الأحزاب السياسية السودانية ومنذ بواكير فجرها.. كانت تعاني من قصور ذهني وإستراتيجي خطير دفع ثمنه الشعب السوداني على مر العهود.. فالوطن الذي تسلمه الحكم الوطني من المستعمر بدون (شق أو طق) على قول الزعيم الأزهري.. كان يتهاوى تحت معمول الأحزاب والساسة.. كما سنرى في ثاني المخازي العشر في حلقة اليوم!!
مغيب قبل الشروق!
الزعيم إسماعيل الأزهري كان أول سوداني يتشرف بمنصب رئيس الوزراء قبل الاستقلال بعد فوز حزبه الوطني الاتحادي في انتخابات عام 1953. وكانت آمال السودانيين كبيرة في حكومته لتعبر بهم إلى الاستقلال. لكن..!!!
بالكاد.. وبأعجوبة استطاع الأزهري أن (يصمد!!) حتى موعد القدر مع التاريخ الذي نال فيه السودان الاستقلال.. بل – وأرجو أن لا يعد هذا تطرفاً في الرأي- يبدو أن حبكة الاستقلال–من داخل البرلمان- كلها كانت لإخراج الأزهري من ورطته السياسية وليفوز بشرف رفع علم الاستقلال ويسجل التاريخ ذلك.. ثم.. ثم لا شيء بعد ذلك..!! وعبارة (بعد ذلك) ربما تتمدد إلى شهر أغسطس عام 1969 عندما صعدت روح الزعيم الأزهري إلى بارئها في مستشفى الخرطوم، بعد أشهر قليلة من انقلاب العقيد جعفر النميري عليه.. لم ترصد في إنجازات الزعيم الأزهري سوى لحظات رفع العلم الحسيرة..
حكم آيل للسقوط..!!
أفلتت حكومة الأزهري من السقوط وقدر الله لها أن ترفع علم السودان في أول يناير 1956.. لكن رصيدها نفد مباشرة بعد زوال فرحة الاستقلال، فأنقذها الأزهري بتكوين حكومة ائتلافية في فبراير 1956.. كانت هي الأخرى مجرد حكومة (الأنفاس الأخيرة).. لأنها أسلمت الروح بعد حوالي خمسة أشهر.. بالتحديد في 6 يوليو 1956.. عندما أطاح (ديمقراطياً) بالأزهري وزير دفاعه السيد عبد الله خليل، بالأزهري وتولى رئاسة وزارة أول حكومة سودانية بعد الاستقلال.
سوسة الساسة!!
كل المخاوف التي أبداها المستعمر البريطاني قبل رحيله باتت تتكشف عارية أمام الجميع.. خشى المستعمر من هز أركان الخدمة المدنية بتأثرها برياح تدخلات الساسة والسياسة.. وكان البريطانيون يتشككون كثيراً في رشد الساسة السودانيين وقدرتهم على إدارة وطنهم بعد الاستقلال وفق رؤية سديدة..
ما إن تسلم السيد عبد الله خليل الحكم حتى بات في مواجهة مريرة في كل الاتجاهات.. لسوء حظه اشتعلت الحرب في مصر في 29 أكتوبر عام 1956.. العدوان الثلاثي الذي قادته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. وتحول الموقف من الحرب في السودان إلى سوق ومزاد سياسي كبير هنا في الخرطومبين مواقف الأحزاب المتناقضة. وكان السودان لحظتها يكابد أزمة اقتصادية كاسحة بسبب تدني أسعار القطن الذي كان الممول الأول والأكبر لخزينة السودان.
المناورات السياسية لم تنقطع لحظة واحدة.. حتى كادت الحكومة تعلن حالة الطوارئ.. والأزهري لم ينس مطلقاً الكأس التي تجرعها من عبد الله خليل (وزير دفاعه في أول حكومة بعد الاستقلال).. وأخيراً بدأت خيوط اللعبة السياسية تتكشف عن مؤشرات على اتفاق جديد بين السيدين الميرغني والأزهري قد يطيح بحكم عبدالله خليل.. والذي سيفضي بالضرورة إلى حكومة جديدة تعود بالأزهري مرة أخرى إلى رئاسة الوزارة..
الجان يخرج من الجرة!!
