وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. أمين حسن عمر

أفكار حول الإعلام الجيد (1) … “د. أمين حسن عمر”

مفردة الإعلام لفظة مزدحمة بالمعاني . فهي قد تشير إلي عملية إرسال المعلومة في معناها المباشر . ولكنها يشار بها في أحيان كثيرة إلي مجموعة الوسائط التي تنقل المعلومات للأفراد والجمهور . وأحيانا إلي المعلومات نفسها المنقولة للإفراد للجمهور أحيانا، والكلمة الشائع استعمالها الآن في العالم هي كلمة ميديا وهي تشير إشارة للوسائط أو وسائط الاتصال الجماهيرى (ماس ميديا ). فالتركيز ههنا علي التكنولوجيا . وفي الماضي كان التركيز علي المعلومات عندما كان الاستخدام الشائع هوالاعلام . ولا تزال وزارة الأعلام في السودان تحمل في ترجمتها الانجليزية مفردة المعلومات لذلك فان الاستخدام وان كان شائعاً فهو غير دقيق
الإعلام الجيد:
ولن نستطيع ان نحدد مقاييس لجودة الإعلام ما لم نتفق ابتداء علي تعريف مقبول لمصطلح إعلام، وهنالك سجالات فلسفية كثيرة تتصل بمسائل الإعلام . وتؤثر في مصطلحاته واستخداماته، كما تؤثر في اختيار العنوان الرئيس للعملية الإعلامية .. وعندالحديث عن جودة الإعلام هل نركز علي الوسائط أم علي المحتوي لاشك أننا سوف نتناول الوسائط والرسائل . كما يشمل الحديث المرسل للرسالة والمرسلة إليه الرسالة علي الرغم من أن تداخلاً كبيراً ومعقداً قد اكتنف هذه التصنيفات . فطبيعة الوسيط أصبحت تؤثر كثيراً في صياغة الرسالة ومضمونها . كما أن المرسلة إليه الرسالة أصبح عبر التفاعلية مشاركاً ومرسلاً ومستقبلاً في آن واحد، وفي كل الأحوال فان أركان العملية الإعلامية تتمثل في المربع الذهبي الذي هو المرسل والوسيط والرسالة والمرسلة إليه الرسالة . ولكي نبلغ إلى تحقيق جودة الرسالة الإعلامية وأثرها المطلوب فلابد من الاهتمام بتحقيق مقاييس الجودة المطلوبة في أداء المرسل للرسالة والوسيط وفي الرسالة أسلوبها ومحتواها وفي المرسلة إليه الرسالة تفاعلاً وتفهماً وتأثرا . ذلك ليتحقق المطلوب من ارسال تلكم الرسالة.
الإعلاميون من هم:
أصطلح علي إطلاق اسم الاعلاميين علي الأطراف المتحكمة في إرسال الرسالة والأطراف الفنية المؤثرة علي وسائطها . ولكننا سنركز الانتباه فى هذه المرحلة علي من يطلق عليهم مرسلو الرسالة . وهؤلاء يشملون ملاك المؤسسة الإعلامية ووكلائهم في إدارتها أن وجد مثل هؤلاء الوكلاء . ثم الصحفيون والمنتجون والتقنيون العاملون في تلك المؤسسة. فالطبقة الأولي طبقة الملاك ووكلائهم تؤثر في الرسالة وجودتها من خلال توفير الإمكانات الضرورية ومن خلال التدخل أو عدم التدخل في العمليات الإدارية والتحريرية والإنتاجية والفنية المتصلة بالرسالة الإعلامية. وقد دار سجال مستمر حول الأنموذج الأمثل لملكية المؤسسات الإعلامية . وقد ارتفعت نبرة هذا السجال عقب الفصيحة الكبرى التي ارتبطت بالمؤسسات الإعلامية التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بتجسسها على القيادات السياسية والتنفيذية . ولا يزال حوار مكثف وعميق يدور في دول مثل فرنسا وألمانيا حول ملكية مؤسسات البث العامة مثل الدويتش فيلا (الإذاعة الألمانية) أو وكالة الإنباء الألمانية وكذلك فرانس انترناشونال ووكالة الأنباء الفرنسية . هل تبقي كما هي تحت الولاية العامة للدولة أو يجرى تخصيصها بعد إخضاعها لمعايير أداء ديمقراطية ؟ وملكية المؤسسات الإعلامية وما أصبح معلوماً من أثرها في تشكيل السياسات لم تصبح قضية إعلامية فحسب بل هي قضية سياسية في المقام الأول. فوسائل الإعلام الجماهيرية رسخت نفوذ شرائح محدودة من النخب المالية والسياسية في المجتمع حتى كادت تصبح هي أهل الحل والعقد في جميع المسائل التي تعم بها البلوى وتتصل بالمصالح المهمة للقطاعات الشعبية. بما في ذلك تشكيل الحكومات وتحديد سياساتها. فهي لا تكتفى بتشكيل السياسات كما تشتهى وما يحقق مصالحها الطبقية والفردية فحسب بل أن هذه النخب المالية السياسية الجديدة أصبحت عبر ملكيه وسائط ووسائل الإعلام هي التي تشكل ما يعرف اليوم بالرأي العام، فبدلاً من أن يؤثر رأي الجمهور على النخبة السياسية أصبحت هذه النخب هي التي تصنع السياسة العامة وتصنع الرأي العام حول هذه السياسة العامة. ولا يهم أن كانت هذه السياسات تعبر عن اتجاهات أو رأي أو احتياجات الجمهور طالما أنها تلبي رغبات مجموعات الضغط والنخب المالكة والمسيرة للمؤسسات الإعلامية.
