كانت دعوة التجديد هى القرين الذى لاينفصل من دعوة التوحيد لدى الدكتور الترابى. ففكرة التجديد قائمة على إستصحاب معنى النقص والإنتقاص الذى هو صفة المخلوقات . والاقرار بالنقص والحاجة للإصلاح الذى هو طلب الصلاح فى كل حال إقرار بأن المخلوق ناقص فى كل حال ويقابله الإيمان الموحد بأن الله كامل لايحول ولا يتغير من حال إلى حال.والتجديد يعنى الإنتقال من حال مضى إلى حال يستقبل وهذا الإنتقال لا يكون بالمشيئة الإنسانية إلا بإستجاشة الفكر والإرادة أى طاقة الذهن وطاقة الجوارح وهذه الإستجاشة هى ما يسمى بالمصطلح الإسلامى الإجتهاد.ولئن كان الإجتهاد هو صنوالتطورفالتطور هو الإنتقال إلى تطور متقدم أو الجمود لوهلة ثم الإنجرار لطورمتخلف .وظاهر حال الأمة المسلمة إذ توقفت عن الاجتهاد والتجديد هو الإنجرار إلى طور متخلف.والسبيل إلى الخروج من التخلف لايكون إلا بالتجديد وقال منهزمون من أبناء الأمة فات أوان التجديد ولا سبيل للنهضة إلا بإتباع سبيل الحداثة والتحديث.
التجديد والحداثة،الموافقات والفروق:
ليسا سواءً التجديد والحداثة وإن اجتمع فيهما معنى فكرة الإنتقال من حال إلى حال يظن أنه الأفضل.والتجديد والتحديث كلاهما يستدعى مراجعة شاملة للحال الماثل للإنتقال إلى حال أفضل. بيد أن التجديد ينطلق من تلقاء فكرة الإحياء والإستمرار أى إحياء الأصل الموروث وتفعيله وإكسابه القدرة على الإستمرار فى شوط جديد بينما الحداثة تعنى اليأس من الأصل الموجود وتأسيس أصل جديد لإجتراح مسار ومسيرة جديدة .فبينما يتعامل التجديد مع الموروث الموجود تعمل الحداثة على إزاحة الموروث القديم من الوجود وتستبدله بأمر محدث لا يستند على القديم فى شىء أو هكذا تحسب أنها تفعل. ومفهوم الحداثة قائم على المفارقة وعلى إعتبار أنها لا تتسارع ولا تتكامل إلا إذا أعتبرت أن الموروث الموجود عائق نحو التطور إلى وضع أمثل . ورجعى إلى مفردة حديث فى اللغة فإن (الحديث نقيض القديم
والحُدُوث: نقيضُ القُدْمةِ. حَدَثَ الشيءُ يَحْدُثُ حُدُوثاً وحَداثةً، وأَحْدَثه هو، فهو مُحْدَثٌ وحَديث، وكذلك اسْتَحدثه.)هكذا فى لسان العرب ويمضى أبن منظور فيقول (والحُدُوثُ: كونُ شيء لم يكن. ومُحْدَثاتُ الأُمور: ما ابتدَعه أَهلُ الأَهْواء من الأَشياء التي كان السَّلَف الصالحُ على غيرها. وفي الحديث: إِياكم ومُحْدَثاتِ الأُمور، جمعُ مُحْدَثَةٍ بالفتح، وهي ما لم يكن مَعْرُوفاً في كتاب، ولا سُنَّة، ولا إِجماع. وفي حديث المدينة: من أَحْدَثَ فيها حَدَثاً، أَو آوَى مُحْدِثاً؛ الحَدَثُ: الأَمْرُ الحادِثُ المُنْكَرُ الذي ليس بمعتادٍ، ولا معروف في السُّنَّة، والمُحْدِثُ: يُروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر مَن نَصَرَ جانياً، وآواه وأَجاره من خَصْمه، وحال بينه وبين أَن يَقْتَضَّ منه؛ وبالفتح، هو الأَمْرُ المُبْتَدَعُ نَفْسُه، ويكون معنى الإِيواء فيه الرضا به، والصبر عليه، فإِنه إذا رَضِيَ بالبِدْعة، وأَقرّ فاعلَها ولم ينكرها عليه، فقد آواه.)