انشغلنا في ما مضى من أيامنا عن تناول الشأن السوداني بالقضايا الكبرى (كما تقول النكتة المعروفة عن الزواج السعيد)، مثل فلسطين والعراق ومصر والخليج وغيرها، بسبب ما تواتر من أحداث جسام. ولكن سكوتنا المؤقت عن حال السودان لم يعن أن الأمور هناك بدأت تسير على مايرام، بل إن التدهور للأسف ازداد على أكثر من صعيد. فالاقتصاد السوداني انهار تقريباً، وتشهد البلاد هذه الأيام هجرة جماعية للكفاءات لم تشهد مثلها إلا في حقبة الطفرة النفطية في منتصف السبعينات ثم أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات.
وقد أعطت أحداث اخرى، مثل الاعتداء الغاشم على الصحافي المميز عثمان ميرغني وطاقم صحيفته في مكاتبهم، الانطباع بأننا أصبحنا في عهد يسود فيه حكم العصابات وقطاع الطرق. ولا يختلف ما تنفذه وزارة الصحة الولائية في الخرطوم من إجراءات كثيراً في أسلوبها ونتائجها عن سلوك العصابات، من تفكيك لمستشفيات العلاج المجاني لصالح مؤسسات بيع العلاج، خاصة وأن وزيرها من كبار المتاجرين في هذا المجال، مما يجعله زعيم عصابة وشرطي في نفس الوقت! وكانت ثالثة الأثافي كارثة الأمطار والسيول التي دهمت البلاد خلال الأسبوعين الأخيرين فدمرت آلاف المنازل، وقتلت العشرات وشردت الآلاف، يواجه كثير منهم الآن الخطر على حياته من الأمراض وغيرها. وقد وجدت هذه الكارثة كبار المسؤولين مشغولين بدورهم ب «القضايا الكبرى»، وهي عندهم الشأن الشخصي، وتكميم الأفواه والاعتداء على الصحفيين الذين يقولون الحق، وغير ذلك من أمور تهم النظام المتداعي وبقاءه الذي أصبح مكلفاً على الأمة.
ولكن المشكلة الأكبر تبقى هي تعثر مشروع الحوار الذي جرى التوافق عليه منذ أشهر طويلة، ولكنه ظل يراوح مكانه، بل يتراجع إلى الخلف بخطىَ حثيثة. وفي نظري ليست المشكلة الأساس هي عدم جدية النظام في الحوار، واضطراب توجهاته وصراعاته الداخلية التي تشي بإشكالات في الحوار بين أقطابه. إنما المشكلة هي أن نظاماً يدعي الثورية، وظل ممسكاً بالسلطة غير المنازعة لأكثر من ربع قرن، يحتاج إلى الحوار مع عين القوى التي أزاحها أو حاربها في بداية عهده. وهذا يعني أن هذه ثورة فاشلة بامتياز، لأن من شأن الثورة الناجحة أن تخلق وضعاً سياسياً جديداً لا عودة بعده إلى ما سبقه، كما حدث في الثورات الفرنسية والأمريكية والروسية، وحتى في الثورات الأقل شأناً في مصر واليمن واثيوبيا. فلم نسمع مثلاً أن نظام اثيوبيا يتفاوض مع ورثة هيلاسيلاسي أو حتى أنصار منغستو. وقس على ذلك.
أما نظام الإنقاذ الذي وثب إلى السلطة بحجة أن حكومة السيدين وقتها تساهلت أكثر من اللازم مع الحركة الشعبية، فقد انتهى به الأمر إلى مشاركة الحركة الشعبية السلطة ثم إعطائها ثلث السودان فدية، دون أن يخلصه ذلك من الصراع معها. وقد قام كذلك باستقطاب السيدين وإدخال أبنائهما وأتباعهما في نظامه، بدون أن ينهي ذلك صراعه مع حزبيهما. فنحن أمام نظام فشل في القضاء على القوى التي ثار عليها، وفشل حتى في إقناعها بتقبله ومشاركته في السلطة التي انتزعها منها عنوة.
إضافة إلى ذلك، فإن سياسات النظام الخرقاء في دارفور وغيرها خلقت له أعداء جددا ينازعونه السلطة، وعليه فإن وضعه صار أسوأ من الوضع الذي ثار عليه. ورغم أن النظام حقق بعض النجاح في المجال الاقتصادي عبر استخراج النفط وبعض مشاريع التنمية، إلا أنه أهدر هذه الإنجازات عبر الفساد والسياسات الاقتصادية النيو-ليبرالية، وأخيراً بإضاعة نفط الجنوب، بحيث أصبحت إنجازاته الاقتصادية تحسب عليه لا له. ذلك أن تطلعات الكثيرين وتوقعاتهم ارتفعت مع تدفق أموال النفط وزيادة الفرص، ولكن عدم العدالة في توزيع الفرص والموارد، والتفاوت في الحظوظ منها، ثم نضوب هذه الموارد، خلق وضعاً فاقم من الاحتقان السياسي.
