وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. أمين حسن عمر

التفكير العاطفي .. آفة السياسة الكبرى «1» “د. أمين حسن عمر

تضطرم الأحوال السياسية في بلادنا السودان باحتقان لاهب وتمور باضطراب كبير. ومرد ذلك إلى آفة ليست بالخفية وإن كانت مخفية، وهي آفة فوران العواطف والمشاعر الخام وطغيانها على منهجية التفكير البصير القويم الهادي أصحابه إلى الصراط القويم. والأمر ليس بمقتصر ولا منحصر في الساحة السياسية، بل يتعداها إلى مجامع أهل المذاهب الدينية ومحافلهم حتى صارت الفكرة المطلقة هي سيدة الموقف. فما أراه وما أقوله صواب لا يحتمل الخطأ وإن لم يكن آية قرانية أو حديثاً صحيحاً متفقاً عليه، وما تراه أنت وما تقوله خطأ بل ربما خطيئة لا تحتمل الصواب ولا سبيل لك إلا بالرجعى إلى ما أقول أو تثوب أو تستتاب!! ولئن كان هذا هو غالب الحال الجاري والأمر الدارج، فكيف لنا أن نتوقع ائتلافاً على خطة تهدي الخطى إلى سبيل النهضة والتقدم والرقي؟
العقبة الكاداء.. أو القبعة الحمراء:
الانسياق مع العاطفة الخام أي اتباع الهوى هو سبيل الضلال عن محجة الرشد. فالرفعة والنهضة والتقدم لا تتحقق إلا بمخالفة العاطفة الخام التي هي هوى النفس «ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه» «الأعراف 176». «ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً» «28 الكهف» «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى» «40 النازعات».
والهوى ناجم وناتج عن شح الأنفس وخوفها. ولأن الإنسان مفطور على حسب البقاء فإن الله ألهم الأنفس أن تجلب اليها ما يبقيها وتدفع عنها ما يفنيها، ولكن هذه الفطرة الخلقية قد تتحول إلى حالة من الإفراط في حب النفس «الشح» فتجلب من أسباب حفظ النفس من المال والمتاع ما يزيد عن الحاجة ويتسبب في حرمان الآخرين من الحصول على تلك الأسباب. وأما الخوف فهو غريزة درء الأسباب التي تؤدي إلى الايذاء أو الإفناء. وقد يفرط المرء في ذلك حتى يتسبب في إيذاء الآخرين أو إفنائهم بدافع الخوف والمبالغة في التحوط من الأذى. فالهوى كما قال الإمام الطبري في تفسيره هو مرادف لشح النفس ولن يفلح إنسان غلب هواه على حجاه. ولن تفلح جماعة غلب تعصبها على تفكرها. والقرآن دعا المخالفين إلى تغليب التفكر على الهوى «قل إنما أعظكم لواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا» والتفكر اسم للتفكير. وهو إعمال الخاطر في المستجد من الشؤون أو الأمور. والفكر «هو سلسلة من أوجه النشاط النفسي والعقلي غير المرئي التي يتناصر عليها القلب والدماغ عندما يستجد مثير تدركه واحدة أو أكثر من الحواس الخمس. وهو تبصر في الموقف أو استجلاء للخبرة لتوجيه صاحب الفكرة إلى التصرف الأجدى والأنفع في مواجهة ما يستجد». وحدة التفكير وقوته مهارة تكتسب بالمزاوجة بين الفطرة والموهبة والدرية المكتسبة ببذل غاية الوسع في التأمل والتدبر وتخيل الاحتمالات واسترجاع الخبرة الملائمة. ولما كانت عملية التفكر مركبة اقتضى ذلك التروي المشار إليه في لفظة «أن تقوموا» فالقيام هو الاعتدال. ولعل أشهر تقسيمات أنواع التفكير هي تقسيمات «ادوارد دي بونو» والتي سماها «القبعات الست» فهو قد قسم التفكير إلى ستة أنواع. ورمز لكل نوعٍ من الأنواع بقبعة لها لون محدد. فالنوع الأول عنده هو ما سماه بالقبعة البيضاء، وترمز لما يسميه بالتفكير المحايد. وهو