“الصراع حول مياه النيل” … تقرير شامل

قليلا ما يتم إيفاد مدير المخابرات العامة المصرية في مهمة دبلوماسية رسمية، لكن مصر لم تعرف على مدار تاريخها هذا القدر من التهديدات على جبهتها الجنوبية، حيث كان جنوب السودان يستعد لإجراء استفتاء للاستقلال عن الشمال، استقلال بذلت القاهرة جهدها لسنوات من أجل منعه أو تأجيله قبل أن يصبح حقيقة واقعة، وحينها لم يعد هناك بديل أمام القاهرة سوى القبول بالأمر الواقع وبسط العلاقات مع الحكومة الجنوبية المنتظرة.
كان قيام دولة جديدة في حوض النيل إضافة لمعضلة أخرى في ظل أوضاع معقدة بالفعل، فللمرة الأولى تقدم دول حوض النيل في تاريخها على التصرف في النهر خارج سيادة القاهرة، بعد أن اجتمعت ست من دول المنبع في عنتيبي بأوغندا ليوقعوا اتفاقية تنهي في جوهرها هيمنة مصرية تاريخية على نهر النيل، وتهدد حصة مصر في مياه النهر.
في تلك الأجواء، كانت مهمة “عمر سليمان” الرسمية وقتها تتمحور حول إقامة جسر وسط الخلافات الداخلية في الائتلاف الحاكم من أجل تمهيد الأجواء لإجراء الاستفتاء بأقل قدر ممكن من الاضطرابات حول النيل، إضافة لمحاولة احتواء الدول الناشئة مبكرا، عبر تأكيد نوايا القاهرة في التعاون: 300 مليون دولار كمنحة إنمائية، و30 بعثة تعليمية لطلاب الجنوب في الجامعات المصرية، واتفاق على التعاون في مشاريع المياه والري. كانت مجرد تعهدات مبدئية للقاهرة حملها سليمان برفقة وزير الخارجية حينها أحمد أبو الغيط، ولكن على المستوى غير الرسمي كانت مهمة مدير المخابرات العامة أكثر تعقيدا بكثير، وتمثلت في إقناع الرئيس السوداني عمر البشير باستضافة فرقة من قوات الكوماندوز المصرية استعدادا لتدخل محتمل ضد سد تقيمه إثيوبيا على النيل.

كان البشير يشعر بالقلق حول إمكانية تأثر حصة بلاده المائية بفعل الخطوات الإثيوبية، لذا فقد استجاب سريعا للطلب المصري ووافق على السماح لمصر ببناء قاعدة جوية صغيرة في كوتسي لاستيعاب القوات المصرية، وفقما ورد في البرقية الدبلوماسية التي سربتها ويكيليكس. ورغم أن مصر لم تكن تفضل التدخل العسكري، إلا أن الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك قرر الاستعداد له كخيار أخير خاصة بعد ما لمس تعنتًا من إثيوبيا التي قررت بناء سد ثالث على النيل غير عابئة باعتراض القاهرة. أما بالنسبة للعسكريين المصريين، فقد كانت تلك مهمة بسيطة للغاية، حيث ستذهب الطائرات المصرية لقصف السد وتعود في اليوم نفسه، أو ربما يتم تفجيره سرا بمساندة قوات التدخل السريع لرفع الحرج الدبلوماسي، وفي كلا الحالتين، فإن مصر تحمل في أرشيفها العسكري سجلا لعملية مماثلة وقعت منتصف السبعينيات حين تدخلت لقصف معدات بناء سد نقلت عبر البحر قبل أن تصل إلى إثيوبيا.
لم يكن ذلك الخلاف المصري الإثيوبي أمرا جديدا بحال، فلدى القاهرة ودول منبع حوض النيل -وبالأخص إثيوبيا- تاريخ طويل ومعقد من الخلافات حول النهر، خلافات تقع في القلب منها تلك المعاهدات المستندة إليها مصر في إثبات أحقيتها التاريخية في مياه النيل. ويرجع أساس الخلاف إلى أن معظم هذه الاتفاقيات لم توقع عليها إثيوبيا أبدا، وهي تراها بمثابة أدوات استخدمها الاستعماريون لتوزيع المنافع بين مستعمراتهم في مصر والسودان في عملية همشت بشكل متعمد مصالح باقي دول الحوض.

نتيجة لذلك، أمضت القاهرة وأديس أبابا الجزء الأكبر من تاريخهما الحديث في صراع حول محاولات تأمين تدفق المياه حول نهر النيل، فحتى خلال الحقبة الإمبراطورية حين كانت إثيوبيا أقل تطورا وأقل حرصا على استغلال مواردها المائية، ظلت مصر – على الرغم من قوتها- تشعر بالقلق إزاء قدرة أديس أبابا على تقييد إمدادات المياه إليها لأي سبب، في حين كانت إثيوبيا متخوفة من أن يدفع القلق القاهرة للتدخل في سياستها الداخلية بهدف إبقائها ضعيفة وغير متطورة، وقد كانت هذه المخاوف المتبادلة بمثابة نبوءة ذاتية التحقق ألقت بظلالها السيئة على مسار العلاقات بين البلدين لفترة طويلة.