ملكية المؤسسات الإعلامية:
ومهما تكن السياسة المتبعة في تحديد ملكية المؤسسات الإعلامية أو تنظيم التصرف بها وفيها فلابد من أن يكون مقصد التشريعات المنظمة لهذا الأمر حماية الصالح العام. فإذا كانت الملكية الفردية أو الأسرية تُعرض المصلحة العامة للانتهاك فلابد من منعها. وإذا كانت ملكية الحكومة دون رقباء من المجتمع المدني تؤدي إلى استبداد سياسي أو بيروقراطي فلابد من الحؤول دون ذلك باعتماد ترتيبات وتدابير دقيقة. وفي كل الأحوال لابد من الحؤول دون تسلط الملاك أو وكلائهم وتمكنهم من تحويل المؤسسات الإعلامية إلى وسائل لتحقيق مكاسب فردية أو عشائرية أو فئوية. وقد أسهمت أفضل تجارب العالم كما هي معروفة الآن إلى خيار ملكية عامة مراقبة بواسطة المشرعين والمجتمع المدني وإلى ملكية خاصة عبر شركات مساهمة عامة واسعة تخضع أيضاً إلى رقابة مؤسسات منظمة مستقلة . وأما الشأن الذي نراه متبعاً فى بلادنا سواء كان ملكية فردية أو أسرية للمؤسسات الإعلامية فهو بطبيعته مهدد للحرية وللمصلحة العامة . وكذلك فإن الملكية الحكومية دون تدابير تحول دون التدخلات السياسية الحزبية أو الاستبداد البيروقراطي هي الأخرى تخل بالحرية ولا تحقق المصلحة العامة . ولذلك فان ملكية مؤسسات الإعلام يتوجب أن تخضع لنقاش مكثف ومعمق لدراسة كيف يمكن أن نضبط المؤسسات العامة حتى لا تقع تحت سيطرة حزب حاكم أو تحكم إدارة بيروقراطية تسعى لفرض قناعات خاصة بها على المؤسسة العامة . من الناحية الأخرى لابد من مراجعة الملكية الشخصية والأسرية لكى تصبح ملكية شركات مساهمة عامة . يساهم فيها الجمهور الغفير لئلا يتسلط أفراد أو جماعات قليلة العدد على إدارة هذه المؤسسات . ويمكن إتباع ذات الأدوات التشريعية التي نظمت بها الدولة ملكية المصارف فوضعت معايير لرؤوس الأموال وأحتفظ البنك المركزى بإحتياطى من الايداعات ، وكذلك ملكية رؤوس الأموال وعدد المساهمين ونسبة طرح الأسهم في سوق الأوراق المالية. فاضطرت المصارف للاندماج في مجموعات متسعة المشاركة وأهم من هذا كله قادرة على تقديم خدمات مصرفية جيدة وفق المعايير العالمية.
ومؤسساتنا الإعلامية تفتقر إلى ما كانت تفتقر إليه المصارف في بلادنا من تشريعات منظمة للملكية ولتداول الأسهم ورؤوس الأموال وللمقاييس لجودة المنتج الإعلامي المقدم للجمهور . فلئن كان الجمهور في حاجة لخدمة مصرفيه جيدة فهو أشد حاجة لخدمة إعلامية جيدة ، سواء كانت مقدمة من الحكومة أو القطاع الخاص أو المجتمع المدني. لا شك أن الأعلام والمربع الذهبي الذي يشكله (وهو المرسل والرسالة والوسيط والمستقبل للرسالة ) يظل أمراً بالغ الأهمية بحيث يتوجب تكثيف الحوار حول تطويره . وقد أوضحنا أن تطور التكنولوجيا أحدث تداخلاً كبيراً بين عناصر الاعلام الأربعة . فالتفاعلية جعلت المرسل والمستقبل بتفاعلان ويتداخلان . وأصبح تأثير الوسيط علي محتوي الرسالة كبيراً بتطور تقنيات الصورة والتكبير والتصغير والإبعاد الثلاثية وتقنية الإبانة الدقيقة حتى قال بعضهم أن الوسيط أصبح هو الرسالة . بيد أن كل هذه التطورات لن تثنينا عن مراجعة الإطراف الأربعة للعملية الإعلامية وأثرها في جودة الرسالة.