ثاني المخازي العشر.. كانت تلك اللعبة (الأنانية) التي مارسها السيد عبدالله خليل، وأدت بعد ذلك لعشرات النسخ المكررة التي حاولت تقليد لعبته.. بعضها أصاب وأكثرها خاب!!
عبد الله خليل لما رأى تضعضع الحكم تحت أقدامه وارهاصات عودة الأزهري ذهب إلى قيادة الجيش.. الفريق إبراهيم عبود القائد العام للجيش السوداني.. وطلب منه تسلم الحكم لإنقاذ البلاد من خطر الانهيار الداهم.
القائد العام للجيش رفض الطلب.. وأصر على حياد الجيش تجاه العمل السياسي والمدني.. رفض الفريق عبود بإصرار مبررات رئيس الوزراء، بحكم تكوين عبود العسكري المهني الصارم فهو عسكري محترف تخرج من المدرسة الحربية في العام 1918 وتدرج في الرتب العسكرية إلى أن تولى منصب القائد العام بعد أربعة أشهر من استقلال السودان ( 4 أبريل 1956).
لكن عبدالله خليل ألح في طلب تدخل الجيش بحجة أن البلاد معرضة للسقوط في بحر الفضوى إن لم يمارس الجيش مهمته في حمايتها من الخطر.. أخيراً وافقت قيادة الجيش على طلبه..
يقول الأستاذ عبد الرحمن مختار (مؤسس صحيفة الصحافة) في كتابه (خريف الفرح).. إن عبدالله خليل ذهب في يوم 16 نوفمبر 1958 إلى القيادة العامة للجيش للاطمئنان على ترتيبات (الانقلاب العسكري).. لكنه تعرض لصدمة نفسية قاسية عندما رفض الحرس السماح له بدخول القيادة.. فاتصل بالفريق عبود الذي رد عليه بكل حزم أن الترتيبات العسكرية بدأت ولا شأن لـ(المدنيين!!) بها.. لغة الجيش الحاسمة كانت كافية ليفهم منها عبدالله خليل أنه أخرج الجان من قمقمه.. وأن الجان لن يعود!!
في صباح اليوم التالي الإثنين 17 نوفمبر 1958 عزفت الإذاعة السودانية المارشات العسكرية مطلقة صافرة البداية ليس لأول انقلاب عسكري فحسب، بل لسلسلة من الانقلابات العسكرية سطرها التاريخ السياسي المعاصر في السودان.
شهادة الجنرال عبود..!!
كان عملية تسليم وتسلم من تخطيط وتنفيذ رئيس الوزراء (المنتخب!!) عبد الله خليل. وأقر بذلك الفريق إبراهيم عبود بعد الإطاحة به في ثورة 21 أكتوبر 1964 الشعبية أمام لجنة التحقيق التي شكلت للتقصي في وقوع انفلاب 17 نوفمبر فقال (قبل أيام من استئناف البرلمان لأعماله، اتصل بي رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل، وأخبرني أن الوضع السياسي يسير من سيء إلى أسوأ، وأن أحداثا خطيرة ومهمة قد تنشأ نتيجة لهذا الوضع، ولا يوجد مخرج غير استلام الجيش للسلطة) .”
قصة هذا الانقلاب هي ثاني المخازي العشر لأنها أفضت إلى نتائج مهولة في التاريخ السوداني.. أقحمت الجيش في العمل السياسي وفتحت شهية العسكريين لتكرار المحاولة فبعد أربعة أشهر فقط من انقلاب عبود بدأ العسكريون تجربة حظهم.. فكانت أول محاولة انقلابية اشترك فيها اللواء محيي الدين أحمد عبد الله واللواء عبد الرحيم محمد خير شنان في 2 ماس 1959 وفشلت.. فأعادها بعد يومين وفشلت فكرراها بعد شهرين في مايو وفشلت أيضاً. ونتج عنها استيعابهم في المجلس العسكري الحاكم.
فتح الشهية الانقلابية!!