شريان الحياة .. والدماء
في جميع الحالات المماثلة للأنهار حول العالم، غالبا ما تتمتع دول المنبع بنفوذ يفوق كثيرا دول المصب، ولكن مع نهر النيل على وجه الخصوص كان العكس هو الصحيح دوما. وقد نشأ هذا الوضع المتميز خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، ومع الطموحات المتزايدة لحاكم مصر الطموح “إسماعيل باشا” لتوسيع نفوذه في القارة وإنشاء مملكة تسيطر على كامل حوض النيل الأزرق والشاطئ الغربي للبحر الأحمر. وبحلول عام 1867 كانت مصر قد سيطرت بالفعل على معظم أنحاء السودان، بالإضافة إلى “مصوع” التابعة حاليا لدولة إريتريا. ولكن رؤية إسماعيل باشا كانت تتطلب ما هو أكثر من ذلك، وعلى وجه التحديد تطلبت إحكام السيطرة على باقي أراضي السودان إضافة لإثيوبيا، ما دفعه لحشد جيش كبير ضم إليه ضباط أوروبيين وجنرالات سابقين شاركوا في الحرب الأهلية الأمريكية، وبدأ في اقتحام الحدود الأثيوبية عبر مصوع، ولكن إثيوبيا نجحت في صد الحملة العسكرية المصرية مرتين متتاليتين.
أدت هزيمة مصر في إثيوبيا لفقدان جيشها للكثير من نفوذه الرمزي في إفريقيا، ودفعت المناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة مصر للتمرد ضد سلطتها، بداية من الحركة المهدية في شمال السودان وصولا إلى مصوع نفسها، قبل أن تخضع المنطقة بأكملها -باستثناء إثيوبيا معظم الوقت- للاحتلالين البريطاني والإيطالي. ومع مطلع القرن العشرين كانت الإمبراطورية البريطانية قد رسخت سلطانها في القارة مبرمة معاهدة لترسيم الحدود بين إثيوبيا والسودان وأريتريا عام 1902، وهي معاهدة حظرت على إثيوبيا إنشاء أي أبنية على النيل يمكنها أن تحول دون تدفق المياه، ورغم أن تلك المعاهدة كانت معاهدة لترسيم الحدود، بما يعني أن مصر لم تكن طرفا فيها، إلا أن بريطانيا كانت حريصة على ضمان سريان المياه لمصر التي كانت واقعة هي الأخرى تحت سيطرتها.
في وقت لاحق، وتحديدا عام 1929، قامت بريطانيا بالتصديق على اتفاق مع مصر والسودان لتوزيع حصص مياه النيل، وبموجب هذا الاتفاق تم منح كل من القاهرة والخرطوم حصصا سنوية تقدر بـ 48 مليار متر مكعب للأولى و4 مليارات متر مكعب للثانية من إجمالي 84 مليار متر مكعب (باقي الحصة يتم إهدارها عبر التبخر على طول مسار النهر)، وبالإضافة لذلك فإن الاتفاقية منحت مصر حق النقض (الفيتو) ضد أي مشروعات إنشائية على النيل يمكن أن تعيق تدفق المياه.
بعد قيام ثورة الضباط في مصر مطلع الخمسينيات، ثم استقلال السودان عن مصر في منتصف العقد نفسه، تم توقيع الاتفاقية الأحدث حول تقسيم مياه النيل في عام 1959 بين مصر والسودان، ورفعت الاتفاقية الجديدة من حصة مصر من المياه لـ 55 مليار متر مكعب وحصة السودان لـ 18 مليار متر مكعب، وأنشأت عددا من المشاريع المشتركة للحد من فقدان المياه عبر التبخر في بعض أجزاء النيل، ولكن الاتفاق من جديد لم يخصص أي حصة من الماء لأثيوبيا رغم أن 85% من مياه النيل تنبع من أراضيها.
بدأ نظام عبد الناصر في تغذية تمرد المسلمين ضد الإمبراطور المسيحي الإثيوبي من خلال حملة دعاية بثها راديو القاهرة، الذراع الإعلامي المفضل لناصر لاختراق إفريقيا
مواقع التواصل الاجتماعي
مثلت اتفاقية 1959 نقطة بداية التاريخ الحديث لعلاقات نهر النيل، وفي ذلك التوقيت كان مصر قد أنهت بشكل كامل وجودها العسكري في المنطقة بعد نهاية الاحتلال البريطاني واتحاد إثيوبيا مع أريتريا. ورغم ذلك فإن الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر لم يكن غافلا عن أهمية إثيوبيا للأمن القومي المصري، ولكن بدلا من محاولة إخضاعها عسكريا، فإنه حاول العمل مع أديس أبابا سياسيا من خلال إنشاء علاقة دبلوماسية مع حكام البلاد، مستغلا شبكة علاقاته الواسعة التي كونها خلال حياته كضابط عسكري، خاصة خلال فترة خدمته في السودان التي شهدت تفاعلا مكثفا مع المسؤولين الإثيوبيين.