التركيز على الحقائق المجردة المدعمة بالأرقارم والاحصائيات، كما هو الحال في الحاسب الآلي. ولعل هذا التفكير الذي يطلق عليه التفكير الموضوعي نادر الوجود إن لم يكن منعدماً بالكلية. فالإنسان ليس حاسباً آلياً بل هو كيان مركب من مشاعر وخبرة سابقة ولديه تصنيفات مسبقة وتحيزات. ولكي يحظى الإنسان بالقبعة البيضاء لا بد له من التجرد تماماً من التحيزات، والمعلوم يقيناً من الإفادة الربانية أننا لن نستطيع أن نفعل ذلك ولو حرصنا «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم»، فالميل القلبي الذي تنشئه الخبرة المختزنة ليس من السهل محوه. ليكون القلب صفحة بيضاء مثل الحاسب الآلي فيحظى بالقبعة البيضاء. وأما النوع الثاني من التفكير والذي رمز له دي بونو بالقبعة الحمراء فهو استحضار العواطف والمشاعر والأحاسيس بقوة بسبب الخوف أو الحذر أو الأنانية أو الشح. وهذا النوع يدفع بالأدرنالنين إلى كل أطراف الجسد فيمتليء الجسم والدماغ والأعضاء بالتوفز والتحفز. فالتفكير الذي تغلب عليه العاطفة يفتقد التروي والقدرة على التركيز، فالقدرة بالتالى على الحكم الصائب الرشيد. وقبعة دي بونو الثالثة هي التفكير السلبي، وهو أدنى ما يكون للتفكير العاطفي ورمز له بالقبعة السوداء. وهو التفكير السلبي الذي يرى الجزء الفارغ من الكوب، وينزع إلى التشاؤم بدلاً من التفاؤل وإلى إساءة الظن بدلاً من إحسانه. والتفكير السلبي ليس شراً كله ما لم تخالطه الأنانية والشح. فينزع الإنسان إلى إحسان الظن بنفسه وإساءة الظن بالآخرين. ويكون أفضل ما يكون عندما يرجح الميزان نحو إساءة الظن بالنفس على طريقة أهل التصوف وإحسان الظن بالآخرين كما أمرنا القرآن ووجهتنا السنة. وأما القبعة الرابعة فهي ما رمز له دي بونو بالقبعة الصفراء. وهو التفكير الإيجابي، وهو الذي يرى دائماً النصف المليء من الكوب. ويتحرى الأخبار الجيدة والجوانب الإيجابية في كل ما يعرض له. والتفكير الايجابى برغم كونه أفضل أنواع التفكير إلا أنه لا يخلو مما يعيبه. وهو أن ينزع الإنسان إلى إضفاء صورة وردية غير واقعية على الأشياء والأحداث. فيؤدي ذلك بدلاً من حفزه لمزيدٍ من الجهد إلى التراخى والتواكل. ولكن أفضل أنواع التفكير هو عندما يتطور التفكير الإيجابي ليكون تفكيراً إبداعياً رمز له دي بونو بالقبعة الخضراء. وهو التفكير الذي تتنامى فيه جرعة الخيال فتعلو على الخبرة. فينزع إلى التجاوز والابتكار وتوليد الفكرة من الخاطرة العابرة. وآخر قبعات دي بونو هي القبعة الزرقاء، أي التفكير الشامل الناجم عن التفكير في التفكير نفسه وهو عملية نقد وضبط الأفكار وترتيبها وتحويرها لتؤتي خير أكلها وتكثر وتعظم ثمارها وآثارها.
التفكير العاطفي سبيل السلبية:
لا شك أن التفكير العاطفي هو أدنى درجات التفكير إن لم يكن أول درجات الانزلاق من التفكر إلى التهور، وهو بلا شك سبيل يفضي إلى التفكير السلبي الذي يختزن التشاؤم والريبة وسوء الظن بالنفس كما تنشأ عنه غالب أدواء النفس وأمراضها النفسية، مثل الفوبيا والبارنويا وانقسام الشخصية «الشيزوفرنيا». وهذا في أدنى أحواله، وأما إذا لم يبلغ ذلك الدرك فهو يورث الكبرياء المزيفة والتعصب والعجب بالنفس والرضاء بالحال، وليس ثمة عدو للتقدم مثل أن يقال «ليس في الإمكان أبدع مما كان».

مقالات د. امين حسن عمر>>

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!