جوهر الأزمة إذن هو عجز النظام عن الحكم، وليس عجزه عن الحوار. فقدرة أي نظام –أو أي جهة أخرى- على الحوار تستند إلى الثقة بالنفس والاطمئنان على الإنجازات. فعندما ينضج النظام الثوري، تكون الثورة قد حققت أهدافها ولم يعد هناك مجال عودة للوراء، وتكون أهدافها قد اكتسبت شرعية شعبية واسعة بحيث لا يخشى عليها. وهذا يتطلب أن يحقق النظام الثوري إنجازات حاسمة في القطاعات موضوع النزاع، كما حدث في أمريكا في مجال الحريات، وفي فرنسا وروسيا في مجال المساواة وإنهاء الإقطاع والحكم الأرستقراطي، بحيث لا تصبح العودة إلى ما سبق من استعباد الإنسان لأخيه الإنسان مجرد موضع نقاش.
ولكن ما حدث في السودان كان العكس، حيث رفعت ثورة الإنقاذ رايات تتعلق بتعزيز الهوية الإسلامية للبلاد واستقلالها الاقتصادي والسياسي. ولكن ما حدث هو أن النظام ربط الإسلام (أو على الأقل الحركات الإسلامية) بالفساد والقمع وعدم المساواة، حتى أن كثيراً من الإسلاميين أصبحوا يناصبون النظام العداء، ويعترضون على ممارساته، وقد خرج عليه كثيرون. كما
أنه أضعف البلاد اقتصادياً وسياسياً، وجعلها أقل قدرة على الاستقلال بأمرها مما كان عليه الحال أولاً. فهناك اليوم جيوش أجنبية متعددة ترابط داخل البلاد لتؤدي واجبات كان الأولى بجيش البلاد أداؤها، بينما يحتاج النظام إلى وسطاء كثر للتفاوض مع أفراد شعبه. وهذا وضع لم تتورط فيه أكثر الأنظمة ارتهاناً للخارج. وعليه فإن النظام كان نكسة على الشعارات التي رفعها والقضايا التي يتبناها.
وفوق ذلك، فإن الإشكال ليس فقط حول إنجازات الثورة، بل حتى عن أمن قادة النظام وأنصارهم. وبدون اطمئنان أركان النظام على أمنهم الشخصي ومكتسباتهم الشخصية من أموال وعقار وغيرها، فضلاً عن الأمن على عدم تسليم الأمر لخصوم ينقضون ما بنى هؤلاء من بعد قوة أنكاثاً، فمن غير المعقول تصور أن يتم التفاوض على انفتاح يكون فيه مصير قادة النظام، فضلاً عن إنجازاته وأهدافه، غير مضمون.
إذن الحوار الحقيقي لا بد أن يبدأ بتصحيح وضع النظام، وإقصاء الفشل ورموزه، وكذلك الإتيان بوجوه مقبولة من بقية القوى السياسية. وهذا يعني إجراء تغيير جذري في قمة وتركيبة السلطة الحالية التي لم تدمن الفشل فقط، بل أدمنت كذلك إقصاء الناجحين والوجوه المقبولة شعبياً، بحيث أغلقت نفسها على الفاسدين المفسدين والفاشلين والأفشل. فقد آن الأوان أن يواجه المسؤولون الحقيقيون نصيبهم من المسؤولية عن هذا الفشل المزمن، وإفساح المجال لمن قد يكون أقدر على مواجهة تحديات المرحلة. وليس كافياً ما تم خلال الفترة الماضية من تغييرات في الوجوه وترتيب الكراسي، لأن جوهر النظام باقٍ على حاله، من حيث منهجه الممعن في الفشل والانغلاق وعدم القدرة على التعامل مع التحديات الماثلة.
إذن الحوار يبدأ من خلق نظام قادر على الحوار، مع نفسه أولاً، ثم مع الآخر ثانياً. وإلا فإن القضية ستحسم نفسها بنفسها عبر الانهيار الكامل للنظام وربما للبلد، كما حدث في غير مكان من حولنا. فالنظام السوداني، مثله مثل غيره من أنظمة فاشلة، إما أن يغير نفسه وإما أن يتم تغييره، وليس التشبث بوضع قائم معتل إلا وصفة لموت كارثي. والإشكال هو أن الكوارث التي يسببها انهيار مثل هذه الأنظمة، كما حدث في الصومال وليبريا، ويحدث حالياً في سوريا والعراق، هو أنها لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، بل تدمر البلاد وما فيها ومن فيها.
القدس العربي
د. عبدالوهاب الأفندي
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
error: Content is protected !!