لكن مقاربة ناصر الدبلوماسية فشلت في إقناع الإمبراطور الإثيوبي “هيلا سلاسي” بحسن نوايا القاهرة، حيث كان البلدان منخرطان بشدة في سياسات الحرب الباردة، وتسببت القومية العربية التي تبناها ناصر لزيادة مخاوف إثيوبيا معتبرة تلك الأيديولوجيا تهديدا ضمنيا لنظامها الملكي. وعلاوة على ذلك، كان الإثيوبيون بداهة أفارقة، وليسوا عربًا، لذا كانت أديس أبابا تشك في أي دوافع خفية محتملة ربما كانت توجه محاولات عبد الناصر للتقارب والحوار.
ونتيجة لذلك، اتسعت الهوة بين القاهرة وأديس أبابا بشكل ملحوظ، وبدأ نظام عبد الناصر في تغيير سياسته سعيا لتقويض الحكومة الإثيوبية عبر تغذية تمرد المسلمين ضد الإمبراطور المسيحي من خلال حملة دعاية بثها راديو القاهرة، الذراع الإعلامي المفضل لناصر لاختراق إفريقيا. وفي وقت لاحق، قدمت القاهرة تسهيلات للمتمردين الإريتريين شملت التدريب والدعم العسكري، كما قام ناصر بتغذية الصراع العرقي بين إثيوبيا وجارتها الصومال وقدم دعمه العسكري للصوماليين، ما تسبب في نهاية المطاف في اشتعال نزاع عسكري بين إثيوبيا والصومال في منطقة أوغادين المتنازع عليها مطلع الثمانينيات.
نجحت هذه الجهود في إضعاف الإمبراطورية الإثيوبية بشكل ملحوظ، وتمكن الشيوعيون الإثيوبيون في نهاية المطاف من إسقاط النظام الملكي، لتنتقل السلطة لهيئة عسكرية عرفت باسم “المجلس العسكري الماركسي اللينيني” الذي يشار إليه اختصارا باسم “الدرج”. وبعد فترة قصيرة من الحكم الشيوعي، نجح الجيش الإثيوبي في إلحاق الهزيمة بالصومال بعد أن انحاز الاتحاد السوفيتي لإثيوبيا الشيوعية. وبحلول ذلك الوقت، كان ناصر قد رحل و أصبح محمد أنور السادات رئيسًا، وتغيرت أولويات السياسة المصرية وغرقت إثيوبيا في مشاكلها الداخلية وأهمها حرب الاستقلال مع إريتريا، وهدأت لفترة طويلة جهود البلدين لتقويض بعضهما البعض مع بعض المناوشات المحدودة، أبرزها حين هددت إثيوبيا في عهد الرئيس منجستو بتحويل مجرى النهر احتجاجا على خطط الرئيس المصري أنور السادات باستخدام مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، وتلويحه بإمكانية تمرير المياه للأراضي المحتلة، تهديد دفع السادات للتلويح بإمكانية شن حرب من أجل المياه مؤكدا أنه «من الأفضل أن يموت الجنود المصريون في ساحات المعارك في إثيوبيا بدلا من أن يموتوا من العطش في بلادهم».
انقلاب النيل
رحل السادات وتولى مبارك حكم مصر ليواصل سياسة الهدوء الحذر التي انتهجها سلفه، مع مراعاة الحفاظ على الحد اللازم من النفوذ المصري في إفريقيا وبخاصة في دول حوض النيل، ولكن الأمور تغيرت كثيرا منتصف التسعينيات وتحديدا عام 1995 بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس المصري في أديس أبابا. فخلال السنوات التالية للواقعة، ولت مصر ظهرها لأفريقيا تماما، وفي ظل التراجع المصري، فإن موازين القوى في حوض النيل بدأت تميل تدريجيا بعيدا عن دول المصب لصالح دول المنبع.
في عام 1997 أخذت هذه الدول زمام المبادرة لأول مرة بالدعوة لتنظيم منتدى للحوار، بين الدول المستفيدة من النهر، للوصول لآلية مشتركة للتعاون فيما بينها، وتكللت هذه الحوارات في فبراير/شباط عام 1999 بالتوقيع بالأحرف الأولى في تنزانيا على اتفاقية عرفت باسم مبادرة حوض النيل بمشاركة جميع دول الحوض، بما في ذلك مصر والسودان وباستثناء إريتريا. واشتملت المبادرة على مبادئ عامة مثل حق الانتفاع المعقول من المياه لجميع الدول والتزام كل دولة بعدم التسبب في ضرر جسيم لغيرها من دول الحوض، إلا أنها لم تتطرق لأي من الاتفاقات السابقة المتعلقة بالنيل، فضلا عن الحصص المائية التي كفلتها.
حققت مبادرة حوض النيل نجاحا من عدة جوانب، فتم بموجبها إنشاء أمانة للنيل في عنتيبي، ومكتب للنيل الشرقي في أديس أبابا، ومكتب في البحيرات الاستوائية في “كيغالي” برواندا، بالإضافة لتمويل عدد من المشاريع المشتركة من صندوق المانحين الذي تم تأسيسه لهذا الغرض. ولكن مبادرة حوض النيل -بأطرها العامة- لم تكن قادرة على تلبية طموحات دول المنبع التنموية مع الزيادة المطردة في أعداد سكانها، وتوسع رقعة الأراضي الزراعية، والفقر الشديد في الموارد الطبيعية، وهي عوامل دفعتها لإعادة النظر للنيل كمورد أوحد للتنمية لأجل الزراعة وتوليد الكهرباء، وفي ظل تمسك مصر بحصتها المائية وسياسة الاستعلاء على التفاوض التي مارستها تجاه دول إفريقيا، فقد كسرت هذه الدول الحواجز التاريخية وقررت التصرف بشكل منفرد تمامًا.
