وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

أخبار متفرقة

“السودانيون في مصر” رحلة الجنون والضياع!

 السودانيون المغتربون في مصر ليسوا كالمغتربين في بقية الدول العربية، فهناك يناديك المصري يـ(ابن النيل) ولا تحس بأنك غريب الوجه واليد واللسان على رأي شاعر العربية الأكبر أبوالطيب المتنبئ .
ربما هذا هو السبب الذي جعل السودانيين يقيمون لمدة ثلاثين وأربعين عاماً يتزوجون المصريات ويتناسلون ويعيشون حياتهم بطريقة تكاد تنسيهم أرضهم التي انحدروا منها. هم هناك يعملون في جميع المجالات وبالرغم من أن الرواتب ضعيفة، إلا أنهم يفضلون العيش هناك على العودة إلى السودان، هناك من فاز وحالفه الحظ واتجه نحو الشمال باقصاه في بلاد تموت من البرد حيتانها.
في المقابل هناك من مات من البرد في شوارع القاهرة كالفنان التشكيلي محمد بهنس الذي جاء إلى القاهرة قادما من الخرطوم وقضى بالقاهرة عامين يجوب شوارع وسط البلد بعد أن أقام معرضا تشكيليا للوحاته، وآخر للصور التي التقطها في أماكن متفرقة وغالبيتها تعكس الثقافة والفلكلور الإفريقي، وفي القاهرة فقد عقله وجلس في ميادين القاهرة مجنونا، كايمن الذي ما زال حتى اللحظة في شوارع العتبة وتحديدا عند قهوة الموردة، يريد أن يأتي إلى السودان ولا يستطيع هناك النصابون والدجالون والعصابات وغيرهم.
مدخل
عبد الرحمن كومبارس 1
ازدحمت الأنوار والمصابيح والألعاب النارية وأضواء البنايات الشاهقة والسيارات.. ثمة إحساس غامض أن الليلة مختلفة عن ليالي القاهرة، دقت الساعة تصحي الليل كما تدندن أم كلثوم في أغنية فات الميعاد.. هناك عند شارع الكورنيش أمام الماسبيرو تتسع الرؤيا ويضيق الأفق عندما يفصل النيل بين أعرق حيين في القاهرة فمن الغرب حي الزمالك أعلى الهرم البنائي والثقافي والاجتماعي، ومن الشرق حي بولاق أبو العلا، اسفل الهرم ومن أعرق الأحياء الشعبية، تحت الكبري الذي يزاوج بين العراقة والحداثة في أحياء القاهرة وقف (عبد الرحمن كومبارس) يفرش مجموعة من البطاطين في الأرض وقد أحضر معه علبة (كشري) وأخرى للماء.. بالإضافة لعلبة سجائر رخيصة الثمن وبغيضة الكيف، وبعد أن رتب فراشه جلس على ركبيته وتناول العشاء ثم اشعل سيجارة، وظل يتأمل لوقت طويل في وجوه المارة، – حدث نفسه – الوضع ليس مناسبا البتة للنوم !! لن استطيع أن أنام في هذا الضوضاء، قرر أن ينهض ليكمل ليلته في “قهوة” أولاد خيرالله في مجاهل حي بولاق، وقبل أن يتوجه إليها عرجت قدماه إلى كشك صغير مهجور ليطمئن على بضاعته المزجاه هناك، حيث ظل طوال اليوم يجمعها من الحواري والأزقة والشوارع “علب البيبسي والبيرة” الفارغة ليبيعها بالكيلو.. بعد أن اطمأن على بضاعته ذهب إلى جامع “سيدي سلطان أبو العلا” في حي بولاق التي سميت بولاق أبو العلا تيمنا باسمه، وهو أحد الأحد عشر المعروفين في مصر كالسيدة زينب وسيدي الحسين والسيدة عائشة، هناك اغتسل ولبس ثوبا آخر ثم وقف دقيقة أمام قبر سيدي السلطان غمغم وبالأحرى (رطن) ببعض الكلمات، توجه بعدها إلى حيث أكون في القهوة، كثيرا ما أقابله هناك يحكي لي بلهجة مصرية شعبية خالصة تستمتع بها خاصة وهو يحاول أن يقحم بعض المصطلحات السودانية التي يخونه لفظها، يحكي قصصا شتى عن كثير من السودانيين الذين خطفتهم هذه الأزقة وانهمرت فوق رؤوسهم السنون فغمرتهم حينا فقط وقتلتهم حينا آخر.
في المقهى أصر العم عبد الرحمن (كومبارس) أن يسقيني كوبا من الشاي فهو اليوم قد باع جيدا ومجموع ربحه تعدى الثلاثين جنيها، قبلت دعوته وأمامي حجر شيشة قدمته له فأخذ منه أنفاسا عميقة متتابعة ثم استرخى في الكرسي وقال لي: هل تعلم يا بني أنني قضيت خمسة وثلاثين عاما في مصر لم أجلس إلى سودانيين إلا بعدد الأصابع ؟؟!!، فسألته لماذا؟ قال هكذا أراد الله !.. ثم اسند ظهره إلى الكرسي وظل يستمتع بأنفاس الشيشة وأنا أتأمل في وجهه المنهك وجسده المرهق وهو يبدو أكبر من الخمسة وخمسين عاما هي عمره الآن.. ظل عم عبد الرحمن طوال هذه السنين يعمل بوابا تارة وزبالا تارة أخرى، يعمل هنا حينا وهناك حينا آخر.. شارك عم عبد الرحمن مع الكثير من الممثلين والممثلات في دور كومبارس ومنها اكتسب لقبه الذي أصبح مشهورا به في حي بولاق، (كومبارس) عمل مع الزعيم عادل إمام والساحر محمود عبد العزيز وأحمد راتب، وغيرهم ويعد مسلسل “القضاء في الإسلام” من اشهر المسلسلات التي عمل بها، والمسلسل من اشهر المسلسلات التاريخية وجسد دور البطولة فيه عدد من النجوم بينهم أشرف عبد الغفور ومديحة حمدي وعبد القادر عودة وسمير حسني وغيرهم.