والمحدثة ضلالة فى الدين لأنها تترك الهدى الموروث لتبتدع أمراً محدثاً ليس له من أصل فى الدين .ومفهوم الإسلام أن المشيئة الإنسانية عاجزة عن إحداث شىء من عدم فالله وحده هو من يبدع الأشياء ويحدثها من عدم فتكون جديدا ما له من قديم ومهما تصور الإنسان أنه يقطع قطعاً باتاً مع القديم لإانه لا يستطيع أن يفعل ذلك على وجه التمام فسوف يبقى أصل يبنى عليه. والتحديث أجرى مراجعة متناسبة مع هذا المعنى عندما إستخدم مفهوم التنمية المستدامة سبيلاً للتحديث فقد أقرت المراجعات الجديدة أن أسرع صور التحديث هو ما يلاحظ الأوضاع والموارد المادية والبشرية ويجعلها قاعدة لإنطلاق سريع. أما “التجديد”فى مقابل الحداثة ، فهو اصطلاح محدد له مرجعيته المعرفية التي ينطلق منها فهو التجديد بالمعنى الذي توضحه معانى القرآن ونصوص الحديث النبوي . والتجديد كما أسلفنا يصبح أمراً لازماً لإستمرار الجماعة الإسلامية وضرورياً لإتصال أجيالها عبر التاريخ ولذلك فهو أحدى مطلوبات الدين والحديث النبوي الصحيح يقول”إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها“. وسبيل ذلك التجديد هوممارسة الاجتهاد الذى هو بذل الوسع وإستفراغ الوسع لتحقيق الحق من كل أمر، والاجتهاد هو الأصل الثالث من أصول أدلة الأحكام الذي يأتي بعد الكتاب والسنة وولايكون الإجماع إلا على إجتهاد سابق له.والتجديد والإجتهاد صنوان .وقد أوضحنا سابقا أن الدكتور الترابى يرى أن معنى الفقه هو الفهم مطلقا ولذلك فإن تجديد الفقه وتجديد الفكر شىء واحد.والترابى يشرح الدعوة لتجديد الدين بإنها الدعوة لتجديد الدين الذى هو تأويل الإنسان لا الدين الذى هو تنزيل الرحمن. فالدين الذى هو تنزيل الرحمن ثابت لا يتغير وإنما تتغير الفهوم والتأويلات حسب الأحوال والمتغيرات. وبهذا فهناك دين وهناك تدين والتدين الذى هو التمثل بمقتضى الدين فقهاً وعملاً هو موضوع التجديد. يقول د. الترابى (ربما يتساءل المرء هل يتجدد الدين؟ أليس الدين حقائق ثابتة لا تتغير ؟ بلى ذلك حق فى شأن حقائق الإسلام .ولكن الفكر هو عمل المسلمين فى تفهم الدين وتفقهه.وذلك كسب بشرى يطرأ عليه ما يطرأ على سائر الحادثات من التقادم والبلى والتوالد والتجديد. )ويقول(ففى الدين الحقائق الثابتة والمعانى التى إشترعها الله كلية وفرعية على وجه القطع والدوام.ولكن ففيه فكر المسلمين الذين يأخذون تلك المعانى بالشرح ويقدمونها للآخرين و يطبقوها فى واقعٍ معين وذلك هو كسب البشر لا نصيب له من الخلود ولابد من أن يبلى ويتجدد).ولكى يكون تجديد لابد من تجديد الفهم أو الفكر أو الفقه أيما شاء القارىء لأن العمل فرع من تصور الفكرة. ودعوة د. الترابى تنطلق من ضرورة تجديد الفقه وأصوله لتجديد صورة الحياة فى العالم الاسلامى والإنتقال بها من حال التخلف غلى حال النهضة والإنطلاق والتقدم .
