وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. أمين حسن عمر

التفكير العاطفي .. آفة السياسة الكبرى «4» “د. أمين حسن عمر”

تحدثنا في خواتيم المقال السابق عن السبيل الى النهضة الفكرية. وذكرنا أن أول ذلك هي استعادة ثقة كل انسان في ملكاته الفكرية ليكون عليها المعول، فيما يأتي وما يترك، ومن يتبع ومن يجتنب. ان سبب التخلف الأكبر في منطقة الحوض العربي الإسلامي وسائر العالم الثالث مرجعه الى تعطيل الملكات واهمال المواهب والمهارات. وكل ذلك شأن بادئ الرأي فيه وبادئ الفعل هو العمل الفكري. إن الأمة التي تعطل ملكات السواد الأعظم من عقول أبنائها وتجعل معولها على ثلة قليلة من العلماء او الفقهاء أو من تسميهم المفكرين، أمة لن ينفك خطوها الى الامام أن يكون بطيئاً، وتأخرها النسبي عن من تقدم من الامم متزايداً ومتراجعاً. وأما الملأ الأعلى من أهل السياسة فليتحملوا القسط الأكبر من تأخر الأمة ومن تخلفها. ذلكم أن السياسة الرائجة في زمننا هذا ومنطقتنا هذه سياسة تقوم على الاحتكار . وتضييق دوائر الرأي والقرار لا توسيعه. ولئن كان السياسيون يتبادلون التهم فيما بينهم بالاقصاء والهيمنة والسيطرة، الا انهم جميعاً ينتهجون ذات النهج. ليس فحسب فيما بين النخب المحتكرة للشأن السياسي، بل من حيث الأساس بينهم وبين سائر اهل القدرات والملكات من سواد الجمهور العريض.
غياب العقل الجمعي.. سيادة النخب
والنخب الحاكمة لم تبذل جهداً في استجاشة العقول واستثارة الأفكار، بل آمنت إيماناً عقدياً أنها هي من تحتكر الحقيقة الساطعة والفكرة النيرة. وأن من عداها سادرٌ في غفلة او ضلال. ولم يكن ذلك النهج هو الأمر الرائج في تعاملات النخب فيما بينها بل وبين هذه النخب جميعاً وسواد الناس الغفير. ومما أعان على ترسيخ العقل النخبوي والفكر الصفوي رواج سيادة عقلية قفل باب الاجتهاد فى التفكير في أوساط الجماهير . وهي فرية روجها بعض العلماء المتأخرون الذين افتقروا الى كثير من صحيح مناهج التفكير وادقعوا في معرفة آدابه. وعادوا الى شيء من ثقافة تقديس الأسلاف المذمومة في القرآن. فكأن العلم انتهى الى نهاية مسدودة هناك في لحظة تاريخية من الماضي. وكأن اجتهاد العقول وكدحها في التأويل والتفسير والتخريج قد تُوفي أجلهُ مع من ضمتهم الأجداث الأضرحه. وهكذا أُعطيت فكرة تقييد التفكير في الشأن العام بل والخاص بعداً دينياً. وسادت أفكار في الاتباع مثل فكرة «أن يكون المريد في يد شيخه مثل الجنازة في يد من يغسلها» ومثل فكرة أن كل فكرة ليس لها نسبة فيما قال السلف أو فعلوا فهي بدعة تفتح باباً للضلال عريض. وهكذا قتلوا العقل الجمعي للأمة. واحتكروه لطوائف ما برحت يكذب بعضها بعضًا، ويضلل بعضها بعضاً وقد يكفر بعضها بعضًا. ولا تهب لجمهور سواد الناس الا الابهام والتوقف الحائر بين هذا وذاك. هذا إن لم تتخذ هذه النخب الناس وقوداً للنزاعات والصراعات والحروب التي تسعر نارها وتنفخ أوارها.
إن السبيل الى النهضة الحضارية يبدأ بالنهضة الفكرية. والنهضة الفكرية تبدأ بالإعلاء من شأن العقل والفكر كل عقل وكل فكر. فالعقل مطلق العقل هو سر تكريم الانسان. والفكر هو ثمرة العقل التي بها تُستدام حياة الانسان الكريمة. والعقول تنمو فتثمر بالتعلم والتعليم. والتعلم هو أن يُحفز كل انسان ليبذل غاية الوسع في ادراك الكون والحياة في نفسه وفي العوالم من حوله «وفي انفسكم افلا تبصرون» الذاريات21 «الذين يتفكرون في خلق السموات والارض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران 191 فمن هؤلاء المتفكرون أهي الصفوات والنخب؟ أم هم سائر أهل الايمان الذين أُنزل اليهم القرآن «ليتدبروا آياته». والنهضة الفكرية الحقيقية تقتضي اعادة تنزيل القرآن ليس من السماء الى الأرض بل تنزيله من فهم النخب الى فهم العامة. كما كان الشأن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح. أولئكم الذين ما تحرجوا عن أن يسألوا كي يفهموا وأن يدلي أحدُهم برأية وفكرته حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً ليصححه أو يخطئه. ولقد صار منهج الإجازة في تحمل العلم واحداً من أكبر مناهج التعليم والتعلم. وهو منهج يقوم على ابتدار العلم بالسؤال من الطالب وبالاجابة من الطالب قبل ان يصححه العالم المعلم أو يخطئه. وهكذا تتسع دائرة التعلم باتساع عدد الطلاب. ولا تنحصر المبادرات في المعلم وحده. ومعنى ذلك أن الطلاب أحرار في التفكير وفي السؤال وفي الاجابة. لا نكير على أحدهم ولا زجر ولا تخويف. واذا عرفنا أن مجالس العلم كانت مفتوحة لعامة الناس فكلهم طالب لعلم عرفنا كيف تتسع القاعدة ولا تضيق بضيق الفصول والمدارس. ولا يعني هذا اغلاق الصفوف والمدارس. ولكنه يعني اعادة الاعتبار لحلقات التعلم والتفكير في المساجد والزوايا ووسائط الاعلام وسائر منابر الاجتماع الحضرى. فذلك هو السبيل لتشحيذ أذهان الأمة واحياء وجدانها واعادتها لدورها الفاعل في الاحتساب على نفسها وعلى الأمم من حولها.
التفكير العملي…. فقيد السياسة
ذكرنا أن مناط فعل السياسة هو العمل. لأن مرادها هو جلب المنافع ودرء المفاسد. وكل قول أو تحرك لا يترتب عليه عمل فهو رد . كما يقول الامام الشاطبي أي انه مردود على صاحبه لأنه هدر للوقت والجهد. وليس ثمة اعلاء التفكير العمل أكبر من هذا الاعلاء. فالوقت الاسلامي وقت للعمل لجلب المنافع «الأمر بالمعروف» ودرء المفاسد «النهى عن المنكر» والدعوة الى الخير. وهذا منطوق وتفسير السورة التي تعدل ثلث معاني القرآن «والعصر، إن الانسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر» ان كل لحظة من حياة الانسان والأمة لا تجلب نفعاً ولا تدفع شرًا فهى هدر يضيع في خسر ولا يُستعاد. ولكن معتاد الناس من أهل السياسة في زماننا هو القول الذي لا يترتب عليه عمل. فالواجب ان يرد على اصحابه مصحوبًا بالملامة. ولكن ذلك لا يحدث فغالب كلام أهل السياسة تزجية للاوقات باستثارة العواطف لا استجاشة العقول. وغالب خطابهم استمالة للمشاعر بالأماني البعيدة المنال لا تحفيز الهمم لبلوغ المقاصد التي قد تنال. وآفة الخطاب السياسي هو التفكير العاطفي الذي لا يتحرى مناسبة الفكرة لزمانها ولمكانها ولجمهورها بل يطلق القول على عواهنه لأن المقصود هو تنقية العواطق لا تشحيذ الأذهان واثراء الوجدان. وحفز الهمة والارادة ليتحرك الانسان الى هدف معلوم يدرك تمام الادراك أنه بالمتناول ان لم يكن عبر شوط واحد فعبر أشواط. وإن استعصى الأمر على جيل واحد فلن يستعصي على أجيال . فلو تعلقت همة احد الناس بالثريا لنالها. فليس ثمة أمر يستعان فيه بالله» بقصى أو بعيد. ولقد اعتاد الناس على التعامل مع خطباء السياسة وخطُابها ألّا يصدقوهم ولا يكذبوهم لأنهم مثل قصاص بنى اسرائيل إن صدقوا مرة فقد كذبوا مرات ومرات. ولأن غالب حديثهم لا يجرى عليه البرهان لأنه من عفو الكلام الذي يُنسى حيث يقال فكيف يمُكن لمثل هذا الفكر ومثل هذا الخطاب أن يحشد جمهوراً بالأفكار النيرة والرغبة في تجاوز المصاعب ونيل المقاصد والتقدم والارتقاء. كيف لكلام غالبه مرتجلٌ من إملاء اللحظة الراهنة دون فكرة تُختمر او خطة تختبر أن يغُير حال الناس إلا ان يكون ذلك ضربة عشواء تصيب مرة لتخطئ المئين من المرات.

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!