حراس البوابة.. أم جلاوزة السلطان
يحلو للبعض أن يطلق علي الإعلام وعلي الصحافة بوجه خاص لقب السلطة الرابعة . فهل هي كذلك أم انه مجرد تعبير أدبي يطلقه من شاء كيفما يشاء؟ لا شك أن الإعلاميين باتوا بفضل التطورات الهائلة في عالم الاتصالات والتقانات المتصلة بها يحوزون علي سلطة هائلة لا يشاركهم فيها إلا من له يدٌ وسلطانٌ عليهم . وقد تحدثنا في المقال الماضي عن مُلاك المؤسسات الإعلامية ووكلائهم . وكيف أمكن لهؤلاء أن يمتلكوا سلطة هائلة مكنتهم من التحول إلي قوة ضغط فاعلة شديد التأثير في مجريات الصراع السياسي وفي تحديد وصناعة وصياغة السياسات العامة. بيد أن مُلاك الصحف ليس في وسعهم الحضور والتأثير علي مدار الساعة علي سيرورة وضع الأجندة والأولويات للأخبار وللإحداث الجارية فتحديد الأجندة والإعلاء من أهمية خبر من الإخبار أو شأن من الشؤون أمر يتحكم فيه الممارسون من رؤساء ومدراء تحرير ومنتجين ومخرجين ومعدين للنصوص ومراجعين لها ومصورين ومتحكمين في الصور والمشاهد المعروضة للجمهور. وهؤلاء جميعاً بات يطلق عليهم لقب حراس البوابة . ومرجع التسمية إلي ازدحام بوابات الإعلام بملايين الأحداث والأخبار والموضوعات مما يجعل الاختيار منها امراً لا مندوحة عنه . والاختيار يعني أن الذي يختار مُحكمٌ في أهمية الخبر أو الحدث أو جاذبية وجمالية الصورة أو تأثيرها أو درامية المشاهد وأثره في اجتذاب الانتباه أو استحثاث القراء والسامعين والمشاهدين علي التفاعل والتواصل والاستجابة. ولما كانت القدرة علي الحيازة علي التقانة وتوظيفها تتفاوت بين المؤسسات الوطنية والدولية فقد أصبحت العلاقة بين المؤسسات الكبرى والمؤسسات الصغرى علاقة تبعية . تتمظهر فيها علاقة القوي العظمي الدولية بالقوي الصغرى والعالمثالثية. ونشأت الإمبراطوريات الإعلامية التي تفرض نفوذها علي المؤسسات الأصغر سواء في بلادها أو علي مستوي العالم. كما نشأت إمبراطوريات نشأ على رأسها أباطرة للإعلام من أمثال روبرت ميردوخ وأمثاله فاحتازوا بذلك سلطة عظيمة علي مجريات السياسة في الدول العظمي . وأصبحت مؤسساتهم من أهم قوي الضغط في تحديد الداخلية و الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وسواهما من الدول ذات النفوذ البارز فى المسرح الدولي. وهذا النفوذ لأباطرة الإعلام وامتلاكهم لمؤسسات عديدة وتأثير هذه الملكية الواسعة علي المؤسسات الإعلامية جعل العاملين بالمؤسسات المملوكة لهؤلاء طوع بنان هؤلاء الاباطرة . ذلك انه مهما علا نجم صحفي أو منتج أو مخرج علي المستوي الوطني أو الدولي فأنه لا يستطيع أن يتحدي إرادة هؤلاء الأباطرة. لانه إن طُرد من منصبه الذي اعتلى به مقاماً عليا لن يتيسر له الحصول علي منصب آخر مماثل. اذ إن نفوذ هؤلاء يحيط بكل المؤسسات. وتجربة صحيفة الانبدندت تقدم المثال علي ذلك . فخروج ثلة من الإعلاميين علي الطاعة ومحاولتهم بناء مؤسسة إعلامية خاصة بهم قد جابهتها مصاعب جمة ثم ما لبثت أيادي الرأسمال المتحكم إن وضعت لجامها مرة أخري علي الصحيفة التي حاولت أن تكون النعجة القاصية عن القطيع الإعلامي.