وقع الحدث الأهم في مايو/أيار عام 2010 في عنتيبي، حيث اجتمعت أربع من دول المنبع، هي إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا، واتفقوا على معاهدة جديدة لاقتسام موارد النهر، وفي الأسبوع نفسه انضمت كينيا وبوروندي للاتفاقية، وأعلنت جنوب السودان عام 2013 أنها ستنضم إليها لكنها لم تنضم حتى الآن، وتم منح مصر والسودان مهلة لعام واحد للانضمام إليها.
كان اتفاق عنتيبي _قبيل الثورة المصرية بعام_ انقلابا ناعما على الطريقة التي حُكم بها نهر النيل لعقود، حيث صمم الاتفاق بعناية لنقل النفوذ على النهر من دولتي المصب إلى دول المنبع، فبخلاف رفضه تضمين الاعتراف باتفاقيتي عام 1929 و1959 اللتين تقسمان مياه النيل بين مصر والسودان، فتح الاتفاق الباب لإعادة تقسيم حصص المياه بين دول الحوض بما يراعي نسبة إسهام كل منها، وأدخل مفهوم “توزيع المياه العادل” بشكل فعلي للمناقشات المتعلقة بحوكمة النيل للمرة الأولى، والأهم أن الاتفاق ألغى ضمنيا الحظر التاريخي على دول المنبع لإقامة منشآت على ضفاف النيل قد تعوق تدفق مياهه لدول المصب، كما ألغى الفيتو المصري على تلك المشروعات، فلم تعد موافقة القاهرة شرطا للمضي قدما فيها بحال.
رفضت مصر والسودان التوقيع على اتفاق عنتيبي لإخلاله بما يعتبرانه حصصهما التاريخية في مياه النيل، واحتج البلدان بأن الاتفاق خالف مبدأ عدم الإضرار، الذي يعد أحد أهم مبادئ اتفاقية الحوض، فيما تمسكت مصر بالفيتو التاريخي الذي يمنحها حق رفض قيام أي منشأة يمكن أن تعوق تدفق المياه إليها. ولما كانت إثيوبيا قد شرعت مباشرة في إنشاء مشاريع للسدود على النيل الأزرق، كانت مصر تستعد للأسوأ وبدأت بالاستعداد لإرسال قواتها الخاصة للسودان كما ذكرنا للتدخل عسكريا ضد السد حال وصلت المفاوضات لطريق مسدود.
في السياق نفسه، أدركت القاهرة أهمية اكتساب موطئ قدم جنوب السودان حديث الاستقلال، ونقلت رسالة مسربة عن السفير المصري في لبنان أن مصر وقادة السودان الجنوبي اتفقوا على تطوير العلاقات بما يشمل التدريب العسكري. ورغم أن الرسالة لم تفصح عن حجم التواجد العسكري المصري المتوقع في السودان الجنوبي، إلا أنها أعطت إشارة أن النظام المصري كان على استعداد لفعل ما يلزم للدفاع عما يعتبره حقوقا مائية تاريخية، حتى وإن تطلبت الأمور إشعال شرارة نزاع عسكري إفريقي من جديد.
القبضة الإثيوبية
لم تعط الأحداث المتلاحقة أي فرصة لاختبار جدي للنوايا العسكرية المصرية، فمع اقتراب عام 2010 من نهايته، دخلت مصر في دوامة الاضطرابات الخاصة بها إثر انتخابات برلمانية مثيرة للجدل، أعقبتها تظاهرات الربيع العربي التي أبعدت حسني مبارك عن مقعد السلطة الذي شغله لثلاثة عقود. ومع الإطاحة بمبارك استغرقت مصر في جدل الانتقال السياسي الداخلي وانزوى تأثيرها الإقليمي بشكل أوضح، وكانت تلك هي اللحظة المناسبة لإثيوبيا وحلفائها للعمل بشكل سريع وفرض نفوذهم ورؤيتهم كأمر واقع.
فبعد أسابيع قليلة من الإطاحة بمبارك، أعلنت إثيوبيا عن خططها لبناء “سد النهضة العظيم” على النيل الأزرق بتكلفة تبلغ خمسة مليارات دولار، وبهدف إنتاج ستة آلاف ميغاوات من الكهرباء. ولم يكن سد النهضة مشروعًا حديثًا، فهو أحد المشروعات المائية التي اقترحها مكتب الاستصلاح الأمريكي عام 1964 تحت اسم “سد الحدود” لوقوعه على مسافة 15 كم فقط من الحدود السودانية، وتم إحياء المقترح من جديد ضمن خطة إنشائية طموحة لرئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي، من نجح في تحويل بلاده لثالث أسرع اقتصادات العالم نموا وقتها رغم أنها كانت لا تزال تعاني من فقر في البنية التحتية والكهرباء، ما دفعها للسعي لاستخدام قدرتها المائية لتوليد الكهرباء التي تحتاجها البلاد وملأ خزائنها المالية بأرباح تصدير الفائض.
