وكالة سودان برس

sudanpress وكالة سودان برس

مقالات د. عبدالوهاب الأفندي

ملاحظات أولية في خارطة طريق الحوار السوداني … “.عبدالوهاب الأفندي”

 أصدرت الآلية التنسيقية لمبادرة الحوار الوطني السوداني (مجموعة 7+7) في مطلع الأسبوع المنصرم وثيقة «خارطة طريق الحوار الوطني»، حددت فيها أهداف الحوار وآلياته ومداه الزمني وطريقة اختيار المشاركين فيه ومواضيع النقاش وبعض آلياته، ثم كيفية تنفيذ ما يتفق عليه. ولا شك أن هذه خطوة طال انتظارها، تعطي الحوار شكلاً ومضموناً وآليات، بعد أن كاد يفقد وجهته ويصبح سبباً جديداً من أسباب الشحناء والخلاف.
وهناك ما يكفي للتشاؤم من تعبير خارطة الطريق في ظل اشتهار هذه التسمية في إطار مبادرة الرباعية الدولية حول القضية الفلسطينية في عام 2002، وهي مبادرة ارتبطت بهجمة شارون الوحشية على الأراضي الفلسطينية، ثم غزو العراق، وما تزال تراوح مكانها حتى اليوم. ومنذ ذلك الوقت أصبح اقتراح «خارطة طريق» مرادفاً لتمويه القضايا والتسويف وتعليق الممكن بمستحيلات لا حصر لها. وهذا يستوجب الحذر من ورطة مماثلة عبر الإصرار على أفق زمني محدد، والتركيز على القضايا المحورية.
وبحسب الوثيقة، فإن أهداف الحوار تشمل «التأسيس الدستوري والمجتمعي في إطار توافقي بين السودانيين ينشئ دولة عادلة وراشدة ونظاماً سياسياً فاعلاً»، إضافة إلى التعاون لتجاوز أزمات السودان، والتوافق على «دستور وتشريعات قانونية تكفل الحرية والحقوق والعدالة الاجتماعية»، وعلى الضمانات التشريعية والمؤسسية «لقيام انتخابات عادلة ونزيهة». ومن نفس المنطلق، تم تحديد ست قضايا أساسية للبحث، وهي السلام والوحدة (أي إنهاء الحروب والنزاعات المسلحة)، والاقتصاد، والحريات والحقوق الأساسية، والهوية، ثم العلاقات الخارجية، و»قضايا الحكم وتنفيذ مخرجات الحوار».
وقد تم اقتراح هيكيلية للمؤتمر تتشكل من ست لجان حسب القضايا المطروحة، ترفع مقرراتها للجنة التنسيقية العليا التي تحيلها بدورها إلى المؤتمر العام المكون من ممثل لكل حزب وحركة (بما في ذلك الحركات المسلحة التي تقبل المشاركة)، إضافة إلى «50 من الشخصيات الوطنية وأعلام وقيادات المجتمع (يتفق عليهم)». ويرأس المؤتمر الرئيس عمر البشير أو من ينوب عنه، وهو يرأس كذلك اللجنة التنسيقة العليا التي تحدد من يشارك في المؤتمر وموضوعاته وتشرف على عمل لجانه. كما اقترح تشكيل أمانة عامة للحوار «تتكون من شخصيات وطنية من ذوي الخبرة والاختصاص يتفق عليها (دبلوماسيون سابقون، عاملون بالمنظمات الدولية، وأكاديميون من الجامعات المختلفة… إلخ)»، تتولى «متابعة جلسات اللجان والمؤتمر، وكتابة محاضر التداول وتحرير نقاط التوافق والاختلاف ورفعها للجنة التنسيقية العليا.» كما تتولى الأمانة توفير الدراسات وتوثيق أعمال المؤتمر.
وهناك مقترح كذلك بأن يرأس لجان المؤتمر «خبراء مقتدرون (يتفق عليهم)»، إضافة إلى تسمية «عدد لا يتجاوز الخمسة من الموفقين من الشخصيات الوطنية تكون مهمتهم التوفيق بين أطراف الحوار». وأخيراً اقترح دعوة الاتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية، لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوى وجهات أو أشخاص يتفق عليهم لأن يكونوا مراقبين. وتتخذ قرارات المؤتمر بالتوافق، وإن تعذر فبأغلبية 90% من الحضور، ويشمل التوافق آليات التنفيذ، على ألا تزيد فترة الحوار على ثلاثة أشهر. واتفق كذلك أن تسبق الحوار إجراءات لتهيئة المناخ وبناء الثقة، تشمل إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، وكفالة الحريات السياسية والتأمين الكامل على حرية التعبير والنشر. واقترح كذلك الحد من «خطاب الكراهية والتراشق الإعلامي»، تقديم ضمانات لسلامة حملة السلاح المشاركين، مع وقف كامل لإطلاق النار.