السلطة الرابعة … سلطة الشعب أم النخب
وكما أسلفنا يحب بعض أهل الصحافة والإعلام القول بأنهم السلطة الرابعة. والسلطات الثلاث الأخري هي السلطة التنفيذية فالتشريعية والقضائية . والقول بالسلطة الرابعة يصنف السلطة الإعلامية فى المقام الرابع بين السلطات الدستورية. ولا شك ان الإعلام بات سلطة يُعتد بها ولا يلاحي و لا يماري أحد فى سلطانها إلا مكابر . وقد أصبحت المؤسسات الإعلامية ورجالها ونساؤها في صراع دائم مع السلطات الأخري في الدولة . فالقضاء يشكو أن الإعلام يفسد السيرورة القضائية فى المسار القضائى. والمؤسسات التشريعية تشكو من تدخل الإعلام في المجال التشريعي من خلال تعظيم اثر جماعات الضغط التي تستخدم الإعلام لفرض ضغوط هائلة علي المشرعين . وكذلك من خلال نشر المعلومات الخاطئة وترويج الفضائح ونشر الإسرار الخاصة والعامة. والسلطة التنفيذية تجأر بالشكوى من تدخل الإعلام وتحوله إلي سلاح بيد الخصوم . يوجهونه إلي نحر الحكومة ولا يرعون مصلحة عامة ولا يأبهون لأمن الوطن أو المواطنين. وليست جميع هذه الشكاوى ادعاءات لا يصدقها واقع الحال ولا يقوم عليها برهان ودليل. فالسلطة الإعلامية سلطة مثل سائر السلطات يمُكن أن تمُارس بالعدل والإنصاف لا يجرمنها شنآن قوم أو مخافتهم أن تصدع بالحق. ويمكنها أن تحيد عن صراط الحق والعدل . وتتعسف في الإحكام وتشتط في الأقوال ويمكن أن يداخلها الفساد فترتشى أو تتخابر أو تمارس الابتزاز. ولأن ذلك كذلك فان تطوير الرؤية لدور السلطة الإعلامية بات امراً لازماً وعاجلاً في آن واحد. فلابد من الإقرار بان الإعلام صار سلطة شبه دستورية رابعة . ولذلك توجب تنظيم عمل المؤسسات الإعلامية ومهنتها الإعلامية من خلال التشريع الدستوري. والإقرار بان الإعلام أصبح سلطة قائمة بذاتها يعني إثبات حقوق المؤسسات الإعلامية في نصوص الدستور. ثم انه وكما إن التمييز بين السلطات الدستورية الثلاث أصبح مبدأً دستورياً مستقراً فلابد من التمييز بين السلطة الإعلامية والسلطات الدستورية الأخرى. ولزم التشريع للتمييز بين السلطة التنفيذية والسلطة الإعلامية كما لزم التشريع لأنماط ملكية المؤسسات الإعلامية . وشروط هذه الملكية سواء كانت ملكية عامة أو ملكية خاصة أو ملكية لمنظمات المجتمع المدني. كما لزم التشريع لمساءلة المؤسسات الإعلامية والإعلاميين . فلا يجب أن تكون هنالك سلطة دستورية خارج المساءلة الشعبية . فكما أن السلطة التنفيذية مساءلة أمام البرلمان والبرلمان مساءل أمام الشعب. فلابد من إيجاد صيغة للمساءلة الشعبية للمؤسسات الإعلامية. وليس في ذلك غرابة حتى لو طالبنا بانتخاب رؤساء تحرير الصحف ومديري المؤسسات الإعلامية . ففى بلدان كثيرة يُنتخب النواب العامون ويُنتخب القضاة. فان كان مقترح انتخاب رؤساء التحرير والمديرين العامين أمرأ مستصعبا بواسطة الشعب مباشرة فيجوز أن يشرع لاعتماد هؤلاء بواسطة البرلمان . كما يحدث في بعض البلاد عند ترشيح أشخاص لتولي مناصب مؤسسات يتوجب أن تكون مستقلة عن الحكومة مثل المراجع العام والنائب العام ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا شك أن اعتماد رؤساء التحرير لو كانوا رؤساء تحرير لمؤسسات مملوكة للقطاع الخاص بواسطة البرلمان وعزلهم بواسطته سوف يُعلى من مقام هؤلاء . كما سوف يقتضي إتصافهم بمؤهلات مهنية وأخلاقية سامية . وفوق هذا وذاك سوف يحقق مبدأ المساءلة الشعبية . ويحقق الرضي عن الأداء الإعلامي . ويحمي مؤسسات الإعلام من تغول السلطات الدستورية الأخرى.
نواصـــــــــــــــــــــــــــــــــل،،،

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!