة التكليف. لذلك فإن الوعي الفكري للإنسان هو الهداية الأولى وقد أوكل الإنسان الأول إليه عندما أنزل إلى الأرض. “قلنا أهبطوا منها جميعاً فاما يأتينكم منى هدى ممن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” فقد أنزل الإنسان ليهتدي بفطرته وعقله. ووكل إليهما حتى إذا خذلته الفطرة وخذله العقل وأجاءاه إلى سبيل الضلال، جاءه الهدى المتنزل وحياً من السماء ليعيده إلى السبيل القويم والصراط المستقيم. ولا يزال الإنسان موكلُ إلى عقله وفطرته ليدرك  ماهية الحال التي هو عليها. ومن ثم ينظر في هدى السماء المتنزل عليه لا كتاباً يقُرأ فحسب بل قدوة انسانية عملية متمثلة في الرسول المرسل صلى الله عليه وسلم. فالرسول ليس محض حامل رسالة فحسب بل هو شاهد وشهيد. هو شاهد على إن معرفة مراد الله وحياً وكسباً بالامكان. وهو شهيد على ان الاستقامة على مراد الله الذي يهدي إليه الوحي والعقل بالامكان. وأن الجهاد ليكون مراد الله هو الكلمة العليا الحاكمة بين الناس هو ايضاً بالامكان. لذلك فان الفقه هو الفهم للحال وما يناسبه من هداية متنزلة متمثلة في الكتاب المنير، أو هي هداية تُهدى إليه من معرفة حال السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم المتبدية في سمته وحاله وسيرته وسنته.
ولئن كان الأمر كذلك فلا عجب أن عصر الركود الفكري الفقهي كان منزلقاً للانحدار الحضاري والتخلف الإنساني. ذلكم الذي آض بالأمة إلى ما هي عليه من استضعاف واستتباع. فالضعيف تابعٌ ولا غرو والقوى متبوع يلا شك. وبذلك يفسر دكتور الترابي ظاهرتا الاستباع والاستعمار التين خضع لهما العالم الإسلامي. وهو يدرك أن تغيير الحال لا يكون إلا بتغيير الباطن. ما يعنى تغيير طرائق التفكير لإعادة الأنفس من غفوتها إلى صحوتها، ومن ضلالها إلى وعيها المتجدد المتعاظم. ولن يتحقق ذلك إلا بالفكرة المركزية القرآنية التوحيدية. وأقرأ ان شئت خطابه سبحانه إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم “إلم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى” أي وجدك في حال الضعف والاستضعاف فآواك وجعل لك ملجُاً ومعاذاً. ووجدك في حال حيرة العقل وضباب الوجهة والقبلة فهداك إلى مقاصدك. ووجدك قليل الحيلة لا تغني نفسك عن نفسك شيئاً فأغناك عن من سواك. وهذا هو حال الأمة اليوم ضعيفة مستضعفة وملجأها ومعاذها في القرآن. وحائرة ضالة وهداها في القرآن. وقليلة الحيلة واهنة القوى وقوتها وبأسها من القرآن. والقرآن هو كتاب التوحيد، توحيد العابد والمعبود. فالأمة العابدة أمة واحدة بما تقرأ من الكتاب وما تدرس. ومصدرها للهداية رب واحد وكتاب واحد ودين واحد لا تفرقه المذاهب ولا تتشعب به الآراء والمقاصد.
آراء الترابى الفقهية :
وآراء الترابى الفقهية هى محاولة لصياغة فكرة كلية منطقية عقلانية للدين والحياة لا يتصادم فيها صحيح المنقول مع صريح المعقول. ولا يشيح فيها المرء نظره عن ما يبدو له غير متناسق وغير منطقى أو أن يلجأ لتوفيقات وتلفيقات يأبأها العقل الفاحص والمنطق السليم. وصحيح المنقول قرآنا وسنة لا يتصادم ولا يتناقض مع بعضه البعض ولا يصادم ولا يناقض العقل الصريح.
ومنهج الترابى فى فهم القرآن منهج توحيدى لا تجزئى يراه أبعاضا قد تتضارب وتتناقض وفهم للسنة الصحيحة كذلك. ولئن كان منهج الدكتور الترابي في تدبر القرآن منهجاً توحيدياً، فمنهجه في فهم السنة النبوية هو ذات المنهج التوحيدي. فالترابي يوحد بين الكتاب والسنة ويراهما في سياق واحد. ويوحد بين القرآن والنبي المرسل فهو صلى الله عليه وسلم كان القرآن في نطقه وصمته وفي خلقه وسمته. كان ربانياً قرآنياً وكانت سنته هي الحكمة التي تنزل القرآن منازله الصحيحة. فكل آية في نصابها وكل معنى يُساق إلى مراد الخالق الشارع سبحانه وتعالى. ولئن كان التدبر التوحيدي هو منهج الترابي في فهم القرآن، فهو ذاته منهجه في فهم الطريقة القرآنية المحمدية ، حديثاً وسنة وسيرة. وكل ذلك موحدٌ في حياة النبي التي لا يجوز لنا أن نبصر بها أبعاضا، فنسمعها أقوالاً لا ننسبها للأعمال، ونراها أعمالاً لا ننسبها إلى نهجه في الحياة الخاصة والعامة. لذلك فالترابى نقاد للحديث بعقله فلا يكفى الإسناد الصحيح إن لم يسلم الحديث من معارضة الدليل القرآنى والسنى الكلى أو الأعلى رتبة.