ولكن الانعطاف الحاد في الانقلابات العسكرية بدأ بعد عام واحد من نجاح عبود في استلام السلطة.. ففي 9 نوفمبر 1959 قاد اليوزباشي (المقدم) علي حامد انقلاباً عسكرياً مثيراً.. إذ كلهم من صغار الضباط وشارك فيه من المدنيين ساسة من كل الأحزاب على رأسهم الأخوان المسلمين (بقيادة الرشيد الطاهر بكر) والشيوعيين.
أجريت لهم محاكمات عسكرية صدر بعدها حكم بإعدام خمسة من القيادات العسكرية.
ثاني المخازي العشر هذه كانت مدخلاً لإدارج سلسلة من الانقلابات العسكرية في التاريخ السوداني المعاصر. هذه المحاولات الانقلابية العسكرية هي:
• 17 نوفمبر 1958 – انقلاب الفريق إبراهيم عبود نجح في تسلم السلطة.
• مارس ومايو 1959 محاولة انقلابية فاشلة بقيادة محيي الدين وشنان.
• 9 نوفمبر 1958 محاولة انقلابية قادها المقدم علي حامد بمشاركة ساسة منهم الرشيد الطاهر بكر فشلت وأدت للحكم بالإعدام على خمسة ضباط.
• 22 ديسمبر 1966 محاولة انقلابية فاشلة بقيادة الملازم خالد الكد.
• 25 مايو 1969 انقلاب عسكري ناجح بقيادة العقيد –آنئذ- جعفر محمد النميري
• 19 يوليو 1971 انقلاب عسكري ناجح بقيادة الرائد هاشم العطا لكنه لم يستو على منصة الحكم أكثر من ثلاثة أيام حيث نجح النميري في العودة للحكم مرة أخرى في 22 يوليو 1971. وأدى الانقلاب إلى مجزرتين الأولى راح ضحيتها أكثر من ثلاثين ضابطاً كانوا معتقلين لدى الانقلابيين في بيت الضيافة. ثم مجزرة أخرى ضد قيادات الحزب الشيوعي السوداني الذين اعدموا بعد محاكمات صورية.
• 5 سبتمبر 1975 انقلاب عسكري فاشل قاده العميد حسن حسين. صدر حكم بإعدام قادة الانقلاب.
• 2 يوليو 1976 انقلاب عسكري بمساندة مقاتلين مدنيين قاده العميد محمد نور سعد وصدر حكم بإعدامه وعدد كبير من الذين شاركوا في العملية العسكرية من المدنيين.
• 6 أبريل 1985 انقلاب عسكري بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، جاء استجابة لهبة شعبية جماهيرية ضد نظام الرئيس النميري. وأسلم الحكم للأحزاب بعد فترة انتقالية مدتها عام واحد.
• 23 يونيو 1989 انقلاب عسكري فاشل.
• 30 يونيو 1989 انقلاب عسكري ناجح بقيادة العميد – آنئذ- عمر حسن أحمد البشير.
• أبريل 1990 بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو انقلاب عسكري فاشل نتج عنه إعدام (28) ضابطاً من الذين شاركوا فيه.
• مارس 2004 محاولة انقلابية اتهم بها قادة حزب المؤتمر الشعبي وصدر بالقبض على قائدها الدكتور الحاج آدم يوسف لكنه أفلت إلى خارج البلاد وعاد بعد فترة وتولى منصب نائب رئيس الجمهورية.
ثاني المخازي العشر!!
ليس من أهداف هذا التحقيق الصحفي تقييم فترة حكم الجنرال عبود أو الطريقة التي انتهى بها عهده. إذ ينحصر الحديث حول ثاني المخازي العشر في سابقة اقدام حكومة مدنية منتخبة تسليم الحكم طواعية إلى انقلاب عسكري طلبته الحكومة بالحاح. بلا شك يثبت هذا العقلية السياسية التي تحكم البلاد أو تهيمن على مصائرها. ويبرهن على أن المفاهيم السياسية نمت منذ لحظة ميلاد الاستقلال (وربما قبل ذلك) على طمع وأنانية قاتلة أفضت إلى الواقع السوداني المرير الذي يكابده الشعب السوداني حتى اليوم.
ونواصل غداً في المخازي العشر..
نواصل بإذن الله غداً في المخازي العشر ..
في الحلقة التالية بإذن الله..
عثمان ميرغني
التيار
رابط كل الحلقات!
error: Content is protected !!