لم يكن لكومبارس حظ في التعليم، حيث توفي أبوه وهو ابن سنتين فتزوجت والدته بآخر توفي هو أيضا بعد أن أنجب من أمه أخا يصغره بأعوام قليلة.
(كومبارس) لم يتزوج رغم تخطيه الخمسين من عمره.
لا يعرف (كومبارس) من السودان سوى الحاج يوسف أو (الحق يوسف) كما ينطقها على الطريقة المصرية وشئ من السجانة مازال، أما الكثير فقد ضاع في متاهات القاهرة – كما قال – عندما جاءها يافعا فانتثرت أيامه بين أزقتها ونسائها وحشيشها وخمرها وانسها حتى تعب فأصبحت القهوة غرفته وتحت الكوبري منزله والشارع والطرقات حوشه الكبير.
رفعت بصري أتأمل في عم عبد الرحمن الذي يحب الجلوس في هذه القهوة حيث كل شئ القهوة والشاي والينسون والشيشة والحشيش والبنقو.. أيقظته من حالته تلك وسألته.. ماذا فعلت يا عم عبد الرحمن في موضوع سفرك، أجاب لا شئ أنا بانتظار أحدهم ليعطيني تذكرة الرجوع، اريد حقيقة أن اعود للسودان، ما زلت اذكر قول أمي لي: يا ابني نار السودان خير من جنة مصر، ثم استدرك قائلا وأنا أصلا لا اعيش في أي جنة بل بطانية تحت الكوبري وضحك ضحكة مكتومة لم تكن من قلبه.. 
2– (شيكا)
شيكا نموذج آخر هو من دنقلا العجوز أصلا، وميلادًا.. قضى طفولته في القطينة مع أسرته المكونة من أبيه (الجزار) وأمه (ربة المنزل) برفقة أخوين وأخت واحدة، عاش طفولته مع الحسانية بالقطينة، ثم انتقلت أسرته إلى اقاصي غرب السودان، إلى كادوقلي بجنوب كردفان في ستينيات القرن المنصرم، عاش شبابه في جبال النوبة، وفي العام 1987 هاجر إلى مصر للدراسة، ذهب إلى هناك وهو يحمل ثلاث ثقافات بين جنبيه..
شيكا.. هذا هو لقبه الآن في حواري القاهرة، لا يعلم شيئا عن أسرته منذ 26 عاما مضت، لم يرسل فيها خطابا إليهم، ولم يستقبل فيها مكتوبا منهم، ولا يعرف عن قومه شيئا يذكر.
شيكا.. يسكن في غرفة بائسة بعمارة تقبع في أقصى القاهرة عند قرية صغيرة، تبعد عن وسط البلد بحوالي نصف ساعة بالمترو.. هذه القرية تحولت إلى شبه مدينة بعد أن أزال أهلها أشجار (عمتنا النخلة) التي كانت أراضيهم تمتلئ بها مزارعا وأصبحت بفعل الانفجار السكاني الذي شهدته مصر نهاية القرن المنصرم غابات إسمنتية تحتضن الملايين من أبناء الشعب المصري بينها غرفة يتيمة تضم في بؤسها شيكا، الذي جاء طالبا بمصر، وظل منساقا وراء أضابيرها 26 عاما عجافا..
ذهبت إلى شيكا – ذات مساء – وجدته يجلس القرفصاء في غرفته التي لا تحوي من حطام الدنيا إلا القليل، ناداني (اهلا يا بلدياتي)!! غرفته تضج بالكتب والمجلات والجرائد، وجردل بالٍ (فيهو الهدوم) وأدوات النجارة – نسيت أن اقول لكم إن شيكا درس النجارة لكنه لم يكمل تعليمه وخرج من الجامعة بالمستوى الثاني – في هذه الغرفة الكئيبة أثاث قديم (روبابيكا) وثلاجة لا تعمل، حولها شيكا إلى مخزن لمواده التموينية، وغسالة تحتاج نفسها إلى غسيل.. وسرير يتيم، وسخان ماء، سرعان ما أشعله ليعد لي كوبا من الشاي كواجب للضيافة.. غرفة أنحاؤها متآكلة، نهض شيكا من مكانه – مترنحا – فاخبرني أصدقاؤه الذين كانوا معه (أحمد + كريم + عزو ) وكلهم مصريين بأن اعذره،
فقد لعبت السيجارة الحشيش برأسه وعلمت أنه شرب نصف زجاجة ويسكي التي أمامه وقد بلع نصف برشامة (ترامادول) المعروف شعبيا في السودان بـ(الخرشة)..
الساعة الحادية عشرة ليلا – وقت زيارتي إليه – وهذا وقت كالعصر في السودان فالمصريون لا ينامون إلا مع ساعات الفجر الأولى – أصدقاؤه الذين معه شباب لم يبلغوا الثالثة والعشرين من العمر ابتداءً من عمر الزهور، يتحلقون حوله وفي سرير واحد وكأنهم حيران وهو كبيرهم وشيخهم الذي بايعوه على الطريقة الدماغية، جلست إليهم وهم يستمعون إلى شيكا ويتحدثون إليه ويستمتعون بتعاطي الحشيش.. العم شيكا- حقيقة – معروف لدى أهل المنطقة يحترمه الجميع كبيرا وصغيرا لأنهم كما يقولون (في حالو) لا يحب إثارة المشاكل هادئ الطباع ويعشق الضحك والنكتة والابتسامة إضافة إلى الجلسات الدماغية. 
في تلك الجلسة يحكي لهم شيكا الحكاوى، ويقص عليهم القصص (حجيتك ما بجيتك)، ثم ما لبثت الغرفة أن ضجت بدخان الحشيش الذي يتناولونه عن طريق الكأس وبدأت أعينهم يغشاها الإحمرار، ويتزوجها النعاس، وماهي إلا لحظات حتى ودعوا العم شيكا وانصرفوا كل إلى حال سبيله.. هنا سألته – بفضول قاتل – لماذا يجلس إليك هؤلاء؟ مع ملاحظة الفارق السني طبعا، فأجاب: أنا لا اجلس إلى السودانيين هنا في القاهرة منذ عشرين عاما مضت وليس لي أصدقاء هنا سوى هؤلاء المصريين وفي هذه السن بالذات – ولم أفكر بأن أقيم أي علاقة صداقة مع سودانيين- فهم إما محتالون كأولئك الذين يجلسون في مقاهي العتبة وسط البلد يتفرسون في أوجه ضحاياهم.. أو أنهم – أي السودانيون – يظنون أنني محتال مثل أولئك الذين يجلسون ايضا بالمقاهي.