مع تقدم بناء السد، بدأت القاهرة الغارقة في أزماتها الداخلية تنتبه للخطر القريب الذي يهدد أمنها المائي، حيث اتفق رئيس الوزراء المصري الأول بعد الثورة عصام شرف مع نظيره الإثيوبي على تشكيل لجنة دولية لدراسة آثار السد، لجنة أصدرت تقريرها بعد قرابة عامين خلال رئاسة “محمد مرسي” لتوصي بإجراء المزيد من الدراسات الهندسية والمائية لضمان عدم تأثر دول المصب بشكل خطير جراء بنائه. وعلى إثر ذلك أعلن مرسي أنه يتفهم التطلعات التنموية لإثيوبيا، إلا أنه لن يسمح بالمساس بأمن مصر المائي، وبرغم أن حكومة عام “مرسي” الرئاسي لم يبد أنها كانت تمتلك خطة واضحة لمعالجة الأزمة، إلا أن “مرسي” نفسه لم يبق في منصبه كرئيس سوى لعام واحد قبل أن تتم الإطاحة به عبر انقلاب عسكري، لتتولى السلطة حكومة عسكرية يقودها الرئيس الحالي والجنرال السابق عبد الفتاح السيسي، بما لم يسمح بمعرفة مدى جدية نظام ما بعد الثورة المصري المنتخب من عدمه في التعامل مع الأزمة في تلك الفترة القصيرة.
أتى نظام السيسي بقدر كبير من التخبط في تعامله مع أزمة السد، فبعد جولات مطولة من المفاوضات غير الناجحة على مدار عامين كاملين، اجتمع قادة مصر وإثيوبيا والسودان في العاصمة السودانية الخرطوم في مارس/أذار 2015 للاتفاق على ما صار يعرف بـ “وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة”، وهي وثيقة مثلت تحولا دراميا في موقف مصر من خلال اعترافها الضمني بحق إثيوبيا في إقامة سد على نهر النيل، تحول أكده السيسي بعد ذلك بيومين في كلمته أمام البرلمان الأثيوبي.
حوى إعلان المبادئ حزمة من عشر قواعد عامة مثل التعاون وبناء الثقة من خلال إعطاء دول المصب الأولوية في شراء الكهرباء المولدة من السد، ومبدأ عدم التسبب في ضرر جسيم، إلى غير ذلك، ولكنه من جديد، تفادى معالجة القضايا الحساسة حول التقاسم العادل للمياه، وتأثير السد على حصص دول المصب، ومدة ملأ خزان السد وتركها دون حل.
ومع ذلك، كان الاعتراف المصري بالسد كافيا لإثيوبيا للمضي قدما في عملية البناء وحشد التمويل الدولي. واتفقت الدول الثلاث على إسناد المهام الفنية لفحص الآثار المستقبلية للسد إلى شركتين، إحداهما هولندية تدعى “دلتا رس”، والأخرى فرنسية هي “بي آر إل”، قبل أن تنسحب الشركة الهولندية من المشروع قبل بدايته بدعوى عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات بحيادية، لتوكل المهمة بشكل كامل لشركتي “بي آر إل” و “أرتيليا” الفرنسية أيضًا. وكما كان متوقعا، لم يكن بمقدور التقارير الفنية حسم خلاف تاريخي تضرب جذوره في صراعات الجغرافيا السياسية منذ عقود، حيث لم تشعر مصر بالثقة تجاه التقارير الفرنسية في المقام الأول، في حين لم تكن التقارير الفنية بالنسبة لأديس أبابا أكثر من مساحة لكسب الوقت لاستكمال أكبر قدر ممكن من السد، وفرض إرادتها على الجميع.
في ضوء ذلك، لم يكن انهيار المحادثات من جديد أكثر من مسألة وقت، حيث فشل الطرفان في الاتفاق على تفسيرات موحدة حول التقارير الفنية، مما أدى لانهيار المحادثات لفترة قبل أن تُستأنف من جديد. وفي وقت لاحق رفضت إثيوبيا اقتراحا مصريا بإشراك البنك الدولي كوسيط محايد في المحادثات ما تسبب في انهيارها مرة أخرى، ثم اكتمل الأمر بضربة أكبر بعد أن انفجرت التوترات المكتومة بين مصر والسودان بشكل مفاجئ، وبدأت السودان في الانحياز بشكل تدريجي لموقف إثيوبيا، وبدا أن القاهرة أصبحت معزولة إفريقيًا بشكل متزايد بعد أن فقدت حليفها الرسمي الوحيد شديد الأهمية في ملف النيل.

“الأخوة الباردة”

لم تكن العلاقات المصرية السودانية على ما يرام منذ حصول الأخيرة على استقلالها منتصف الخمسينيات، حيث حافظت الدولتان الشقيقتان على حالة من “الأخوة الباردة” لم تمنعهما من الانزلاق لحافة الصراع بين الحين والآخر في أكثر من مناسبة، خاصة بعد الانقلاب العسكري في السودان مطلع التسعينات، وقدوم حكومة مرتبطة أيديولوجيا بجماعة “الإخوان المسلمين”، الخصم التاريخي للنظام المصري.