ولا شك أن هنالك كثيراً من الإيجابيات في هذه المقترحات. فلو أن مقترحات تهيئة المناخ وحدها نفذت لكان هذا في حد ذاته مكسباً كبيراً. ولكن هناك ملاحظات عدة على هذه المقترحات، أولها يتعلق بمواضيع الحوار. ففي نظرنا ان تناول أمور مثل الاقتصاد والعلاقات الخارجية مضيعة للوقت، لأن مثل هذه الأمور من اختصاص الحكومة المنتخبة، ومرتبطة بظروفها. ولن تستطيع اللجان سوى تقديم مبادئ عامة لا خلاف عليها ولا إلزامية لها. في نفس الوقت فإن أي نقاش حول الهوية سيكون من قبل السفسطة، لأن قضايا الهوية لا تحسمها مؤتمرات، وهي أمور خاضعة للنقاش المستمر من قبل المفكرين والأدباء والفنانين والشخصيات النافذة في المجتمع. أما الهوية السياسية فهي كذلك نتاج توازنات معقدة، وتفاعلات تحكمها أوضاع كل فترة. وبالتالي ليس هناك فائدة تجنى من الدخول في هذا الجدل، وهو جدل لن تحسمه مجموعة صغيرة من الساسة في ثلاثة أشهر على أي حال. وعليه يجب أن يتركز الحوار على قضايا وقف الحرب، وآليات التعايش، وأن تكون الدولة للجميع بدون تمييز على أسس دينية أو عرقية أو جهوية، وآليات التحول الديمقراطي، والضمانات المطلوبة لكل المشاركين في العملية السياسية.
وهذا يقودنا إلى نقطة جوهرية لم تتطرق إليها الوثيقة ولا أي من المداولات التي تكاثرت في العقدين الماضيين، وهي الضمانات لأهل السلطة في حال تغيير النظام. ذلك أن النجاح الحقيقي للحوار لا بد أن يتلخص في جعل احتمال تغيير النظام حقيقة. وإذا كان المتحاورون يطلبون من قيادات نظام جثم على صدر البلاد ربع قرن أن يتركوا مقعد السلطة طواعية ويتراجعوا إلى الصفوف الخلفية، فلا بد من مواجهة عواقب مثل هذا التغيير. فمن السذاجة افتراض أن يتخلى البشير وقادة الأجهزة الحزبية والأمنية، وزعماء الميليشيات عن سلطاتهم، ثم يسلموا أنفسهم للمعتقل والمقصلة طائعين. فلا بد إذن من التوافق على ضمانات لمن يتخلى عن السلطة طوعاً. وهذا يفترض قيام لجنة لمناقشة قضايا الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية ونحوها، ولعلها تكون اهم لجان المؤتمر.
من جهة أخرى فان تحديد ثلاثة أشهر لهذا الحوار هو من باب التفاؤل المفرط إن أحسنا الظن، ومن باب التغافل عن أهمية وحيوية القضايا موضوع النقاش، إن لم نفعل. ولا شك أن تحديد عام على الأقل للحوار هو أقرب المقترحات واقعية. ولن تعترض الأحزاب المشاركة على هذا المقترح لو تم تنفيذ إجراءات تهيئة المناخ من إطلاق للحريات ونحوها، وستوافق على التمديد للحكومة الحالية وتأجيل الانتخابات لعامين على الأقل، خاصة إذا تم توسيع تمثيل المعارضة في الحكومة.
أخيراً فإن قضية التنفيذ – والقابلية للتنفيذ- هي جوهر المسألة. فلا خلاف على أن الدستور الحالي، وهو دستور تم التفاوض حوله بصبر واهتمام بالتفاصيل في نيفاشا، وشهد عليه دبلوماسيون وخبراء دوليون من العالم أجمع، يجسد كل المبادئ التي يسعى الحوار لتحقيقها من «دولة عادلة وراشدة»، وكفالة الحقوق والحريات. ولكن المشكلة هي في الشق الآخر من التمنيات بإيجاد «نظام سياسي فاعل». ويكفي أن مقترحات «تهيئة المناخ» من إطلاق سراح المعتقلين وإطلاق حريات هي تنفيذ لما هو مضمن في الدستور. وهذا يعني أن الحكومة القائمة ظلت تخالف دستورها، مما كان يجب أن يوقعها تحت طائلة العقوبة لو كان هناك قضاء مستقل. وعليه فإن محور الاهتمام يجب أن يكون آليات تطبيق المتفق عليه من جهة، وعلى رأس ذلك ضمانات حيادية القضاء ومؤسسات الدولة الأخرى، وقبل ذلك واقعية المقترحات. ويندرج في هذا ما أشرنا إليه من التوافق حول آليات الانتقال الديمقراطي والضمانات لكل الأطراف. ذلك أن توقع التزام النظام بتوافقات لا تشمل هذه الضمانات من قبيل الوهم وخداع الذات، وبالتالي مضيعة للوقت والجهد، وخلق آمال كاذبة عند الشعب.
هنالك أخيراً نقطة «خطاب الكراهية»، وهي قضية محورية بدورها، ولكنها تحتاج إلى معالجة مستقلة.
د.عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!