وفي كلا الحالتين – كدا أحسن – أن ابتعد عنهم.. أما بالنسبة لهؤلاء الشباب الذين يأتون إلى غرفتي فهم يعيشون شبابهم، ولا حرج، وأنا أكبر منهم سنا واعمق خبرة وكما يقولون أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، وهم يعتقدون أنني ممتليء بتجارب الحياة وهذا من الناحية النظرية صحيح.. أنا اعلم أوجاعهم ومشاكلهم واعرف حتى عائلاتهم وأسرهم، نحن نتشاور.. نتناقش وووو.. وفجأة أطلق شيكا ضحكة هستيرية وقال: وبعدين يا أخي ألم تتأمل في صفاء ونقاء ونضارة وحلاوة وجوه هؤلاء البشر، إنهم أحفاد سيدنا يوسف!! يفتحون النفس للحديث ليس مثل السودانيين الشينين.. قالها ثم أطلق ضحكة أخرى.
وقال: هل تعلم أن وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية بمصر أصدرت قراراً مشتركاً بمنع السودانيين الشينين من الدخول إلى المحروسة مراعاة لشعور الأطفال. قلت له بطريقة ساخرة اشبه بالطريقة التي يحدثني بها: لكنك يا شيكا وسط هؤلاء “زي الضبانة في اللبن”.. ظننت أنه سيغضب أو على الاقل يمتعض، لكنه خيب توقعاتي وأطلق ضحكة مجلجلة رجت المكان ومد إلىَّ كوب الشاي ثم ارخى ظهره على الحائط واستنشق نفسا طويلا من سيجارة حشيش احتفظ بها بعد ذهاب الشباب حتى (يحبس بيها) على حد قوله..
شيكا بشعره الأبيض الذي يغطي نصف رأسه فقط والنصف الآخر صحراوي.. الرجل بجسده النحيل وعينيه الجاحظتين وعمره الذي قارب الخمسين لم يرَ أهله ولا صحبه ولا السودان لمدة 26 عاما نسي فيها الحوش الكبير والحبوبة وشجرة اللالوبة وشاي الصباح والزلابيا السخنة.. نسي الأفراح كيف تقام والأتراح كيف ينهمر فيها الدمع الذي قال إنه لم يسكبه طوال 26 عاما، تحجرت عيناه، وتبدلت مشاعره وأحاسيسه استبدل محمد وردي بجورج وسوف، وأحمد المصطفى بعمرو دياب وسيد خليفة بإيهاب توفيق.. 
شيكا تزوج مرة في حياته من مصرية بمنتصف التسعينيات ولم يستمر معها لأكثر من عام، لم ينجب أطفالا. أفرزت التجربة الفاشلة عن مطلقة وعازب آخر.. تزوج للمرة الثانية من مصرية ايضا لكنه لم يضئ لمبة حمراء ولم يدخل بها وطلقها، ليعيش عمره يُمني نفسه ربما بالأطفال.. شيكا يبرر فشله في الزواج أن المجتمع المصري يختلف تماما عن المجتمع السوداني، لذلك من الصعب أن تأقلم المصرية على طبعك والعكس صحيح – كما قال – مع أن الحقيقة أن شيكا تغيرت لهجته تماما وهو يتحدث اللهجة المصرية أحسن من أهلها، ونسي مخارج الحروف السودانية و(الفونيتيك) السوداني دعك من لهجة الراندوك.
شيكا في الربع قرن الخالية لم يستقر على حال واحد، نام في فيلا وفي شقة وفي الشارع وفي حديقة وفي الكورنيش وفي قلب ميدان التحرير وخلف أسوار السجن.. اشتغل في كل شئ يخطر على البال ليأكل ويشرب ويعيش. آخر عمل له بلغ أجره فيه سبع سنوات قضاها في سجن ليمان طره الذائع الصيت..
وبعد أن أتت المكيفات مفعولها وبدأ الفجر قريبا قبل أن يتنفس الصبح.. وبدأت الزغللة تظهر في عينيه قررت أن أنصرف، وعندما توجهت إلى الباب بعد وداعه سألني سؤالا: هل يمكن أن أعود إلى السودان !!؟.. أجبته صدقني ليس هذا هو المهم.. المهم أن يعود السودان إليك يا شيكا..
في الجزء الأول من هذا التحقيق عرضنا الجانب الأول للضياع ، شخصيتان غادرتا السودان بمحض إرادتهما .. كان ذلك في نهاية الثمانينات حين لم يكن هناك من يفكر في السفر إلى أوربا وأمريكا عن طريق اللجوء الإنساني أو السياسي ، فقد كان السفر مرناً .. ولو بحثنا جيدًا في تلك الفترة لن نجد سودانياً واحداً ذهب إلى الشمال الجغرافي من الكرة الأرضية مستظلاً تحت سقف اللجوء .. لكن هذه الثقافة الجديدة انتشرت كالهشيم في النار بمجرد وضع السودان تحت سقف الدول الراعية للإرهاب في العام 1993.لم يكن شيكا وكومبارس يحلمان سوى بحياة رغدة في مصر ومع ذلك لم ترحمهما السنون وهي تعلن عودتهما للمربع الأول مربع العودة للسودان ، ومع هذا لم يستطيعا العودة ، الجانب الثاني للضياع هم شباب تضج بهم شوارع القاهرة وهم يحملون البطاقات الصفراء والزرقاء التى منحتها لهم مفوضية شؤون اللاجئين كطالبين للجوء السياسي والإنساني قرروا شطب السودان من ذاكرتهم ومزقوا جوازات سفرهم وتنازلوا عن جنسيتهم لأجل الذهاب إلى بلاد العم سام ..