وقعت أبرز هذه المناوشات منتصف التسعينيات حين اتهمت القاهرة الخرطوم بإيواء ودعم منفذي محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا، ورغم أن العلاقات استعادت حالة الأخوة الباردة بعد سنوات، إلا أنها لم تخل من الحروب الكلامية التي اشتعلت بشكل خاص في الأعوام الأخيرة حول أحقية السيطرة على المثلث الحدودي “حلايب وشلاتين” الواقع تحت السيطرة المصرية، والذي تصر السودان على أنه جزء من أراضيها.
تفاقم هذا الخلاف بشكل خاص مع إعلان السودان رفضها(15) الاعتراف باتفاقية ترسيم الحدود المصرية -السعودية الموقعة عام 2016 والتي نقلت مصر بموجبها السيطرة السيادية على جزيرتي “تيران وصنافير” للمملكة، واحتجت السودان في رفضها بأحقيتها في الاطلاع على الاتفاقية بوصفها شريكا في البحر الأحمر. وردا على ذلك، قامت مصر بتعزيز دعمها العسكري للمتمردين على الحكومة السودانية في دارفور، ودعمت إنشاء علاقات عابرة للحدود بينهم وبين حليفها الليبي الجنرال خليفة حفتر مهددة الأمن القومي السوداني.
يعد البحث عن موطئ قدم في دارفور سياسة مصرية طويلة الأمد، ولكن الحكومة المصرية أصرت على التذرع بأن سياساتها العدائية تجاه السودان تأتي ردا على استضافة الخرطوم للآلاف من الفارين من بطش النظام المصري أعقاب انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013. وكان من الطبيعي أن تلك الديناميات العدائية ستلقي بظلالها آجلًا إن لم يكن عاجلًا على موقف الخرطوم من مياه النيل وسد النهضة، حيث حولت السودان سياستها في هذا الملف بشكل معاكس تمامًا.
في بادئ الأمر، تشاركت الخرطوم ذات الموقف المرتاب للقاهرة تجاه اتفاق عنتيبي والنوايا الإثيوبية لنفس الأسباب المصرية تقريبا، ولكن مع تقدم المفاوضات واستمرار ألعاب النفوذ والاستمالة، وتزايد نبرة العداء من قبل القاهرة، بدأت الخرطوم في تفعيل مقاربة مختلفة تجاه النهر. فمن ناحية، ركزت السودان على ورقة استخدامها للموارد المائية الذي لم يتجاوز 12 مليار متر مكعب في أي عام منذ توقيع اتفاقية عام 1959، بما يعني أن السودان فشلت في استخدام 350 مليار متر مكعب من حصتها المائية على مدار 60 عاما، وقد ذهبت هذه الحصة بالتبعية لمصر، حقيقة انعكست في تصريحات جديدة من نوعها ومثيرة للجدل لوزير الخارجية السوداني أكد فيها أن «سد النهضة سيحفظ حصص المياه السودانية التي طالما ذهبت لمصر».
على جانب آخر، وكما تعلمت الخرطوم بالتجارب الصعبة، لم تكن القاهرة في أي وقت مهتمة بإبرام أي نوع من الشراكة التنموية الفعلية مع السودان، بما في ذلك تجاهل القاهرة مرارا لاقتراحات سودانية لإنشاء مزارع مشتركة للقمح في البلاد، في وقت داعبت فيه القدرة الطاقوية الضخمة لسد النهضة طموحات الخرطوم لسد عجزها من الطاقة الكهربية، البالغ حاليا 40%، بأسعار استيراد كهرباء مناسبة نسبيا، خاصة في ظل وجود البنية التحتية الأساسية للاتصال الكهربائي بينها وبين إثيوبيا، وهي بنية تم تمويلها في وقت سابق من قبل صندوق مانحي مبادرة حوض النيل
إذن خسرت القاهرة حليفها الأهم والوحيد تقريبًا بشكل واضح، ومع ما يمكننا أن نطلق عليه “رعونة سياسية مصرية” في التعامل مع الجار الأهم والأكثر فاعلية، بالإضافة لنبرة الاستعلاء المتمثلة في إهمال واقع من القاهرة للخرطوم، تغيرت دفة السفينة السودانية المتوجهة دومًا _حتى في أوقات التوتر_ للقاهرة، وبدت القبلة السودانية تميل لأديس أبابا كثيرًا، تاركة القاهرة في العراء تقريبًا معزولة بشكل كامل.
حروب البحر الأحمر
مع غياب أي أفق لحل دبلوماسي لنزاع حوض النيل عبر المفاوضات الداخلية بين أطرافه، سعت القاهرة للاستعانة بوساطة بعض القوى الإقليمية من أجل الضغط على إثيوبيا لتقديم تنازلات في مسار المفاوضات، وقد بدأ الأمر عام 2015 حين طلبت مصر وساطة ولي عهد أبوظبي “محمد بن زايد” ليرسل الأخير مبعوثه الخاص “محمد دحلان” لإثيوبيا، ولكن دحلان فشل في إقناع رئيس الوزراء الإثيوبي “هايلي ماريام ديسالين” بالتعهد بالحفاظ على حصة مصر المائية خلال مدة ملء خزان السد، ما دفع السيسي لتحويل وجهته لوسيط جديد، حيث قام بإرسال وزير خارجيته سامح شكري لتل أبيب في مهمة خاصة للقاء نتنياهو تزامنا مع عودته من زيارة لإثيوبيا، وقد طلب السيسي من نتنياهو استغلال نفوذه في أديس أبابا للضغط عليها والحصول على شروط مواتية للقاهرة، وفي المقابل تعهد الرئيس المصري أن تمارس القاهرة ضغوطا على رئيس السلطة الفلسطينية “محمود عباس” بشأن القضية الفلسطينية.
