الحصانة امتياز يمنح لبعض شاغلي المناصب في الدولة أقرته القوانين الدولية والمحلية، والمتمتع به تمنحه الحصانة ميزة عدم الخضوع لأحكام القوانين العامة في الدولة في ظروف معينة أو بصفة جزئيه. لكن في الآوانة الأخيرة صارت الحصانة من أكثر العقبات التي تعيق تحقيق العدالة، وأصبحت إشكالية حقيقية تؤرق القانونيين وتشغل الأوساط الاجتماعية جراء المصاعب في مقاضاة المتمتع بالحصانة، حيث تطول فترة منح إذن رفع الحصانة من قبل المدعي العام ما يؤدي لتعطيل مجرى العدالة، وضياع الحقوق..
سوابق ونماذج
من النماذج في هذا السياق، هناك العديد من القضايا التي أحد أطرافها الذين يتمتعون بالحصانة، لم يتمكن الشاكون فيها الوقوف مع خصومهم أمام منصة القضاء للفصل فيها، منها أحد رجال الأعمال الذي يتهم وزير اتحادي بأنه سبب فقدانه لكل ثروته وإعلانه لإفلاسه عام «2003»، بعد أن خدع ابنه وعرض عليه مشروعات استثمارية وهمية، ومن ثم استولى على كل أمواله، ومن حينها يحاول الدخول معه لقاعة المحكمة ليقول القضاء كلمته غير أنه لم يتمكن من مقاضاته حتى الآن بسبب الحصانة التي فشلت كل محاولاته في رفعها عن الوزير حتى يقف معه أمام القضاء رغم اعتراف الوزير بجريمته كتابة وبخط يده باستلام أموال وآليات زراعية، وأما حالة وزير الإرشاد والأوقاف الأسبق أزهري التجاني الذي تمت تبرئته بحكم قضائي في قضية شهيرة تعتبر من السوابق القضائية النادرة في الآوانة الأخيرة التي أحد أطرافها وزير اتحادي، وقف في قاعات المحاكم متهماً بعد أن رفعت حصانته، ليخرج بعد أن أخلت المحكمة سبيله بالبراءة لتصبح واقعته سابقة قانونية يحتج بها القضاء الواقف «المحامين» مستقبلاً في القضايا المشابهة.
المتمتعون بالحصانة
يقول المستشار القانوني د. خليل حسن الخليفة إن الحصانة في الأصل ابتدعت لأداء الأعمال الوظيفية. ويمضي خليل شارحاً الحصانة وفق القوانين السودانية السائدة، مبيناً أنها تنقسم لنوعين، إجرائيه وموضوعية، وتمنح للشخص حسب طبيعة منصبه، والأشخاص الذين يتمتعون بالحصانة هم أصحاب المناصب الدستورية «الوزراء والولاة»، وأعضاء الجهاز التشريعي «البرلمان»، ومنسوبو الأجهزة العدلية من القضاة والمستشارين ووكلاء النيابات والمحامين، والقوات النظامية من القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن بجانب الدبلوماسيين، مؤكداً أنها ميزة خاصة بالوظيفة وليس الشخص كمفهوم سائد الآن. وزاد: الحصانة لا تعني حجب تطبيق النظام القانوني على الشخص المتمتع بها، بل أن تسري عليه المحاسبة القانونية وفق الإجراءات التي تضمن سلامة العمل الذي يقوم به ذلك الشخص.