طلب اللجوء السياسي والانساني
في الفندق الذي أقيم فيه بالعتبة وسط البلد .. وأنا أتابع نشرة أخبار التاسعة مساء بالتلفاز .، شد انتباهي فتاة في العشرينات من عمرها كانت منهمكة بأوراق تحملها في يدها تقلبها ذات اليمين وذات الشمال ، بجوارها شاب يبدو قريباً من سنها ، سمعتها – من غير قصد – تقول له بأن المفوضية في مدينة 6 أكتوبر سنذهب إليها غداً صباحاً .. شدني الفضول ، انتظرت حتى انصرف الشاب ، فأقحمت نفسي بتجاذب أطراف الحديث معها خاصة وهي لم تكمل زجاجة البيبسي التي أمامها ، علمت فيما علمت –بعد أن إطمأنت إليّ تماماً – أنها هربت من أهلها الذين يقطنون بحي أبو آدم وهي قادمة برفقة أسرتها من مدينة تندلتي .. اشتدت خلافاتها مع أسرتها لأنها أحبت شاباً وحملت منه سفاحاً ، وخوفاً من أهلها فرت إلى صديقتها التي نصحتها بأن تجهض الطفل وتسافر إلى مصر لكي تقدم حق اللجوء الإنساني بعده – هكذا قالت صديقتها – ستعيش في بحبوحة من العيش يصرف لها مرتب وسكن ووظيفة وعلاج مجاني ثم بعد ذلك تسافر إلى أوربا .. أمضت مع صديقتها بضعة أيام ثم انتهت من إجراءاتها سريعاً وسافرت عن طريق الباخرة بعد أن دبرت لها صديقتها مبلغاً من المال بالكاد يوصلها إلى أسوان خاصة وان السفارة المصرية لا تمنح تأشيرات دخول للنساء إضافة إلى أن الحكومة السودانية لا تتشدد في سفر الفتيات، تضيف إيمان – ولا أعلم إن كان هذا اسمها الحقيقي أو الحركي – عندما وصلت إلى أسوان لم أكن أملك في جيبي جنيهاً واحداً إلا أن المعلومة لدي من السودان ، وهي أن أبيع جوازي بمبلغ 200 جنيه كما يفعل المسافرون والمقصود بالبيع هنا أن يجمع مصري بعض جوازات السودانيين ويذهب هو برفقتهم إلى السوق الحر ليشتري بها سجائر وخمور بنصف القيمة لأنك سائح ويبيعها هو بما يشاء، تزيد إيمان : وهكذا تبقى لي مبلغ 120 جنيهًا جئت بها إلى هذا الفندق ثم تعرفت على هذا الشاب الذي كان برفقتي الآن وهو يساعدني في دفع الإيجار الذي يبلغ 25 جنيهاً فقط كما تعلم، سألتها بخبث: هكذا لوجه الله، ضحكت وقالت، خالد شاب طيب هو يعمل في إحدى الشركات الأمنية بقرية سياحية في العين السخنة وقد تعرفت عليه بقهوة السودانيين، هو يمضي الإجازة كل أربعة أيام بشقة مفروشة يعلم ظرفي جيدًا وهو يساعدني، سألتها – هل هذه الأوراق التي معكم تخص اللجوء بالأمم المتحدة قالت نعم ! سألتها هل تريدين أن تقدمي لجوءاً سياسياً ، ردت قائلة، لا بل إنساني وأسهبت تقول أ نا وخالد والكثيرون من الشباب هنا في مصر نريد أن نخرج لنرى العالم المفتوح الواسع أمامنا، لقد شعرنا بالضجر في السودان، كل شيء أمامك مسدود، نريد ان نذهب الى هذا العالم الأول، نعيش حياتنا كيفما نشاء، نأكل ما يحلو لنا، نلبس كامل عريان ” مافي زول عندو بينا شغلة ” نريد أن نحصل على جنسية أخرى وجواز آخر، جواز له قيمته، ليس كجوازنا السوداني الذي لا ينفع ولا يضر ولا يغني ولا يسمن من جوع، نريد أن يتربى أولادنا في بيئة نظيفة وجو هادئ، ينالون تعليماً لم ننله نحن، نريد أن نعيش في بلد ليس فيه تعقيدات أو أزمات، ثم بعد ذلك حتى لو جئنا إلى السودان نأتي إليه ونحن أغنياء لدينا الدولار واليورو هنا سيحترمك الجميع ثم نظرت إليّ وهي تقول: هل تعلم لو لم تملك مالاً لن يحترمك حتى أبوك وأمك وأخوتك.. المال هو عصب الحياة، سألتها هل أستطيع أن أذهب معكما غداً، ردت عليّ بسؤال هل تريد أن تقدم للجوء أيضا أخبرتها بأنني متردد فقالت: هل أنت غبي ؟ عليك أن تقدم ماذا تريد بالسودان. ثم قالت غدًا سنلتقي عند السابعة صباحًا أنا وخالد أمام مقهى ريتش الذي يقع بجوار ميدان طلعت حرب ، إن أحببت المجئ تعال باكراً ..