ومنهج د. الترابي في النظر إلى الأحاديث المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو النظر إليها من خلال درجات الصحة والضعف التي إعتمدها علماء الحديث وكذلك من حيث إنسجام دلالة المتن مع مفهومات القرآن أو السنة التى تكون أعلى رتبة من حيث سندها أو رسوخ معناها فى أصول الدين. وهو يبجل علم الحديث ولا يقدسه. فهو يعلم أن تلكم الأحاديث في جملتها ( قد تعرضت للنسيان والخطأ والهوى في تسجيل التاريخ مهما امتازت بدرجة ضبط منهجي فريد، وذلك إبتلاء من الله لنجتهد في تعرف عهد التنزيل ثم نجتهد في الإستغناء بالقرآن فيما غاب عنا من آثار تلك الحياة.)
والترابي يشدد على علوية القرآن ومرجعيته للسنة فى تحقيق درجة صحة سندها ومتنها. وهو في ذلك تابع لصاحب المذهب السائد في السودان (الإمام مالك بن أنس) الذي كان من منهجه التشدد في التوفيق بين معاني القرآن ومقررات السنة. وكذلك توافق السنة مع العمل الدارج في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والإمام مالك من السابقين الأولين في تدوين الحديث في الموطأ الذي اشتمل على آلاف الأحاديث في نسخته الأولى. ثم ما لبث أن راجعها الأمام مالك ليستبقى منها ما ينوف على الألف بقليل. ولم تكن  مراجعات مالك للأحاديث التي دونها بسبب رأيه في إسنادها فحسب بل استبعد طائفة منها ووو لعمل أهل المدينة أو لإختلاف معناها عن المعنى المفهوم من القرآن. وكان من المعلوم عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه يروى بعض أحاديث الآحاد ويدونها لكنه لا يعمل بها، وقد يفتي بخلافها. وهو الأمر الذى  قاده لخلافه الشهير مع تلميذه الشافعي الذي يقر له بالأستاذيه ويقول عن كتابه الموطأ:
“ما كتاب بعد كتاب الله أنفع من موطأ مالك رضى الله عنه”. لكنه لا يمتنع عن إنتقاده في كتاب إختلاف مالك فيقول: لا يجوز إذا كانت السنة حجة على قول من تركها ألا يوافقها إلا ألا تكون كذلك أبداً ولا يجوز هذا القول المختلط المتناقض ( فهو يأخذ على مالك تركه للعمل ببعض الأحاديث رغم أقراره بحجية السنة ). ورغم شدة هذا الإنتقاد فقد فات على الإمام الشافعي أن منهج مالك رضي الله عنه لم يكن متعارضاً ولا متناقضاً، بل هو منهج رد التعارض بين دليلين ثم الترجيح بين معنى ورد في القرآن ومعنى ورد في السنة وبين معنى عمل به، سواد أهل المدينة وهم على ما هم عليه من حرص على الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين حديث رواه الأحاد من الرجال وإن كانوا أهل ثقة وضبط، فإنما الثقة والضبط في كل إنسان يكون بمقدار ويرجح على تلكم الثقة  الثقة الأكبرفي صريح القرآن أو عمل سواد أهل المدينة.  ولم يكن عدم أخذ مالك بالحديث وإن صح عنده وصح من بعده لدى أهل الصحاح إستهانة بالحديث وإنما هو إعلاء القرآن على السنة والعمل على الرواية.
فالفقه هو فهم الحديث في سياقه. وقد يكون من روى الحديث قد رواه بما تبدى له من معنى، وهو يتلقاه سماعاً. ولكن عموم أهل المدينة قد عرفوا مُراد الرسول صلى الله عليه وسلم من فهمهم لأقواله في سياقها، وعلموا إن كانت خاصة أم عامة مطلقة أم مقيدة مأذون بها لحين ثم منسوخة بعد الإذن بها لحين. فمثل ما للقرآن مقام يفهم فيه وله سياق تُدرك فيه معانيه فللسنة أيضا مقام لكل قول من أقوالها. ولها سياق تُنظر فيه تلكم الأقوال والتصرفات. وقاعدة العمل التي إعتمدها مالك بن أنس مقرونة مع قاعدة النظر المقاصدي معاً يشكلان منهجاً لا بد منه لفهم الأحاديث ولإعمالها لتحسين واقع الناس. وهي كما هي قاعدة عملية مقاصدية فهي قاعدة لتوثيق صحة الحديث من خلال النظر في متنه كما يصحح من خلال الظر في سنده. والإمام ابن رشد المالكي صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد والفيلسوف المعلوم قد نظر إلى قاعدة العمل هذه وعلاقتها بصحة الحديث فقال: (بالجملة العمل لا يُشك أنه قرينة إذا إقترنت بالشيء المنقول، أن وافقته أفادت به غلبة الظن وأن خالفته أفادت به ضعف ظن ) لكن أبن رشد يعود فيتحفظ على رد الأثر بالعمل فيقول: ( فأما أن تبلغ هذه القرينة مبلغاً ترد به أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر ) لكنه يعود فيستدرك ويقول: ( عسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها). فأبن رشد ينتهى إلى إقرار عمل أمامه مالك فى رد بعض أحاديث الآحاد فيما تشتد به البلوى. ومثل الإمام مالك والإمام ابن رشد يرى الدكتور الترابي أن بعض أحاديث الآحاد قد لا يعمل بها إذا خالفت المعنى الواضح في القرآن أو العمل الراسخ المعروف لدى عامة المؤمنين الصادقين أو خالفت المعروف في أمور تعم بها البلوى مثل حرمة الدماء والأعراض أو خالفت المعلوم بالضرورة من العلم الطبيعي الثابت.
نواصل الحديث
عن حديث الذبابة
وعذاب القبر
والحور العين
وهلمجرا

مقالات د. امين حسن عمر>>

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!