غير أن وساطة نتنياهو لم تفلح هي الأخرى في نهاية المطاف كما يبدو، ولذا فقد استثمرت القاهرة الكثير من المال والنفوذ لتعزيز مواقفها السياسية والأمنية في القارة الإفريقية، وسعت لتقويض الحكومة الإثيوبية عبر بناء شبكات متداخلة من التحالفات في دول حوض النيل والبحر الأحمر، معتمدة على مزيج من الاستثمارات وفرص التعاون الأمني والاستخباراتي والعسكري.
كانت البداية مع إريتريا الخصم اللدود لإثيوبيا ومنفذها الرئيس للبحر الأحمر، حيث قام السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 بتعيين اثنين من ضباط المخابرات العسكرية للعمل مع مكتب الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، وفي نفس الوقت تدفقت الأسلحة من إنتاج المصانع العسكرية المصرية لدعم النظام القمعي في العاصمة الإرترية أسمرة، في حين كان الطرفان يستكشفان إطارا لتنسيق جهود تقويض الحكومة الإثيوبية عبر تقديم الدعم لثورة “الأورمو” وربما للجماعات الإسلامية الأكثر تشددا في إثيوبيا، الأمر الذي استجابت له أديس أبابا بزيادة قواتها على الحدود مع إريتريا، وإرسال تعزيزات عسكرية لمنطقة السد، وتركيب أنظمة رادار روسية وصينية جديدة.
لم يكن انحياز أسمرة للقاهرة مفاجئا على كل حال، فبخلاف عدائها التاريخي تجاه أديس أبابا، كان التقارب مع القاهرة ثمرة لعلاقات طويلة الأمد للسيسي مع الرئيس الإريتري “أسياس أفورقي” حين كان الأول مديرًا للمخابرات الحربية المصرية، علاقة جعلت أفورقي على رأس الحضور في حفل تنصيب السيسي خلال ولايته الأولى، وهو ما يفسر اختيار القاهرة لإريتريا كمركز لتحالفها الجديد غير الرسمي المضاد لإثيوبيا الذي سعت القاهرة لتكوينه واستقطاب دول حوض النيل والبحر الأحمر للانضمام له.
تمثل أوغندا إحدى أهم تلك الدول المستهدفة، وسعت القاهرة لاجتذابها عبر تشجيع رجال الأعمال للاستثمار في البلاد، وبخاصة في قطاع الفنادق النامي في كامبالا، كما قام السيسي، خلال اجتماع في عنتيبي في ديسمبر/كانون الثاني 2016، بعرض خدماته الأمنية على الرئيس الأوغندي “يوري موسيفيني” لمواجهة “تنظيم الدولة الإسلامية” الذي استخدم أعضاؤه أوغندا كممر للحركة عبر إفريقيا، وكذا عرض السيسي التعاون الأمني ضد جماعة “الإخوان” التي تعزز نفوذها في قطاع الخدمات الأوغندي، مستغلا حاجة كامبالا للدعم في أعقاب قرار واشنطن بخفض مساعداتها الأمنية لأوغندا من سبعة ملايين دولار عام 2014 إلى أربعة ملايين دولار في الوقت الراهن.
تعتبر جنوب السودان هي الأخرى إحدى حلقات مسلسل صناعة النفوذ المصري في حوض النيل، حيث واصلت القاهرة إمداد “جوبا” بالأسلحة والذخائر، ووفق ما أوردته دورية “أفريكا إنتليجنس” الاستخباراتية فإن القاهرة قامت في العام الماضي 2017 بتزويد جوبا بالمدفعية وثلاث طائرات و40 دبابة إضافة إلى أسلحة كيميائية، في حين يعتقد أن الجيش المصري شارك في فبراير/شباط العام الماضي بقصف مواقع للحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها نائب الرئيس رياك مشار الخصم الأبرز لـ “سلفاكير”، رئيس جنوب السودان.
وفي المقابل، سعت القاهرة فيما يبدو لإقناع سلفاكير بافتتاح مكتب للمتمردين الإثيوبيين في جوبا، واستخدمت مصر نفوذها للضغط على جامعة الدول العربية لقبول عضوية جنوب السودان فيها. وبالطريقة نفسها، سعى السيسي للحصول على تأييد تنزانيا، التي تمتلك 56% من بحيرة فيكتوريا، ورئيسها “جون ماغوفولي” في حلف النيل، ومع شنه لحملة ضد نشاط الشركات الغربية في بلاده، كان موغوفولي حريصا على الحصول على استثمارات بديلة، وهو ما وفره له نظيره المصري من خلال مصنع ضخم لإنتاج اللحوم وحزمة من الاستثمارات العقارية.