الطريق الى المفوضية
باكرًا وجدت قدماي توصلاني إلى مقهى ريتش ، هذا المقهى العريق ليس مقهًى عادياً كبقية المقاهي التي تعج بها قاهرة المعز، فعلى “ريتش” جلس واجتمع المبدعون والمثقفون من عدة أجيال في تاريخ مصر المعاصر بدءًا من توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وأمل دنقل، ونجيب سرور، ويحيى الطاهر عبد الله، وخيري منصور، ولويس عوض، إلى جانب الفنانين المصريين: رشدي أباظة، ومحمد عبد القدوس، وفاطمة اليوسف، وعادل إمام، كما كانت القبلة التي يحج إليها المبدعون العرب: غالب هلسا، وعبد الوهاب البياتي، والناقد الفلسطينى خيري منصور وحسن إبراهيم ، والآن يلتقي فيه خالد وإيمان وأنا معهما للذهاب إلى مفوضية شؤون اللاجئين ، عند الموعد المضروب تحركنا إلى ميدان رمسيس لنستقل الحافلة إلى مدينة 6 أكتوبر ، بأربعة جنيهات فقط للراكب الواحد حملتنا العربة الهايس إلى الحي السابع بالمدينة 6 وهناك استقللنا أمجاد إلى مبنى المفوضية وما هي إلى دقيقة واحدة حتى كنا على أبوابها صابر خبرة الشيطان
بالرغم من أن الساعة الثامنة صباحاً إلا أن الزحمة كانت على أشدها، مجموعة هائلة من البشر وتحديدًا من ثلاث جنسيات، السودان إثيوبيا و الصومال، لم تكن أبواب المفوضية قد فتحت بعد، وعند ست شاي سودانية تقدم المشروبات هناك أخذنا كراسي وجلسنا، عرفتني إيمان على خالد، هو خريج حقوق جامعة النيلين، من أبناء ولاية الجزيرة، جاء إلى مصر أساساً ليقدم هذا اللجوء، بدأ خالد يسأل عن شخص يدعى صابر، – أشار إليه بعض الجالسين بأنه ذلك الذي يرتاح أسفل الشجرة هناك يشرب القهوة، سألت إيمان من صابر هذا؟ قالت إنه المتخصص في ملء الاستمارات، ذهبنا إليه كان شاباً أنيقاً يلبس بدلة كاملة ” فل سوت ” ويضع كرافتة أنيقة، يبدو من مظهره أنه في منتصف الثلاثينيات، القينا عليه التحية فبادرنا بأحسن منها إيمان فاتحته بالموضوع مباشرة فقال لها ما في مشكلة بس السعر عارفاه 100 جنيه قالت له بس إحنا اثنين قال لها حسنا تخفيض خمسين يبقى 150 وافقت إيمان وخالد فاستلم منهما صابر الأوراق ولم يسألها سوى عن إسمها فقط وعندما انتهى أخذ أوراق خالد وأتمها في ثلاث دقائق بعد ذلك نظر إلى الاثنين وقال، هذه الأوراق بمعلوماتها أريدكما أن تحفظاها عن ظهر قلب، عليكما الآن الانتظار حتى يفتح شباك الطلبات وتقدما هذه الاستمارات – نظر إلى إيمان وقال : لا تصوري جوازك، إخبريهم أنك دخلت البلاد بطريقة غير رسمية هرباً من جحيم السودان أما أنت يا خالد فصور جوازك وأاذهب به .. استلم صابر الـ150 جنيهاً وعدنا لست الشاي.
الغاية تبرر الوسيلة !
الفضول كاد يقتلني لاقرأ ماذا كتب هذا الصابر في استمارات إيمان وخالد طلبت منهما قراءة الاستمارات، هنا الجمتني المفاجأة التي لم أكن أتوقعها لم تكن في أنه غير موطنهما الأصلي عندما كتب في استماراتهما انهما من جبال النوبة ودارفور ، بدلا عن كوستى والجزيرة ، ولم تكن المفاجأة في أنه قتل إخوة ايمان و أبيها وأمها في معركة واهية بين الحكومة والمتمردين – كما زعم – وفي حقيقة الأمر هم أحياء يرزقون كما أخبرتني إيمان ، مصدر المفاجأة كان في القضية التي كتبها لكليهما وبسببها هربا من السودان .. كذب عن إيمان كاتباً بأنها تشعر بالاضطهاد في بلادها وأنه تم إلقاء القبض عليها أكثر من مرة بسبب لبسها الفاضح من قبل الشرطة السودانية بتهم اللبس الفاضح حيث مارس معها أفراد الشرطة الجنس فرداً وراء الآخر وأنها تعرضت لاغتصاب ممنهج مما جعلها تشعر بأزمة نفسية حادة جعلتها تهرب من البلاد، أما خالد فقد كذب عنه كاتباً بأنه اعتقل من قبل جهاز الأمن أكثر من مرة وتم تعذيبه بصورة ممنهجة تارة عبر منعه من النوم لعدة أيام حتى أوشك على الجنون وتارة أخرى عبر منعه من الشرب عدة ساعات حتى إذا أنهكه العطش سقوه كمية كبيرة من الماء وقاموا بتقييده وربط عضوه الذكري حتى يتسمم .. كانت أفكاراً أقل ما توصف بأنها شيطانية نظرت إلى خالد وإيمان وسألتهما هل أنتما راضيان عن هذا الذي في الاستمارات؟ أجابت إيمان لو لم نكن راضين ما دفعت وخالد 150جنيهاً، وبعدين ياخي الغاية تبرر الوسيلة .. لفنا الصمت برهة ثم لاحظنا تدافع الناس نحو المفوضية فعلمنا أنها فتحت أبوابها، فانطلق الثنائي إليها بينما ذهبت أنا إلى صابر، سألته سؤالاً، هل أنت متأكد من أن هذه المعلومات التي كتبتها سوف تعطيهم حق اللجوء الإنساني والسياسي؟ ابتسم صابر ابتسامة صفراء وقال : أنا اعمل هنا منذ سنتين ومقيم في مصر منذ خمس سنين، ولدي البطاقة الزرقاء وأحفظ القانون عن ظهر قلب فقلت له أشرح لي أكثر، هنا اعتدل في جلسته وقال: أولاً من هم اللاجئون؟ إنهم على حسب تعريف القانون هم الأشخاص الذين تعرضوا في موطنهم الأصلي أو البلد الذي كانوا يعيشون فيه في الفترة السابقة إلى مخاطر جدية أو عانوا من الخوف الشديد لأسباب معينة، بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو الانتماء إلى فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي، ومن هنا أقوم أنا بملء استماراتهم كما نص التعريف .. التفت صابر نحو أبواب المفوضية وقال الكثير من أبناء السودان هناك، انظر إليهم يقفون بالصف في طوابير وزحمة اللاجئين من الأثيوبيين والصومال، الكثير من هؤلاء لا مشكلات لديهم حقيقة في السودان لا سياسية ولا أمنية، لكنهم يئسوا من شظف العيش فبدأوا يحلمون بالسفر إلى بلاد العم سام وأوربا وأستراليا وكندا عن طريق اللجوء الإنساني والسياسي، هم يعيشون في مصر فترات تتراوح ما بين الخمسة إلى العشرين عاماً لا يكلون ولا يملون تجدهم منتشرين في كل مكان من مرسى مطروح وحتى أسوان يعملون في أي تجاه.. فرشات بالأسواق – طبالي – وبائعي فول وسائقين وفي الشركات الأمنية التي تحبذ السودانيين لأمانتهم .. يعملون في المطاعم والمقاهي وعندما يحتار بهم الدليل، يعملون في النصب والدجل (مصر بلد العصر) ، قبل أن أكمل حديثي معه جاء خالد وإيمان يحملان ورقة صغيرة فيها مواعيد مقابلة حددت بعد أسبوع هنا قال لهما صابر ستستلمان البطاقة الصفراء وبها مواعيد قد تمتد لثلاث أو خمس سنوات تأخذان بها البطاقة الزرقاء إن تم قبولكما، البطاقة الصفراء تؤمن لكما العلاج المجاني والإقامة بمصر وبعض المنح الشهرية من منظمات دولية، ولكن أكرر عليكما حفظ هذه المعلومات التي كتبتها لكما جيدًا وإذا فشلتما في المقابلة –سيتم رفضكما، قال خالد وإذا تم رفضنا، أجاب صابر هناك حلان ، إما أن تبحث عن واحدة من النساء التي تمتلئ بهن مصر تم قبولها وتتزوجها، فتضيفك إلى بطاقتها، وإما أن تكمل حياتك في مصر أو تعود إلى السودان في هذه الحالة تقوم المفوضية بقطع تذاكر سفرك وإعطائك مبلغاً من المال كمصاريف سفر، وإن اجتزتما المقابلة التي تتم بحضور مترجم فسيتم منحكما البطاقة الزرقاء، وأخرج بطاقته التي في جيبه وقال كهذه التي معي ومعناها أنكما قبلتما مبدئياً بعدها ينظر في أمر توطينكما ، هذه البطاقة الصفراء لديكما فيها حقوق وواجبات عليكما أن تلتزما بها وربنا يوفقكما، ودعنا صابر بعد أن شكرناه بشدة على مساعدته وعدنا أدراجنا،
في الطريق سألتني إيمان هل ستقدم؟ لماذا لم تسحب استمارة ؟ أجبتها إن شاء الله سأحاول لكنني سرحت في ملكوت واسع ..
ملخَّص الحلقة الأولى :
في تلك الحلقة تعرضنا لشيكا وكومبارس وكيف انتهى بهما المقام إلى الضياع في القاهرة ، إلا أنهما يريدان العودة إلى السودان، ولكن ضعف الحيلة وقصر اليد وقفا مانعاً دون ذلك.
ملخَّص الحلقة الثانية :
فيها استعرضنا حالة خالد وإيمان وطلبهما المستميت للجوء السياسي والإنساني سعياً وراء الهجرة إلى بلاد أوربا والعم سام، أما اليوم فنستعرض حكاية عكسية لأيمن من أوربا إلى القاهرة ، يريد العودة للسودان ، عليه نفس أعراض بهنس الذي نكشف عن مقابلاتنا له ، وأخيراً نعرَّج إلى النصابين والبلطجية ثم ماذا قالت سفارتنا هناك؟.
قال لي أيمن: هل تعلم أين كنت أسكن في هولندا ؟ لقد كنت قريباً من بيت الفنان الهولندي رمبرانت الذي ولد عام 1606 ويعد من معالم هولندا التاريخية، سألته وأين تسكن الآن، قال: بجوار جامع الكيخيا تارة وتارة أخرى ..
مسرعاً أحث الخطى ، كنت أشق الشارع الممتد بين شارعي كبري قصر النيل وثروت أباظة في طريقي لفندق ايزيس بشارع عبدالعزيز بوسط البلد في القاهرة حيث أقيم، الساعة كانت تقارب الثانية صباحاً، الارهاق كان سيد اللحظة، لم أتوقع أن تكون هناك سيدة أخرى لهذا اللحظة سوى تلك المفاجأة التى لم تخطر أبداً على بالي ، في زقاق ضيِّق برز لي رجل أبيض البشرة ، مفتول العضلات ، متوسط القامة أصلع الرأس وكان عارياً تماماً من ملابسه – يامولاي كما خلقتني – تسمرت قدماي في مكانهما وتوقف الزمن لديَّ لثواني معدودات لكنها مرت كأنها ساعات ، ظننت في بادئ الأمر أن هذا الرجل مصرياً ، قلت له على طريقة المصريين: ( عفواً يا باشا ) ، رد عليَّ بسودانية شوارعية خالصة : باشا يا (…..) قد يا زول ، أسرعت فارًا من المكان في طريقي إلى الفندق وأنا مذهول تماماً، سأكذب عليكم إن أخبرتكم أنني استطعت النوم ليلتها وأنا أفكر في هذا الرجل ، قررت أن أذهب صباحاً إلى ذات المكان خاصة وأنه يضج بالسودانيين صباحاً ، ربما أجده هناك، الفضول هو الدافع الكبير لمعرفة سر هذا الرجل .