مفهوم تجديد الفقه وأصوله لدى الترابى :
وقد أثارت دعوة د. الترابى لمراجعات عميقة ودقيقة فى الفقه الاسلامى الدارج بين الناس بقصد تجديده وتفعيل أثره فى حياة الناس جدلاً كثيفا حولها. ومرجع الجدال الكثير إلى سوء فهم معنى الدعوة ومغزاها، فقد صورها البعض محاولة لتأصيل الحداثة الغربية بإلباسها لبوسا إسلامياً ورآها أناس آخرون نوعاً من التعالى على التراث الاسلامى فى الفقه وأعتباره تركة بالية لاتصلح للإنتفاع بها فى عصرنا المتسارع الإيقاع ,وبينما طمع آخرون من دعاة القطيعة الحداثوية مع التراث أن تشكل وجهاً قابلا للتسويق لتجاوز الفقه القديم وتأسيس فقه جديد على ذات الأسس التى قامت عليها النهضات التشريعية الوضعية فى الغرب .بيد أن كل هذه الرؤى مفارقة لواقع حال دعوة الدكتور الترابى والتى لن يفهمها المرء حق فهمها إلا وقد فهم منطلقات الدكتور الترابى لإطلاق هذه الدعوة .وأول منطلقات هذه الدعوة هى الحاجة لإحياء أثر الفقه فى حياة المسلمين المعاصرة، فقد تحول الفقه الى علم نظرى تضمه دفات الكتب ويتضاءل أثره يوما بعد يوم فى حياة الناس المعتادة. ولما كان الدكتور الترابى أحد زعماء حركة الدعوة لتجديد بعث الاسلام فى حياة الناس العامة والخاصة أصبحت واحدة من عظائم همومه هى إعادة تفهيم الفقه للعامة والخاصة بالوجه الذى يرآه الناس حلاً عملياً لملابسات حياتهم اليومية الخاصة والعامة .وإعادة تفهميم الفقه لاتعانى معالجة مشكلة اللغة الإصطلاحية الفقهية التى ما عاد يفهمه إلا خاصة الخاصة فحسب بل أيضا تتجشم عئب إعادة صياغة الخطاب الفقهى ليأخذ بالإعتباركل مشمولات السياق الإجتماعى والحضارى المعاصر بمعنى أن يخاطب الناس بمفردات الأشياء والأحداث التى يعهدونها فيعرفون مغزاها. وأن ترتب الأولويات فى ذلك الخطاب حسب حاجات الوقت والمحل ومقتضى الحال.وان يكون الفقه قادرا على تقديم الإجابات التى يفهمها العقل المعاصر للإشكالات النظرية وللمشكلات العملية. يقول الدكتور الترابى (أن الأصول الوضعية إنما تتغدي من المادة الاجتهادية التي ينبغي أن تتوافر بين يدي شوري المسلمين علي أمرهم العام بل أن الاجتهاد الفقهي ربما كان شرطا سابقا لتأسيس تلك الأصول لأن الدعوة إلى إقامة نظام إسلامي في الحياة العامة يتوقف نجاحها إلى حد ما علي عرض مشروعات فقهية وافية يطمئن بها جمهور المسلمين إلى حق دينه وجدواه العملية فتتجه أرادته الغلابة إلي الالتزام بأحكام الشرع تطبيقا في شئونهم الخاصة ثم إلي تأسيس النظام الإسلامي علي صعيد الدولة بعد أن كانت تشوش عليهم الريب والشبهات وتقعده غفلة الجهل وحيرته)
والمنطلق الثانى للدكتور الترابى هو التطور الهائل الذى شهدته مناهج البحث العلمى فى المجالات الإنسانية والإجتماعية والذى لا ينكره إلا متعصب مكابر. والدكتور الترابى الذى يدرك أن الأئمة مثل أبى حنيفة والشافعى والغزالى وأبن تيمية قد إستفادوا من نهضة مناهج البحث ودراسة المنطق فى زمانهم ، يأبى أن لا تستفيد النهضة الفقهية المعاصرة من تطور مناهج البحث التى ثبتت موضوعيتها إلى حدٍ بعيد .ثم أنه يرى أن الإجتهاد وفق ميسور علوم العصر فرض كفاية لا يجوز لأهل عصر أن يخلو زمانهم ممن يقوم بهذا الواجب الكفائى (إن الاجتهاد فرض كفاية لكل جيل لانه شرط التدين عملا إذ لابد من معرفة الأصول لتلاوتها واتباعها بوعي والتزامها عملاً : لان التدبر والوصول بالاجتهاد إلي معرفة أمر الله التكليفي لزيم الابتلاء بالاجتهاد لتحقيقه عملا ومن ثم كان فضل العلم وحمل أمانة الكتاب علي غير ما يحمل الحمار الأسفار ).