في مواجهة النشاط المصري المتزايد، واصلت إثيوبيا والسودان تنسيق عملهما الإفريقي من خلال استراتيجية مضادة استهدفت الحصول على القوى الإقليمية في مواجهة القاهرة. ومع التدهور المفاجئ في علاقاته مع السعودية، قام الرئيس السوداني عمر البشير بفتح بلاده لتركيا التي استغلت الفرصة لتأسيس وجود لها في جزيرة سواكن على البحر الأحمر، كما قام بمنح الدوحة عقدا بقيمة أربعة مليارات دولار لتطوير ميناء سواكن أيضًا.
“يتحول النيل الهادئ لساحة لمعركة وجودية خسرتها القاهرة في مواجهة الزمن أولا قبل كل شيء، وتخسرها ثانيًا باتخاذها الأساليب الخطأ في الأوقات الخاطئة على ما يبدو”

وردا على الضغوط المصرية لعزل السودان في الجامعة العربية من خلال الضغط لمنح عضوية الجامعة للجنوب السوداني، لجأت الخرطوم للدوحة لاستخدام نفوذها لعرقلة مخطط القاهرة، كما سعت بصحبة أديس أبابا للاستفادة من نفوذ الإمارة الخليجية في القارة الإفريقية لمواجهة جهود القاهرة لعزلهما، وقد استفادا بالأخص من الحضور القوي للدوحة في أوغندا، وهو حضور تم تتويجه العام الماضي باتفاق يسمح لقطر بإنشاء قاعدة عسكرية في البلاد، تبعتها اتفاقية عسكرية سهلتها الدوحة على الأرجح بين الخرطوم وكامبالا.

تسببت هذه الجهود في نهاية المطاف في محو تدريجي للنفوذ المصري في أوغندا لدرجة أن موسيفيني قام خلال اجتماع في مايو/أيار 2017 بتوجيه انتقادات حادة لما وصفه بـ «النهج العقائدي» لمصر في التعامل مع النيل، وفي وقت لاحق رفض موسيفيني عقد اجتماع مع السيسي في ألمانيا واختار في المقابل الذهاب لأديس أبابا.
في الوقت الذي نجحت فيه إثيوبيا الدبلوماسية في تحييد جبهة أوغندا، اختارت أديس أبابا التعامل مع تحالف القاهرة وخصمها اللدود في إريتريا بطريقة مختلفة، حيث صعدت من خطابها ضد القاهرة وأسمرة واتهمتهما بالضلوع بشكل مباشر في دعم تمرد “الأورمو” مشيرة لأن «القوى التي لا تريد أن تستغل إثيوبيا مواردها الطبيعية هي ضالعة بشكل غير مباشر في العنف، من خلال توفير الدعم المالي لمجموعات معينة»، كما خرج في تصريحات رسمية إثيوبية، في وقت زعم فيه رئيس الوزراء الإثيوبي السابق نجاح بلاده في إحباط هجوم إريتري ضد سد النهضة، وبالتزامن من ذلك فإن إثيوبيا ضمنت حيادا سعوديا في مسألة النيل من خلال إقرار خطط لبيع الكهرباء للمملكة عبر جيبوتي واليمن.
وفي خضم واحدة من أكبر حروب البحر الأحمر السياسية الأمنية متضمنة وادي النيل، لم تغب حتى إيران عن المشهد، حيث حرصت إثيوبيا على استقطاب الاستثمارات الإيرانية الساعية هي الأخرى لتعزيز وجودها في شرق إفريقيا. فمنذ زيارة وزير الخارجية الإيراني “علي أكبر صالحي” لأديس أبابا في عام 2012، أصبحت إثيوبيا داعما قويا لإيران، ودافعت عن حقها في التخصيب النووي. وفي المقابل، كانت طهران ضيفا دائما على قمم الاتحاد الإفريقي يدعوة من إثيوبيا التي سهلت إنشاء قسم للغة الفارسية في جامعة أديس أبابا. وفي وقت تسعى فيه أديس أبابا لاكتساب دعم طهران ذات النفوذ الهائل في إفريقيا، فإن دولة الملالي تنظر لدعم إثيوبيا في مواجهة مصر كإحدى الطرق الهامة لموازنة نفوذ الرياض وأبو ظبي، الرعاة الماليين الرئيسين للقاهرة.
مع استقدام القوى الإقليمية للعبة شطرنج النفوذ في حوض النيل، تتعقد الصراعات أكثر وأكثر مهددة بإشعال المزيد من الاضطرابات والتمردات في منطقة هشة أمنية بالفعل. ومع وجود ذلك التماس الجغرافي والجيوسياسي بين حوض النيل والبحر الأحمر، يتداخل الصراع الدائم حول السيطرة على الممرين المائيين، ويتحول النيل الهادئ لساحة معركة وجودية خسرتها القاهرة في مواجهة الزمن أولا قبل كل شيء، وتخسرها ثانيًا باتخاذها الأساليب الخطأ في الأوقات الخاطئة على ما يبدو، وبغض النظر عما يمكن أن تسفر عنه لعبة سياسات النفوذ، تبقى الحقيقة أن أمن مصر المائي أصبح اليوم بعد عشوائية دبلوماسية وأمنية مصرية طويلة المدى في مهب الريح، ويبقى أن جميع خيارات القاهرة القليلة الباقية والمتاحة حاليًا محدودة وعاجزة في مواجهة ملف شديد التعقيد يحتاج لخيارات أقوى وأكثر رحابة بكثير.
الجزيرة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!