الملك العريان
بمجرد أن أشرقت شمس القاهرة، توجهت نحو قهوة الموردة وهي المكان الذي ظهر لي فيه شبه شبح ( الملك العريان )، طلبت قهوة الصباح وتبادلت الحديث مع نجاة ست الشاي التى جاءت إلى مصر منذ ثلاث سنوات _ هي أيضاً لديها بطاقة صفراء من الأمم المتحدة – لجوء إنساني – أخبرتها عن الموقف الذي حصل لي البارحة فضحكت وقالت: هذا أيمن ألا تعرفه؟ فقلت لها: لم يحصل لي الشرف قالت : أيمن هذا خرج من السودان منذ 15 عاماً تقريباً لم يخرج كما فعلنا نحن إلى مصر ومنها كما نريد ونحلم إلى بلاد العم سام أو أوربا، أيمن خرج مباشرة إلى أوربا وأعتقد إلى هولندا، ما أعرفه عنه أنه جاء العام المنصرم إلى هنا وكان طبيعياً جداً لكن يبدو أنه أصيب بالجنون، سألتها : وأين أهله ؟. قالت : لديه خالة هنا تأتيه كل مرة وتعطيه مبلغاً من المال كما يقولون قلت لها : هل رأيتيها؟
ردت لا . سألتها: أين أجد أيمن هذا ؟ قالت: في هذا الوقت ستجده في مطعم الخرطوم : تحت فندق الاوبرا بجوار جامع الكيخيا : ذهبت إلى هناك مسرعاً ودخلت إلى المطعم فوجدته جالساً وهو يلبس فانيلة ممزقة الظهر والبطن وبنطال جينز قد تهتك عند الركبتين كان برفقته رجل أنيق يبدو من مظهره أنه شخصية مهمة، جلست إلى الطاوله التى بجوارهم ، أيمن هذا غريب جداً، ففي تلك اللحظة التى جلست فيها سمعت أيمن يتحدث بلغة إنجليزية خالصة مع رفيقه، لغة لا فيها شق ولا بتسمع لها طق ، وجاره يتجاذب معه أطراف الحديث ، بعد أن أكملت فطوري نهضت إليه وجلست إلى جواره بعد انصراف رفيقه، وقلت له: رأيك شنو يا أيمن نمشي نشرب لينا شاي (كارب) نظر إليَّ وقال: جدًا يافردة، لم يسألني من أنت ومن أين تعرفني وماذا تريد؟.
بل على العكس تماماً انسحب معي بهدوء من المطعم وذهبنا إلى القهوة ، أخرج سجائره من كيس كان يحمله في يده، علمت فيما بعد أنها شنطته التى يأخذها معه أينما كان ، تبادلنا على رشفات الشاي أطراف الحديث. أيمن من أبناء أم درمان خرج منذ التسعينات إلى فرنسا ومنها إلى برلين( المانيا) استغل القطار ليوصله إلى أمستردام بهولندا، هناك طاب له المقام وظل في هولندا لقرابة الثمان سنوات يعمل ويجتهد حتى تزوَّج بريفية من هولندا بالغة الجمال، مشكلة أيمن الوحيدة كما يقول عن نفسه أنه صاحب ” أخلاق ضيَّقة ” بعد أن قارب على أخذ الجواز الهولندي دخل في معركة مع مجموعة من الشباب الهولنديين، أمسكت به الشرطة الهولندية وطلبت منه مغادرة البلاد فوراً، من هناك كان على أول طائرة هبطت به إلى قاهرة المعز لم يشفع له زواجه من هولندية، ولا عمله الدؤوب هناك، جاء إلى القاهرة تاركاً وراءه أمستردام.
أخذ أيمن نفساً طويلاً من سجارته وقال لي: هل تعلم أن الهولنديين شعب صغير لكنه بالغ الحيوية والذكاء..أنا احترم هذا الشعب جداً ولذلك أعذر هؤلاء الذين يريدون الهجرة إلى أوربا ، الشعب الهولندي حارب الطبيعة فجفف مساحات شاسعة من البحر واستصلحها وأقام فوقها المدن والقرى ، وجعل من بلاده الصغيرة مزرعة، وأضاف أيمن: أول ما لاحظته على الإنسان في هولندا هو أنه ابن أرضه التي يعتبرونها مزرعة أوروبا، 

الأوروبية كلها.
قال لي أيمن: هل تعلم أين كنت أسكن في هولندا؟
لقد كنت أسكن قريباً من بيت الفنان الهولندي رمبرانت الذي ولد عام 1606 ويعد من معالم هولندا التأريخية ، سألته وأين تسكن الآن؟ ، قال: بجوار جامع الكيخيا تارة وتارة أخرى .. فجأة صمت أيمن وبدأ يكلم الهواء ويضحك بهستيرية حتى أدمعت عيناه . بعد أن سكت قلت له: يا أيمن هل تريد أن تموت كما مات بهنس؟ قال لي: وهل تعرف بهنس؟ قلت: نعم ، بدأ أيمن مهتماً وقال لي: وكيف تعرفه؟
بهنس مريضاً
أخبرت أيمن قائلاً : ذات صباح كنت بانتظار أحد الأصدقاء تحت تمثال إبراهيم باشا اقترب نحوي شاب يصفف شعره ( بوب ) متسخ الملابس وجهه مرهق، عيناه ذابلتان ، وعندما لاحظت أنه يرمقني سألته هل شبهت عليَّ أحد؟ قال: لا، ولكن أريد 2 جنيه لأشرب قهوة .. أخذته من يده وذهبت معه إلى القهوة شربناها معاً، قلت لأيمن: لم أكن أعرف بهنس مطلقاً .. عندما جلست إليه سألته ماذا تعمل فقال : أنا فنان تشكيلي ، كان بهنس يضع أصبعه في فمه ثم يهبط به إلى الأرض ليلامس التراب وبعد ذلك ينهض واقفاً .. كان يكرر هذا الأمر عدة مرات حتى أطلب منه الجلوس، قال لي بهنس إنه مريض وأخرج ملفاً كان يتأبطه وناولني مجموعة من التقارير ، ما لفت انتباهي تقرير ذكر فيه الاختصاصي النفسي أن بهنس مصاب باكتئاب نفسي حاد – أخبرت أيمن بذلك الأمر، ليشكي أنه أيضاً مصاباً بالاكتئاب أيضاً – هنا لاحظت أن أيمن بدأ مندمجاً فواصلت حديثي: نصح بعض السودانيين بهنس بالذهاب إلى المفوضية السامية لشئون اللاجئين ففعل ذلك فطلبت منه المفوضية الذهاب إلى قسم الشرطة لتحرير محضر فقدان لأوراقه ، لكنه لم يعد لأنه لا يملك قيمة المواصلات إلى مدينة 6 أكتوبر حيث المفوضية ، لم أطل الحديث مع بهنس فطرنا سوياً وأعطيته الجنيهين ، لأنني بصراحة كنت مفلساً ولو كان معي أكثر من ذلك لأعطيته، لاحقاً علمت من الناس أن هذا بهنس، حتى سمعت بنبأ رحيله المأساوي.. هنا توجهت إلى أيمن وأعدت له السؤال مرة أخرى ، هل تريد أن تموت كما مات بهنس يا أيمن؟ ، قال لا، أريد أن أعود إلى السودان ، ثم تركني وانصرف.