مشكلة نصوص
ويرى الخليفة أن مشكلة الحصانة في السودان تكمن في النصوص إذ أن هناك قصوراً في النصوص، اذ اكتفى المشرع بمنح امتياز الحصانة مع تحديد الجهة التي تمنح الإذن لمباشرة الإجراءات في غير حالات التلبس، ويضيف: لكن القانون لا يلزم تلك الجهة بالرد على الطلب المقدم من صاحب المصلحة، ولم يحدد فترة زمنية، كما صمت القانون عن تحديد الإجراءات الواجب اتباعها في حال رفضت تلك الجهة منح إذن رفع الحصانة لمباشرة الإجراءات، وهنا يطرح تساؤلات: هل تشرع النيابة في مباشرة الإجراءات مخالفة بذلك القيد القانوني؟ أم تحتفظ بالبلاغ مهملة بذلك الحق العام؟ لتصبح بعدها النيابة بين سندان القيد ومطرقة الجهة المختصة، مقابل المجتمع الذي أصبح يعمه السخط من تمنع البعض وتعنت الآخر. ويختتم خليل أن الحصانة في النظام السوداني ذات نطاق واسع حتى تكاد تكون ثلث الوظيفة العامة، وهذا مكمن الخطر على كفالة مبدأ سيادة القانون في ظل انعدام الوعي المطلوب، لذلك لا بد من سد ثغرات القواعد الإجرائية بوضع حلول تتبعها النيابة حال رفضت الجهات المختصه منح الإذن، أو في حالة عدم الرد.
إخفاء وهروب
في ذات السياق، تحدث إلينا مصدر قوي الصلة بالأمر ــ فضل حجب اسمه ــ قال إن البطء والسلحفائيةأكثر ما يعطل الإجراءات المتبعة في رفع الحصانة التي قد تستغرق عاماً أو نصف العام، وقد لا يأتي الرد على الخطاب، الشيء الذي جعلها عاملاً مساعداً بدرجة كبيرة في إخفاء آثار الجريمة أو هروب المتهم، مطالباً بوضع تنظيم إداري لا مركزي محكم لرفع الحصانة، ويكون مرتبطاً بالجهات الاتحادية. مبيناً أن الحصانة إجراء لا يتم بموجب منشور أو لائحة، بل وفق القانون الذي يسنه البرلمان السلطة التشريعية، وهذا أساس في منح الحصانة، ويحدد مدى وجوب منحها، حتى تمكن الشخص من القيام بالعمل العام.
تقليل الحصانات
فيما ذهب رئيس لجنة التشريع والحكم المحلي بالمجلس التشريعي بولاية الخرطوم علي أبو الحسن في حديثه، إلى أن الحصانة تمنح وفقاً للمادة 180 الفقرة «5» من دستور 2005م، وتنص على أن الولاة والوزاء وأعضاء المجالس التشريعية يتمتعون بالحصانات، مؤكداً عدم وجود قانون موحد لمنح الحصانات، إنما يتم ذلك وفق عدة قوانين وطبقاً للحقوق الدستورية التي يتمتع بها بعض العاملين في الدولة من الدستوريين والدبلوماسيين والعسكريين، ويضيف: أما الحصانة الإجرائية هي التي يدور حولها الحديث نسبة لدخول العديد من أصحاب الحصانات تحت مظلتها، إذ لا تتبع معهم الإجراءات العادية بحكم وظيفتهم ومنصبهم باعتبارهم ليسوا كالمواطنين العاديين، لأن تلك الإجراءات قد تعطل العمل العام، ولكن عند الوصول للقضاء الجميع سواء. مشدداً على ضرورة تقليل عدد الحصانات الممنوحة نسبة لدخول العديد من الأشخاص تحت مظلتها حتى يعيش المجتمع جواً من الطمأنينة العدلية في ظل شفافية كاملة. واقترح أبو الحسن أن تكون الحصانات لكبار الدستوريين والتشريعيين والدبلوماسيين ورجال السلك القضائي مع الوضع في الاعتبار استعجال إجراءات رفع الحصانة متى استدعى الأمر حتى لا يضار أحد، لأن الإجراءات المتبعة لرفع الحصانة معقدة بسبب العمل الروتيني المتبع فيها، وتساءل: لماذا لا يوكل أمر رفعها لجهات قانونية، مثلاً أن تكون هناك نيابات متخصصة تطلع على ملف القضية وتقرر فيما إذا كانت هناك حاجة لرفع الحصانة لتقليل عامل الزمن والإجراءات، مشيراً إلى أن هناك قضايا تم رفع الحصانة عن مسؤولين وتمت محاكمتهم، مضيفاً أن الحصانة في حد ذاتها لا تمثل إشكالية لكن العلة أن أصحاب الحصانات يسيئون فهم استخدامها، وهذا يحتاج لثقافة عالية ودرجة عالية من الفهم، حتى لا يساء استخدام السلطة، لذلك لا بد من إعادة النظر في مسألة الحصانات خلال التعديل الدستوري القادم.