والمنطلق الثالث هو ان غالب الفقه السائد بين الناس جله فى الأمور الخاصة وهناك فجوة هائلة فى فقه المعاملات وفقه السياسات أولاً لتبدل صور المعاملات وتوسع وتفرع أشكالها بحال لن يستوعبه الموروث من الفقه ولو كان مناسبا للحال والزمان ، وثانيا لأن فقه الإدارة والسياسة العامة كان نادراً قليلاً ، وما بلغ إلى زماننا منه أقل مما توفر منه فى زمانه يؤخذ هذا فى الحسبان مع تبدل شكل الحياة العامة وتوسع قضاياها مما يقتضى إنتاج فقه إسلامى قادر على مواكبة توسع هذه الأقضية المتكاثرة .ويمضى الترابى للقول (ثم أن الاجتهاد ملزوم واجبات التناصح والشورى بين المسلمين وواجبات الدعوة والمجادلة والمجاهرة بالقران لغير المسلمين وحرية الاجتهاد من بعد من حرية الرأي والاعتقاد وموصولة بالحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وصحيح أن الحرية ليست قيمة مطلقة ولا غاية لذاتها وإنما يكملها النظام ويتحد معها في توازن لتحقيق غايات العبادة)
والمنطلق الرابع أن غالب المشتهر بين الناس من الفقه هو فقه العصور المتأخرة وغاب تراث مهم من أعمال الأئمة الأعلام عن ما يدرج بين الناس و يتناقله العامة وشبه العوام من الوعاظ وطلاب الفقه وبخاصة ما تبثه وتنشره وسائل الاعلام من فتاوى وأراء تصبح هى الفقه السائد بين الناس رغماً عن ضعفها العلمى وعدم كفايتها وأنحصارها فى الأمور الخاصة والوعظ والتخويف دون ملامسة الشؤون التى تعم بها البلوى بين الناس.
هذه بعض منطلقات د. الترابى نحو دعوته لتجديد الفقه والأصول المنهجية له ولا أزعم أنى أحصيها ولكننى أعدد الأهم وأخصه بالذكر ولا يمارى عاقل من الناس برىء من التعصب أن هذه دواع حقيقية للنهوض بهذه المراجعة الكبرى للفقه الاسلامى التى يدعو إليها الدكتور الترابى وطائفة قليلة أخرى من العلماء والفقهاء.
معنى الفقه لدى الترابى :
وكما أسلفنا فالترابى يفهم الكلمة بالمعنى غير الإصطلاحى فقد اختلف العلماء حول معنى كلمة الفقه في اللغة ، فقال بعضهم : مطلق الفهم، وقيل: فهم غرض المتكلم من كلامه، وقال آخرون: أنه فهم الأشياء الدقيقة, هذا الأخير رجحه الأمام القرافي وقال: هو الأولى. وما رجحه الامام القرافى هو ما يأخذ به الدكتور الترابى . فالفقه عند الدكتور الترابى هو الفهم عن الله عن طريق القرآن والسنة عبرمناهج التعقل البشرى إستنباطاً أو إستقراءً. وهو يشمل عنده كل فهم لنداءات الخالق والشارع التعليمية وأحكامه العملية . ولا يحصره فى المعنى الإصطلاحى الذى هوالعلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية التي أساسها الأصلان الكتاب والسنة . فالترابى لايجعل الفقه محصورا بالتشريع بل بالتشريع والتعليم معاً . لأن مقصده هو معرفة التوجيه الإلهى حكماً كان أم تعليما للإستقامة عليه . فليس المقصود من الفقه معرفة الأحكام وإنما معرفة كيفية أن تكون ربانياً (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) والربانية هى الاستقامة على مراد الرب الموضح فى نداءاته وتوجيهاته وأحكامه . والأخلاق التى أمر بها والصفات التى نهى عنها. والفقه بهذا المعنى الواسع هى أن تحيا حياة إسلامية صحيحة وان تتحرى أن تفهم معنى إسلام الحياة فى كل حركة وكل سكنة ثم أن تستقيم على مافهمت.
ولئن ذلك كذلك فمعنى تجديد الفقه هو ذات معنى بعث الاسلام من جديد فى حياة المسلمين التى أبعدت النجعة عنه فى غالب تفاصيل تلك الحياة الخاصة والعامة.ولينظر الناظر الى مطعمه وملبسه ومسكنه ومعاشه ومكاسبه وتعاملاته ولينظر الى ماتحمله عليه الدولة من إختيارات وسياسات وليحكم من بعد ذلك إلى اى مدى هو قريب أم بعيد من الحياة الإسلامية الحقة؟ ومن أعتقد أن ذلك سوف يتغير لو تركنا كل أمرمحدث ورجعنا الى الفهم القديم لطرائق الحياة بزعم أنه الطريقة الاسلامية فسوف ينصرف جمهور المسلمين عن ذلك بسبب المشقات التى سوف يدخلهم فيها ذلك الضرب من التفكير . ولعل الله أراد لنا أن نرى صوراً منه فى مايسمى بدولة الخلافة الآن فى العراق وفى الشام وكيف أدى قصور الفهم إلى سلوك سبيل عسير على الناس أن يتبعوه ثم ساقهم الى عنف وتوحش مخالف لجوهر الطريقة الاسلامية التى هى الرحمة والرأفة والرفق.
نواصل,,,
مقالات د. امين حسن عمر>>
error: Content is protected !!