عصابات وبلطجية
في اللحظة التى تركني فيها أيمن دخل إلى القهوة شاب أعرفه جيدًا يدعى عوض أحد سكان الفتح 2 بأم درمان ، كان أنفه يختبئ وراء الكثير من الضمادات ، ما الذي حل بك يا عوض ؟ رد عليَّ بالأمس كنت أجلس أشرب الشيشة على أحد القهاوي جلس إلى جواري شاب حسن الهندام ، سألني عن مصر فأخبرته أنني جئت إليها قبل شهرين وأعمل بالعاشر من رمضان بأحد المصانع لكنني في طريق عودتي إلى السودان إذ لم يكن الوضع جيداً، يقول عوض: استضفت الشاب ولم يُعرِّفني حتى على اسمه وأنا الغبي بطيبة، بل بسذاجة أعطيته كل شئ عني، وعندما جاءت لحظة الوداع حيث أقيم بفندق أبو الهول قال لي إنه سيوصلني وفي طريقنا كان يهمس في الهاتف، وفي أول منعرج قابلنا خرج لي ثلاثة رجال أشداء غلاظ ، لحظتها باغتني ذات الشخص الذي يجلس بجواره بـ( بنية ) في أنفي حتى سالت دمائي، وأخرج لي أحدهم مطوة وقال: أخرج كل مافي جيبك وإلا لن ترى أهلك أبداً، أقسمت لهم أنني لا أملك سوى هذه الثلاثين جنيهاً وهاتفي، استولوا عليه ثم هربوا إلى أين؟ لا أعرف ومن أين أتوا؟ لا أعرف، فأنا لا أعرف القاهرة جيداً .
السفارة السودانية
نقلت هذا الحديث، وحديث نصب تم لي أنا شخصياً حيث كنت أبحث عن شقة، فركبت مع مجموعة من السودانيين أخذوني إلى مدينة نصر وهناك أروني شقة مفروشة وأخذوا مني ايجار 600 جنيه لسبعة أيام، على أن آتي في اليوم التالي لاستلام الشقة ، لكن عندما ذهبت أخبرني – البواب – ويبدو أنه متفق معهم أن الشقة مأجرة أصلاً.
نقلت هذا الحديث إلى الأستاذ خالد الشيخ القنصل العام لجمهورية السودان بمصر، فقال: هذا ما نعاني منه هنا في مصر . إن السودانيين الذين يقومون بهذه الأفعال يسيئون للشعب السوداني، وذكر لي القنصل حكايتان الأولى أن امرأة سودانية نصبت على أحد المصريين في مبلغ 45 ألف جنيه وتركت أطفالها الثلاثة وراءها، فاحتجزهم المصري وأبلغنا هنا في السفارة فأخبرناه أنه لا يملك الحق في احتجاز الأطفال وهددناه بأننا سنبلغ عنه إن لم يسلمنا إياهم لكننا في المقابل وعدناه أننا سنتابع موضوعه .. ثم نهض القنصل وأخرج لي شنطة ملابس وقال: هل تصدق أن الأم تركت أطفالها الثلاثة وهذه شنطتهم، ثم أضاف: بالأمس فقط أتيت من زيارة لسوداني تكسرت أضلاعه وهو في العناية المركَّزة، حكاية هذا السوداني أنا عمه.
في السودان نصحوه بالذهاب إلى أصدقائه فلان وعلان، استقبلوه في مطار القاهرة، حيث أتى سائحاً ولديه مبلغ مقدَّر من المال ، وطوال الفترة التى قضاها معهم كان ( شديد ) على أمواله ، وعندما يئسوا منه قاموا في ليلة سوداء بتناول الخمر وحاولوا سلبه أمواله إلا أنه هرب إلى البلكونة وأغلقها حوله وظل يستنجد بالمارة فكسروا باب البلكونة والقوا به من الطابق الثالث إلا أن عناية الله شاءت أن لا يلقى حتفه.
وأضاف القنصل : مشكلة السودانيين هذه عويصة جدًا ولقد تبرع لنا الأستاذ علي عثمان محمد طه عندما كان نائباً أول للرئيس بمليون دولار للسفارة فكرنا كيف ننفقها ، لو أعطينا كل سوداني هنا دولاراً واحد فلن ينفع، إذ أن عدد السودانيين هنا أكثر من خمسة ملايين، اهتدى فكرنا أن ننشئ بيتاً للسودانيين، وفعلنا ذلك وهو بالسيدة زينب، به صالات كمبيوتر واجتماعات واستراحات، ومن هنا أنا أنصح السودانيين الذين يأتون إلى مصر بالتوجه إلى هذا المنزل، هناك سنطمئن عليهم على أقل تقدير.
لكني أقول لكم بصدق: أنا لا أستطيع أن أضمن عدم حدوث حالات النصب، فمصر تمتلئ بالسودانيين الذين أصبح لا شغل لهم ولا مشغلة سوى النصب والاحتيال والبلطجة.
أين أهلهم؟
الأستاذ محمد جبارة الملحق الإعلامي لسفارتنا بالقاهرة، قال لي : أنا أتعاطف مع عبدالرحمن كومبارس ولكن شيكا هذا لا أتعاطف معه خذني إلى كومبارس وأنا على استعداد أن أسفِّره، أخبرته بمكانه وأين يجلس وأين يقيم، أخبرته بأيمن وغيره وأن هؤلاء ربما يموتون كما مات بهنس، فقال : السفارة ليست مسؤولة عن كل هؤلاء، أين أهلهم أليس لديهم أهل؟. هنا صمت كثيرًا ثم انسحبت وقررت العودة إلى السودان فورًا ..بأوجاعه ومحنه وإحنه، وكما قالت والدة كومبارس: نار السودان ولا جنة مصر.
تحقيق: عطاف عبد الوهاب
التيار السودانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!