مراجعة شاملة
واتفق رئيس نيابة الثراء الحرام والمشبوه مولانا مبارك عثمان محمود مع مولانا أبو في أن الحصانة ليست مشكلة في حد ذاتها، وأضاف مولانا مبارك أن المادة «35» من قانون الإجراءات الجنائية هي الأساس القانوني لمسألة الحصانة التي تمكن صاحبها من أداء مهامه، وأصل المشكلة ليست في الحصانة، وإنما الجهة المطلوب منها إصدار قرار رفع الحصانة والتي يفترض أن تكون استجابتها سريعة، لكن نسبة للأعباء التي تقع على عاتق هذه الجهة المنوط بها رفع الحصانة والتي غالباً ما تكون موكلة لشخص في قمة الهرم والذي يكون في حالة انشغال دائم، لذلك تجد من أكبر الإشكلات التي تواجه الجهات العدلية الإجرائية، مسألة تسليم صاحب الحصانة للتحري معه، بسبب الإجراءات الطويلة والمعقدة، ونادى مولانا بعمل مراجعة شاملة للقوانين التي نصت على الحصانات، وأن توكل مهمة رفع الحصانات للمستويات الأقل لتسهيل الإجراءات، وذلك وفق ترتيب وتصنيف المسؤولين المتمتعين بالحصانة، وشدد على ضرورة احترام سيادة القانون لأن الدول تقاس حضارتها ورقيها باحترمها للقانون، واتفق مبارك أيضاً مع أبو الحسن في تقليل الحصانات وحصرها في نطاق ضيق، مشيراً إلى أن القوانين التي تنص على الحصانة تبلغ «24» قانوناً. وأضاف أنهم كنيابات يقومون بإجراءات تحري للاستوثاق من وجود أمر ملح لتقديم طلب لرفع الحصانة، مبيناً أن التحري الأولي يستغرق زمناً طويلاً خاصة في عملية تسليم صاحب الحصانة للاستجواب الأولي، وهذا طبعاً يعيق تحقيق العدالة بجانب أنه يضعف المعلومات، وتقييم البينة لأن العدالة تتطلب السرعة غير المخلة.
رفض البرلمان
بعد محاولات استمرت أكثر من أسبوعين مع ريئسة لجنة العدل والتشريع بالبرلمان تهاني تور الدبة لنظفر بإفاداتها حول الحصانات، وبعد طول انتظار أبلغتنا عبر السكرتارية: ليس لديها ما تقوله فيما يتعلق بالحصانات بالرغم من أنها رئيسة لجنة العدل بالبرلمان وشخصية ضالعة في القانون. واكتفينا بهذا الرد المتنصل من البرلمان.
مشغولية
بعدها توجهنا صوب مكتب المدعي العام بوزارة العدل وسلمنا سكرتارية مكتبه كل تساؤلاتنا المتعلقة بالإجراءات المتبعة في عملية رفع الحصانة مكتوبة في خطاب باسم الصحيفة حسب طلبها من شاكلة: ما الكيفية التي يتم بها رفع الحصانة، وأسباب تأخر الرد الذي تشكو منه الجهات المختصة، وفي كثير من الأحيان لا يتم الرد على الطلب المقدم، بجانب طلبنا الإفصاح عن عدد الحصانات التي رفعت خلال العام الماضي؟ وهل هناك دستوريون وتشريعيون ورجال من السلك القضائي والدبلوماسي تم رفع حصانتهم وتقديمهم للمحاكمة؟ وللأسف شربنا من ذات الكأس التي ظلت تشرب به الجهات العدلية الطالبة رفع الحصانة بتجاهل طلبها أو تأخير الرد عليها، انتظرنا لأكثر من شهر ولم يأت الرد حتى كتابة هذه السطور!! وتتحجج السكرتارية أن المدعي العام مشغول لتوليه مسؤولية منصبي المدعي العام ووكيل وزارة.
تحقيق: أم بلة النور
صحيفة الإنتباهة
error: Content is protected !!